يُشكّل الخطاب الإعلامي الغربي أداةً مركزيةً في تشكيل الرأي العام العالمي مستنداً إلى نظريات إعلامية تُحوّل الأفكار إلى سرديات مهيمنة.
في السياق الفلسطيني-الإسرائيلي، تُمثّل السيطرة الإسرائيلية على الخطاب الإعلامي الدولي تحدياً وجودياً، خاصة مع اعتمادها على آليات منهجية تستند إلى نظريات اتصال متجذرة في الأكاديميات الغربية.
تهدف هذه الورقة إلى تفكيك هذه النظريات تحليلياً، وكشف كيفية توظيفها سياسياً لخدمة الرواية الإسرائيلية، مع تقديم رؤية موازية لبناء خطاب فلسطيني قائم على الفاعلية الاستراتيجية، بعيداً عن الارتجالية الشعبوية.
النظريات الإعلامية الغربية وتحليلها النقدي
1- نظرية وضع الأجندة (Agenda-Setting Theory) قدمها ماكومبز وشو (McCombs & Shaw, 1972)
وهي من النظريات التي تعتمد في بنائها الخطابي على لفت الانتباه بالتركيز المستمر فتقوم وسائل الإعلام الغربية بزيادة تدفق الأخبار المتعلقة بقضية معينة دون غيرها ولفت الانتباه لها وجعلها أولوية بما يضمن إعادة تشكيل أولويات الجمهور وهذا ما يفسر كيف يستطيع الخطاب الإعلامي الغربي أو الأنظمة المتحكمة بتدفق الخطاب الإعلامي في صناعة "الأولويات الوطنية" التي تخدم أجندات السلطة وتبرر الحروب.
ويمكننا أن نلاحظ كيف أن الخطاب الإعلامي الغربي يقوم بالاستفادة من هذه النظرية خلال الأزمات الكبرى فيقوم من خلالها على التأكيد على "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، مما يحول الأنظار عن انتهاكات حقوق الفلسطينيين وتهميش العديد من المصطلحات مثل "احتلال" أو "فصل عنصري " وبهذا تتحقق القاعدة الأهم في هذه النظرية وهي أنني لن أحتاج أن سألك بماذا تفكر لكنني أخبرك بما يجب أن تفكر".
2- نظرية التأطير Framing Theory (1993 Entman):
وهي أيضا من النظريات المهمة والتي تعتمد على تشكيل الوعي حول قضية معينة عبر اختيار زوايا عرض محددة كأن يتم تأطير القضية الفلسطينية ضمن قوالب" النزاع الديني" أو "الصراع على الحدود" بدلاً من كونه استعماراً استيطانياً، أو تطهيراً عرقياً كما يحدث اليوم في قطاع غزة مما يُضفي شرعية على الرواية الإسرائيلية.
وبهذا يصبح أسلوب رواية الخبر هو من يحدد كيف يمكن للمتلقي أن يفهمه بعيداً كل البعد عن الحقيقة فنجد أن القدرة على انتاج تصورات ذهنية تربط بين المقاومة الفلسطينية و" الإرهاب" يجعل من إمكانية تقبل العمليات العسكرية الإسرائيلية منطقياً كـ"دفاع شرعي". ويصبح هناك إمكانية لإيجاد مكافئ ذهني عند الجمهور بتقبل العقاب الجماعي ضد الشعب الفلسطيني.
3- نظرية دوامة الصمت Spiral of Silence Noelle-Neumann) 1974):
تعتمد هذه النظرية في بناءاتها الخطابية على إجبار الأفراد عن الامتناع عن التعبير عن آرائهم المعارضة للتيار السائد خوفاً من العزلة وبالتالي يتم تحييد جزء كبير من المثقفين والذين يملكون آراء مختلفة.
وبهذا فإن أي تدفق بصري وخبري عبر وسائل الإعلام الغربية اتجاه تعزيز صورة "إسرائيل كدولة ديمقراطية" هذا يعني أنّ الأفراد الذين يعارضون هذا الرأي يشعرون بأنهم أقلية فيمتنعون عن الحديث.
وبالتالي يعزز صمت هؤلاء وهم أن الرأي المهيمن هو الإجماع وهذا تماماً ما يفسر كيف أنّ النقد العلني لإسرائيل يوسم بـ"معاداة السامية"، مما يدفع الكثيرين لتجنب الحديث عن فلسطين.
4- نموذج الدعاية (Propaganda Model) Herman & Chomsky, 1988
يعتمد الأساس النظري لنموذج الدعاية على تحكّم النخب الاقتصادية-السياسية في الإعلام عبر مرشحات نفوذ مثل التمويل والإعلان فيصبح رأس المال هو المتحكم وهذا ما يبدو واضحاً في طرائق دعم إسرائيل عبر شبكات المصالح المشتركة (مثل جماعات الضغط الصهيونية في واشنطن) ويكشف عن تحالف الإعلام الرأسمالي مع المشروع الاستعماري، مما يجعل "الموضوعية" مجرد وهم ويؤكد القاعدة التي نتحدث بها دائما وهي أن الإعلام ليس حراً … وبأنه مرآة لمصالح مَن يملكون المال والسلطة.
