Menu

خداع صهيوني جديد: مسرحية إدخال فتات المساعدات؟

جمال كنج

الهدف الإخبارية

ما تروّج له إسرائيل من “سماح محدود” بدخول الغذاء إلى غزة لا يُعدّ تحولًا إنسانيًا، بل هو خطوة تكتيكية هدفها التضليل لترويض الضغط الدولي، لا التخفيف من معاناة السكان. الكميات الرمزية من المساعدات لن توقف انتشار سوء التغذية بين الأطفال، ولن تُحدّ من التدهور الصحي لدى كبار السن، فما يجري هو تجسيد صارخ لاستخدام التجويع كسلاح في حرب إبادة جماعية أمام عالم عربي صامت.

وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، صرّح بوضوح أن الهدف من المساعدات المحدوده هو للحفاظ على “مظلّة دولية” تحمي إسرائيل من المساءلة، ولم تمر ساعات على الإعلان عن دخول بعض الشاحنات حتى شنّت إسرائيل واحدة من أعتى مجازرها في غزة، أسفرت عن استشهاد أكثر من 500 فلسطيني خلال ثلاثة أيام.

ما يُسمّى بالمساعدات المحدودة لا يمثل تغييرًا في النهج المتبع، بل تأكيدًا على استمرار الوحشية المنهجية في العقيدة الصهيونية: إيقاع أقصى درجات الألم، ثم تقديم الحد الأدنى لتفادي الانفجار الشعبي أو لتجنب الضغط الدولي، إنها محاولة لتجميل الحصار بطلاء زائف.

لقد تحوّلت هذه الخطوات إلى مناورة سياسية مكشوفة: فرض معاناة قاسية، يتبعها تراجع محسوب تحت شعار “الاعتبارات الإنسانية”، بينما تبقى مفاتيح الحياة والموت بيد الاحتلال. فـ”التخفيف المؤقت” لا يوقف جرائم الحرب، بل يواكب تصعيدها، كما نشهد في شمال غزة. الفرق الوحيد: القتل يتم هذه المرة لبطون شبه ممتلئة، لا خاوية.

وللتذكير، فإن إسرائيل هي من انتهكت وقف إطلاق النار الأخير، كما اعتادت خرق القانون الدولي في كل مراحل هذه الحرب الإبادية، ولا شيء يشير إلى أنها لن تعيد تشديد الحصار بمجرد انحسار الضغط السياسي، فقد حافظت على مدار عشرين شهرًا على نمط “حصار متقطّع” (كرّ وفرّ)، استخدمت فيه الغذاء والدواء كسلاح للعقاب الجماعي.

أما تبرير سياسة التجويع بأنها “مشكلة لوجستية”، فليست سوى محاولة فجة لإعادة تصنيف جريمة حرب إلى خلل إداري، وهذا ليس بجديد؛ إذ كشفت وثائق إسرائيلية سرية عام 2012 أن السلطات كانت تحري تجارب حيث تحدد عدد السعرات الحرارية اليومية المسموح بها للدخول إلى غزة بما يكفي فقط لإبقاء أهالي غزه أحياء من غير الوصول إلى مرحله المجاعه الكامله—في محاكاة مرعبة لتجارب النازيين في معسكرات اعتقال اليهود أثناء الحرب العالميه الثانيه.

واليوم، بالتنسيق مع الولايات المتحدة، تطرح إسرائيل فكرة إنشاء “مراكز توزيع” للمساعدات في مناطق خاضعة لسيطرتها العسكرية جنوب غزة، بذريعة منع الفوضى. لكن الواقع يكشف أن إسرائيل هي من افتعلت هذه الفوضى سابقًا، لإفشال وصول المساعدات. و وجود جيش الاحتلال لا يجلب النظام، بل سبب الفوضى و يكرّس اليأس ويعمّق آثار التجويع المتعمّد.

المفاوضات الجارية بين الولايات المتحدة وإسرائيل بشأن ما يُسمّى “مناطق توزيع آمنة” ليست سوى امتداد لذات السياسة الهمجية، الهدف الحقيقي ليس التخفيف من المعاناة، بل إحكام السيطرة وتعميق الإذلال، من خلال دفع النازحين للتجمع عند نقاط توزيع خاضعة لهيمنة الجيش الإسرائيلي، حتى تتحوّل هذه المراكز إلى مصائد بشرية—تمامًا كما تحوّلت المستشفيات في الماضي إلى ساحات لاعتقال المرضى وقتلهم.

حتى يوم الثلاثاء 20 مايو، سمحت إسرائيل بدخول خمس شاحنات مساعدات فقط—أي ما يعادل 0.8% من الكمية المطلوبة لإطعام 2.3 مليون إنسان، ومع ذلك، لم تُوزَّع أي من هذه المساعدات حتى الآن، بسبب عراقيل “لوجستية” افتعلها الجيش الإسرائيلي في اللحظة الأخيرة، هذا المشهد يذكّرنا بما سمّي “الرصيف العائم” الذي روّجت له إدارة بايدن–بلينكن: استعراض فارغ لصرف الأنظار عن حقيقة الحصار، وبينما يحاول ترامب تقليد بايدن، يذهب نتنياهو أبعد من ذلك، فيحوّل هذا الاستعراض إلى أداة لتخدير الجوعى وتخفيف الضغط الدولي—من دون اتخاذ أي خطوة نحو رفع الحصار.

إن اختزال الحصار إلى “مشكلة لوجستية” هو جزء من حرب السرديات، يطمس الحقيقة، ويُضعف الإحساس بالمسؤولية، ويُخدّر الضمير العالمي. فعندما تُقدَّم جريمة التجويع كخلل إداري، تصبح قابلة للإصلاح عبر قضيه تنسيق اكبر، بدلًا من محاسبة المسؤولين عن قرار سياسي متعمّد.

وفي مقال سابق، كنت قد حذّرت من أن إطلاق سراح الجندي الأمريكي–الإسرائيلي قد يُفهم في تل أبيب على أنه استحقاق، لا بادرة حسن نية، وقد أكدت الأيام هذه المخاوف؛ إذ كثّفت إسرائيل قصفها للمدارس والمراكز المدنية في غزة بعد الإفراج عنه، وقتلت خلال خمسة أيام فقط أكثر من 600 مدني، ووفقًا لنهج نتنياهو المعتاد، فُسِّر هذا الإفراج على أنه تعبير عن ضعف، لذلك دفعت حكومته إلى تصعيد الإجرام بمعدل قتل فلسطيني كل 12 دقيقة.

الحصار المفروض على الغذاء والماء والدواء في غزة ليس خللًا في التنسيق، بل هو قرار سياسي صريح، ويُسوَّق على أنه “مشكلة فنية” ليس فقط بهدف التضليل، بل ضمن خطة ممنهجة لتجنيب إسرائيل أي مسؤولية قانونية.

لذا، فإن إدخال بعض المساعدات المحدودة لا يبرّئ الاحتلال من جريمة التجويع، ولا يحق لأي طرف التفاوض على إدارة الجوع، فالتجويع ليس نتيجة جانبية للحرب، بل هو أحد أسلحتها، والرد الأخلاقي والإنساني الوحيد على هذه الجرائم هو المحاسبة، أما ”الحجج البيروقراطية”، فليست إلا محاولة لتبييض جريمة حرب أباده جماعية مكتملة الأركان.