.""الوَطَنُ لَيْسَ مَكَانًا نَعِيشُ فِيهِ، بَلْ كِيَاناً نَعِيشُ مِنْ أَجْلِهِ
في فِلَسْطينَ، لا يُقاسُ الزَّمَنُ بِالعُقُودِ وَالسَّنَوَاتِ، بَلْ بِعَدَدِ المَرَّاتِ الَّتِي فُجِّرَتْ فِيهَا مَدِينَةٌ، وَانْتُزِعَ فِيهَا طِفْلٌ مِنْ أَحْضَانِ أُمِّهِ، وَقَامَ فِيهَا الشُّهَدَاءُ مِنْ تَحْتِ الرُّكَامِ يُرَتِّبُونَ الوَصَايَا، وَيَزْرَعُونَ الحُلْمَ فِي مَدَافِنِ الأَمَلِ.
هُنَا، لا يَفْصِلُ الفِلَسْطينِيُّ بَيْنَ الأَرْضِ وَالهُوِيَّةِ، وَلا بَيْنَ الجُرْحِ وَالوِرَاثَةِ، وَلا بَيْنَ المَوْتِ وَمَعْنَى الحَيَاةِ.
مُنْذُ أَنْ رُفِعَ عَلَمُ الِاحْتِلَالِ الصّهيونيّ عَلَى أَطْلَالِ القُرَى الفِلَسْطينِيَّةِ فِي عَامِ ١٩٤٨، لَمْ تَكُنِ النَّكْبَةُ نِهَايَةً لِقِصَّةٍ، بَلْ بِدَايَةً لِمَشْرُوعٍ استعماريٍّ امبرياليٍّ طَمُوحٍ لِاقْتِلَاعِ شَعْبٍ بِأَكْمَلِهِ.
النَّكْبَةُ لَمْ تَكُنْ حَادِثَةً فِي التَّارِيخِ، بَلْ مَفْهُوماً إِبَادِيّاً يُعَادُ إِنْتَاجُهُ كُلَّ يَوْمٍ، بِأَدَوَاتٍ أَكْثَرَ تَقَنِيَّةً، وَأَقَلَّ خَجَلاً.
١٩٤٨: بَدَايَةُ نِظَامٍ إِبَادِيٍّ وَمَشْهَدٍ لا يَنْتَهِي
لَمْ تَكُنِ المَجَازِرُ الَّتِي ارْتُكِبَتْ فِي دَيْرِ يَاسِينَ، وَقَبِيَّةَ، وَاللُّدِّ وُقُوعاً عَرَضِيّاً، بَلْ مَشَاهِدَ مُؤَسِّسَةً لكيانٍ قَائِمٍ عَلَى أَسَاسِ التَّطْهِيرِ العِرْقِيِّ.
أُرِيدَ لِلفِلَسْطِينِيِّ أَنْ يَتَحَوَّلَ مِنْ شَاهِدٍ عَلَى أَرْضِهِ، إِلَى طَارِئٍ فِيهَا، وَمِنْ صَاحِبِ حَقٍّ، إِلَى "عَائِقٍ دِيمُوغْرَافِيٍّ".
وَلَكِنَّ الفِلَسْطِينِيَّ لَمْ يَسْقُطْ، بَلْ تَحَوَّلَ إِلَى كَائِنٍ يُقَاوِمُ المَحْوَ. وَبَيْنَ هُدْمِ البُيُوتِ، وَسُقُوطِ الأَجْسَادِ، ظَلَّتِ الفِكْرَةُ تَشْتَعِلُ، لَا تَنْطَفِئُ. كَمَا قَالَ غسان كنفاني :
. ""لسْتُ مَهْزُوماً مَا دُمْتُ أُقَاتِلُ، وَتَسْقُطُ الأَجْسَادُ، لَا الفِكْرَةُ
غَزَّةُ: الدَّمُ كَلِمَةٌ تُكْتَبُ فِي وَجْهِ السُّكُوتِ
فِي غَزَّةَ، تُسْتَهْدَفُ الأَجْسَادُ، لَكِنَّ المَعْنَى يَظَلُّ عَصِيّاً عَلَى الاغْتِيَالِ. هُنَاكَ، يُقَاوِمُ النَّاسُ بِأَظَافِرِهِم، وَبِقُوتِ يَوْمِهِم، وَبِالدَّمِ الَّذِي يَسِيلُ مِنْ أَطْفَالِهِم كَمَا تَسِيلُ الحُرُوفُ مِنْ شَاعِرٍ مَجْرُوحٍ.
الوَاقِعُ فِي غَزَّةَ لَيْسَ مَشْهَدًا تِرَاجِيدِيّاً عَابِرًا، بَلْ فَصْلاً فِي كِتَابِ المَذَابِحِ المَسْتَمِرَّةِ.
وَفِي الوَقْتِ الَّذِي تُفْتَحُ فِيهِ جَلَسَاتُ التَّفَاوُضِ، تَكُونُ الأَجْسَادُ مَا زَالَتْ تَنْزِفُ. كَأَنَّ المَوْتَ صَارَ عُمْلَةً تُتَدَاوَلُ عَلَى طَاوِلَةِ المَصَالِحِ، وَكَأَنَّ غَزَّةَ لَيْسَتْ وَطَناً، بَلْ مَلَفّاً.
وَمَعَ ذَلِكَ، تُجَدِّدُ غَزَّةُ عَهْدَهَا، وَتُعِيدُ كِتَابَةَ وَصِيَّتِهَا:
"قتْلَاكَ أَوْ جَرْحَاكَ فِيكَ ذَخِيرَةٌ، فَاضْرِبْ بِهَا، اضْرِبْ عَدُوَّكَ، لَا مَفَرَّ، كُلُّ عَامٍ ١٩٤٨، كُلُّ يَوْمٍ مُقَاوَمَةٌ، كُلُّ لَحْظَةٍ فِلَسْطِينُ حُرَّةٌ".
المُقَاوَمَةُ كَفَلْسَفَةٍ: الحَيَاةُ رَغْمَ المُوتِ
الفِلَسْطِينِيُّ لَا يُقَاتِلُ لِيَنْتَصِرَ فَقَطْ، بَلْ لِيُثْبِتَ أَنَّ الوُجُودَ بِذَاتِهِ هُوَ انْتِصَارٌ. لَا يَمْلِكُ الفِلَسْطِينِيُّ رَفَاهِيَةَ الإِحْبَاطِ، وَلَا سُبُلَ التَّرَفِ السِّيَاسِيِّ، لَكِنَّهُ يَمْلِكُ قَلْباً لَا يَعْرِفُ الخَوْفَ، وَذَاكِرَةً تَحْفَظُ أَسْمَاءَ القُرَى، وَالمَجَازِرِ، وَالمَفَاتِيحِ.
-نَحْنُ لَا نَنْتَصِرُ عَلَى العَدُوِّ، بَلْ عَلَى أَنْفُسِنَا حِينَ نَرْفُضُ الهَ