ومن الأمثلة الصادمة لتطبيق هذه النظرية هو دعم الإعلام الأمريكي لغزو العراق 2003 عبر تصوير صدّام حسين كـ"خطر نووي"، بينما كانت الأدلة كاذبة.
5- نظرية الاستخدامات والإشباعات : (Uses and Gratifications) Katz et al. 1973
وتعتمد هذه النظرية في بنائها الخطابي على التحكم بتفاعل الجمهور مع الإعلام بناءً على حاجات نفسية أو اجتماعية وربما هذا ما يفسر كيف ان الخطاب الإعلامي الغربي نجح في تقديم كيان الاحتلال كـ"واحة ديمقراطية في الشرق الأوسط" بما يضمن تلبية حاجة الغرب لتصديق تفوقه الحضاري.
تحليل التوظيف الاستعماري للنظريات الإعلامية في خدمة إسرائيل:
تعتمد إسرائيل على شبكة معقدة من الآليات:
• التأطير المضاد: تحويل الفلسطيني من "ضحية" إلى "إرهابي" عبر تكثيف الصور النمطية في الإعلام الغربي.
• احتكار الأجندة : من خلال تصدير مصطلحات مثل "عملية عسكرية" بدلاً من "مجزرة"، بالاستناد إلى نظرية وضع الأجندة.
• استغلال دوامة الصمت: تصوير أي نقد لإسرائيل على أنه "معاداة للسامية"، مما يُسكت المنتقدين.
• التحالف مع نموذج الدعاية: تمويل منصات إعلامية غربية عبر جماعات ضغط لضمان تغطية متحيزة.
استراتيجيات توظيف النظريات الإعلامية لخدمة الرواية الفلسطينية من خلال الدمج بين النظريات:
1. وضع الأجندة الاستراتيجية وتحديد القضايا الرئيسية التي يجب التركيز عليها، مثل حق العودة، والاستيطان، وحقوق الإنسان.
• إطلاق حملات إعلامية متواصلة لتسليط الضوء على هذه القضايا في وسائل الإعلام الدولية.
• استخدام وسائل الإعلام البديلة ووسائل التواصل الاجتماعي للوصول إلى شرائح أوسع من الجمهور.
• بناء تحالفات مع منظمات حقوق الإنسان والشخصيات المؤثرة لتضخيم صوت الرواية الفلسطينية.
2. التأطير وصياغة الأطر الإعلامية المؤثرة : تطوير أطر إعلامية بديلة للأطر التي تستخدمها إسرائيل، مثل تأطير الصراع كقضية استعمار أو فصل عنصري وليس كصراع ديني فقط.
• استخدام لغة دقيقة ومؤثرة تصف الواقع الفلسطيني بشكل صحيح وتعبر عن المعاناة الإنسانية.
• إنتاج مواد إعلامية مرئية ومسموعة عالية الجودة تستخدم صورًا ورموزًا قوية.
• تدريب المتحدثين باسم القضية الفلسطينية على استخدام الأطر الإعلامية بشكل فعّال.
3. كسر دوامة الصمت:
• من خلال استخدام منصات التواصل الاجتماعي لنشر آراء مؤيدة ل فلسطين بشكل واسع
• دعم وتطوير وسائل الإعلام الفلسطينية لتصبح مصادر موثوقة للمعلومات.
• إنشاء منصات إعلامية ناطقة بلغات متعددة للوصول إلى جمهور دولي أوسع.
• توفير معلومات دقيقة ومحدثة للصحفيين والباحثين الدوليين.
• بناء علاقات قوية مع وسائل الإعلام الدولية والصحفيين الأجانب.
4. مواجهة الغرس الثقافي الإسرائيلي من خلال :
• إنتاج محتوى إعلامي يعكس التنوع الثقافي والإنساني للشعب الفلسطيني.
• تسليط الضوء على الإنجازات الثقافية والعلمية والرياضية للفلسطينيين.
• دعم الفنانين والمثقفين الفلسطينيين الذين يقدمون صورة إيجابية عن فلسطين.
• إطلاق حملات توعية لمكافحة الصور النمطية السلبية عن الفلسطينيين في وسائل الإعلام الغربية.
الخاتمة
لا يكفي تبني الخطاب الفلسطيني لشعارات عاطفية لمواجهة آلة إعلامية إسرائيلية مدعومة بنظريات اتصال متطورة.
فالنجاح بتقديم الرواية الفلسطينية يتطلب تبني استراتيجية ذكية تعيد توظيف الأدوات الغربية نفسها لصالح الرواية الفلسطينية، عبر تفكيكها نقدياً وتحويلها إلى أسلحة فكرية تُعري التناقض بين خطاب الغرب "الديمقراطي" وممارساته الاستعمارية.
وبهذا يصبح الإعلام الفلسطيني قادراً على اختراق الحصار المفروض عليه، وتحويل القضية من صراع محلي إلى قضية عدالة عالمية.