Menu

خيار البقاء

سعاده مصطفى أرشيد

لا زال بنيامين نتنياهو مندفع بقوة نحو تصعيد الاشتباك في غزة لا لتحقيق أهدافه المعلنة فحسب من هذه الحرب وانما لتحقيق الاهداف غير المعلنة (اسرائيليا) وانما المعلنة امريكيا على لسان الرئيس الامريكي دونالد ترامب الذي تحدث عن تهجير أهل غزة بداية إلى الأردن و مصر ومؤخراً إلى ليبيا وتحويل غزة إلى منطقه استثماريه عقارية سياحية فالتهجير الكامل هو الهدف الذي يريده نتنياهو في نهاية هذه الحرب ولعله لا يبالي في باقي الاهداف المعلنة والتي ليست أكثر من اعلانات علاقات عامة وجذب للناخبين.

الجديد ان نتنياهو قد بدا و كانه قد اهتز وذلك بسبب فك ارتباطه العضوي والشخصي مع الإدارة الأمريكية وشخص الرئيس دونالد ترامب والتي بقيت حتى فترة قصيرة داعمة له باعتباره منسجما لا بل متطابقا معها في الرؤى والتصور، ولكن هذا الانسجام قد تورم وتضخم في عقل نتنياهو لدرجة جعلته يظن نفسه شريكا لا تابعا أو انه قائد المركبة التي يلتحق بها الامريكان، وهو ما لا تقبله الولايات المتحدة كدولة وما لا يقبله كذلك رئيسها النرجسي المعجب بنفسه، فأخذت الإدارة الأمريكية بقرار فتح حوار مع طهران والتي لا يرى نتنياهو أي إمكانية للاتفاق معها بل يرى ان السياسة الوحيدة الواجب اتباعها مع ايران لن تكون إلا سياسة الحرب الواسعة، كما أن صمود اليمن و قدرته على تعطيل الملاحة البحرية في البحر الأحمر والجوية في فلسطين المحتلة يضاف إلى ذلك عدم تأثير الضربات الامريكية و (الاسرائيلية) على عزيمته أو قراره بمواصلة الاشتباك إلى أن تتوقف الحرب على غزة، جعلت من الادارة الامريكية لا ترى بدا من فتح حوار مع صنعاء وبما ادى إلى فك ارتباط السياسات الامريكية بالبحر الأحمر بسياسات اسرائيل، ثم اخذت بقرار العمل على الافراج عن الاسير المزدوج الجنسية عيدان الكسندر باعتباره يهودياً من الدرجة الأولى الممتازة حيث يحمل الجنسية الأمريكية وغابت تل أبيب عن برنامج زيارة ترامب للمنطقة، و لكن العلاقة بين الولايات المتحدة واسرائيل استراتيجية وتتجاوز القضايا الشخصية و المشاعر التي يكنها ترامب لنتنياهو، و هذا بدوره يملك القدرة والمهارة و كثير من البراغماتية بما يجعله قادراً على الانحناء و التلون عند الحاجة مع ملاحظة أن ما يفعله و يريده في غزة في النهاية يتطابق مع ما يريده ترامب وان ظهر خلاف في نقاط ثانوية كقضية الرهائن.

أوروبا بدورها أظهرت انها قد اصبحت  تضيق ذرعا بما يجري في غزة من مذابح فاقت القدرة على الاحتمال واصبحت المظاهرات الضخمة تملا شوارع عواصمها كل يوم والمتظاهرين المحتجين هم من مواطنيها مما جعل مسالة المجزرة في غزة تكاد  تصبح امرا داخليا لكل دولة أوروبية هذا ما دفع اوروبا إلى الاعلان عن رغبتها  بالبحث ان كانت اسرائيل قد تجاوزت حقوق الانسان الواردة بالبند الثاني من اتفاقية الشراكة التجارية مع دولة الاحتلال أم لا، وجدير بالذكران أوروبا هي الشريك التجاري الأول لدولة الاحتلال، و لكنها بهذا الاعلان لا تريد أكثر من تهدئة الأجواء الداخلية لديها والتخفيف من حدة المظاهرات، و لكنها في بحثها عن تجاوزات اسرائيل التي ستأخذ وقتا طويلاً تكون قد منحت اسرائيل مهلة اضافية من الوقت للاستمرار في حربها، و تل أبيب تعاملت بسخرية مع هذا القرار لمعرفتها إلى أين يمكن للأوروبيين ان يصلوا.

كان نتنياهو محاصراً قبل الحرب ويحاول إجراء تغييرات في النظام القضائي بشكل مرفوض من عموم الشارع (الاسرائيلي) كما حاصرته قضايا الفساد التي قد تذهب به إلى ما وراء قضبان السجن إلا أنه أثبت قدرته على تحدي هذه الضغوط بسبب قدراته الاستثنائية على التعامل مع الشأن الداخلي وحصوله على الدعم الامريكي غير المحدود وهزال القدرة السياسية لأوروبا وهو اليوم ولا شك قد أصبح أضعف من اي وقت مضى، ولكن هل هذا كاف لرحيل سريع؟

تربع نتنياهو على قمة الهرم لفترة تفوق كل رؤساء الوزراء السابقين، وامتلك من القدرة على البقاء في مواجهة خصومه في المعارضة وفي ائتلافه الحاكم، ثم أمام الاحداث الاقليمية والدولية العاصفة، لم ترهبه قضايا الفساد شبه المؤكدة ضده و لا الشائعات التي تمس اسرته وخاصة زوجته، و اليوم تكمن مشكلة دولة الاحتلال الداخلية في مسالتين، الأولى في الصراع بين الصهيوني الديني التوراتي و بين الصهيوني اللبرالي الوسطي العلماني، فالأول اكثر عدداً و قادر بحكم أغلبيته العددية على فرض السياسات التي يريد، و الآخر الذي أقام المشروع الصهيوني وقاده  منفرداً منذ بداياته في نهايات القرن التاسع عشر حتى عام 1977، عندما حصل أول تبادل للسلطة بفوز اليمين بالانتخابات، ودارت المعارك الانتخابية سجال بين الفريقين، إلا أن العقد و النصف الماضي كان من حصة اليمين و اليمين الأكثر تطرفاً، فيما تبدو مصائر الليبراليين و كأنهم ذاهبون نحو الانقراض، نتنياهو هو قائد اليمين ولكن بعقلية الليبرالي الذي يوازن بين مطالب المتطرفين من جانب وبين تأمين بقاء الدولة و بين بقاءه الشخصي و كأنه الملك شاؤول، ولا يوجد في دولة الاحتلال أية شخصية تبدو قادرة على الحلول محلة.

مشكلة دولة الاحتلال انها تفتقد اليوم لشخصيات بارزة قوية قادرة على القيادة كما كان يحدث في السابق، شخصيات من أمثال بن غوريون وموشي شاريت وغولدا مئير وديان ورابين وبيرس أو في اليمين أمثال مناحيم بيغن واسحق شامير، اليوم لا يوجد إلا شخصيات باهته فيما القادر الوحيد هو نتنياهو، الذي علينا تقدير أنه باقي بالحكم ربما حتى إكمال الدورة البرلمانية.

هذا ما يعني مزيد من الدم في غزة والمصادرة والتهجير بالضفة الغربية وخلق مشاكل للأردن ومزيد من التدخل بالشام ولبنان، فكيانات الأمة كلها ستكون في دائرة الاستهداف، فيما يتمزق الوطن ويصل إلى الحكم من صنعه العدو بإتقان وليس أمام الأمة الا خيار البقاء أو الفناء، وقد اخترنا الأول.