حرب الإبادة على غزة ولبنان لم تتوقف، ولم تضع أوزارها بعد، بالرغم من هُدن وقف إطلاق النار المزعوم. إتفاقيات وقف إطلاق النار لم تكن موثوقة، ولا مستقرة، بل أخذت مجراها بفعل ظروف وعوامل مختلفة، محلية، وإقليمية، وعالمية. خلال هذه الحرب الوحشية، مارس الكيان الصهيوني، مدعوما من شركائه في الولايات المتحدة والدول الأوروبية، عدواناً غير مسبوق، هدف إلى إبادة الشعب الفلسطيني وتدمير كل مقومات الحياة في قطاع غزة وفي أنحاء مختلفة من الضفة الغربية. واصبحت معظم المناطق المستهدفة غير صالحة للسكن والإقامة. وتوسعت دائرة الحرب الوحشية لتشمل العديد من القرى الحدودية والمدن اللبنانية المختلفة بما في ذلك العاصمة بيروت، محدثة دماراً هائلاً في المباني السكنية ومنشآت البنى التحتية بهدف إسكات المقاومة اللبنانية ومنعها من أعمال المساندة والدعم للشعب الفلسطيني. وشملت الحرب على لبنان عمليات خداع واسعة النطاق من أجل إحداث أكبر قدر من عمليات الإغتيال والتصفية الجماعية من خلال تفخيخ أجهزة التواصل اللاسلكية. أيضاً، قامت قوى تحالف الشر، بقيادة الولايات المتحدة، باستهداف اليمن وسوريا، وأحدثت دماراً هائلاً أدى إلى خسائر بشرية ومادية فادحة في الدولتين. وكانت ذروة الهجوم إنهيار النظام السوري وخروجه من دائرة المواجهة مع الكيان الصهيوني. وفي اليمن استمر قصف وتدمير المنشآت الحيوية في بلد أنهكته الإعتداءات. وهكذا يستطيع المراقب أن يرى كيف أن قوى محور الشر، الذي يضم إلى جانب الكيان الصهيوني، الولايات المتحدة وبريطانيا وعدد من الدول الأوربية ذات الإرث الإستعماري البغيض وبعض الدول العربية، توزعت الأدوار في حربها على أطراف ما يعرف بمحور المقاومة، بهدف منع القوى والشعوب العربية من مساندة الشعب الفلسطيني أو التضامن معه، والوقوف إلى جانبه. وجملة القول، أن دول محور الشر تتحرك فوراً، وبدون تردد، للدفاع عن الكيان الصهيوني، وتمنع بالقوة والعنف المفرط أي فرد أو جماعة من مساندة الشعب الفلسطيني أو المطالبة بفك الحصار عن غزة، مثلاً. وقد شملت تلك المواقف التعسفية أيضاً طلاب وأساتذة في بعض الجامعات الأمريكية حيث تم إعتقال البعض، وإبعاد أخرين خارج الولايات المتحدة بسبب مواقفهم التضامنية مع حقوق الشعب الفلسطيني وإدانتهم لحرب الإبادة العنصرية. وبالرغم من الإتفاقيات المنعقدة بين أطراف المقاومة والكيان الصهيوني برعاية عربية ودولية، إلا أن العدو لم يلتزم ببنود تلك الإتفاقيات سواء في قطاع غزة أو في جنوب لبنان. وفي غمرة هذه الأحداث، ينبغي التوقف قليلاً والنظر إلى ما حدث وما زال يحدث، من أجل استخلاص العبر والدروس من جولات المفاوضات والقتال الذي عاد إلى الواجهة سريعاً. ويمكن الإضاءة على بعض النقاط الهامة، بهدف المعرفة ولفت الإنتباه، وليس بهدف إعطاء الدروس للمقاومين الأبطال الذين يديرون المعارك والمفاوضات بكفاءة عالية، ويقدمون التضحيات الجسام من أجل النصر والحرية ودحر العدوان:
الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني في قطاع غزة كان ملفتاً للنظر. هذا الصمود والتمسك بالحقوق الوطنية لم يتغير طوال تاريخ الشعب الفلسطيني في مقاومة الإحتلال منذ بداية الإحتلال البريطاني وحتى حرب الإبادة في غزة. وقد بينت هذه الحرب البشعة إستعداد الشعب الفلسطيني بكافة فئاته على الصمود والتضحية بتقديم الغالي والنفيس في سبيل الدفاع عن الأرض والحقوق الوطنية الراسخة. من ناحية أخرى ترافق هذا الصمود مع وحدة القوى والفصائل المقاتلة في قطاع غزة. هذه الوحدة في الميدان والتلاحم البطولي بين كافة القوى المقاتلة حققت إنجازت مذهلة، بالرغم من عدم تكافوء القوى مع العدو، ومنعت جيش الإحتلال بكل وحشيته وعتاده الحربي، المصنع في أمريكا، من تحقيق أهدافه المعلنة والمخفية على حد سواء. وينبغي أن يشكل هذا الصمود الإسطوري للشعب الفلسطيني وهذه الوحدة الميدانية حافزاً للقوى والفصائل الفلسطينية المختلفة، في الداخل والخارج، لتلافي الإنقسامات المقيتة وإستعادة الوحدة الوطنية على ذات الأسس التي جمعت الفصائل في الميدان. فالعدو واحد والهدف واحد. وهذا يتطلب من القوى والفصائل الوطنية، أيضاً، العمل الجاد والحثيث على تأمين صمود السكان بالحد الأدنى، ومنع مظاهر الفساد والتجاوزات التي تضر بمسيرة الشعب الفلسطيني النضالية.
الحرب خدعة. خلال هذه الحرب مارس العدو الصهيوني خدعاً كثيرة بعضها نجح، وكثيراً منها كان مصيره الفشل. وهذا الموضوع على أهميته يتطلب الإنتباه التام، وعدم الثقة بما يطرحه العدو من أفكار وحلول تضليلية. وقد أظهرت هذه الحرب حجم الخداع الذي مارسه العدو في مواجهة المقاومة في لبنان، وأدت إلى اختراقات كبيرة وخسائر فادحة. وقد مارس العدو الكذب على الطريقة النازية، التي تقول أكذب وأكذب وأكذب، حتى يصدقك الناس. وقد مارس العدو الكذب على شعبه في قضية الأسرى الصهاينة، كما مارس الكذب في الدعاية الإعلامية لكسب تعاطف الرأي العام. وكان يماطل في المفاوضات. وفي كل مرة كان يختلق الأكاذيب المضللة بهدف كسب الوقت. وينبغي القول هنا أن المفاوضين الفلسطينيين وبالتنسيق مع القادة الميدانيين أولوا هذا الجانب إهتماماُ كبيراً أدى إلى إفشال مخططات العدو، بالرغم من الضغوط الهائلة التي تعرضوا لها. وينبغي على القوى الفلسطينية التمسك بخياراتها وعدم الوثوق بهذا العدو ووعوده، ووعود وكلاؤه الدوليين والمحليين. وقد ظهر جلياً موقف العدو الصهيوني المخادع، دون إعتراض شركاؤه المحليين والدوليين، من خلال الإنقلاب على إتفاقيات الهدنة في لبنان وغزة ورفضه الإنسحاب من الأراضي اللبنانية المحتلة، وعدم إلتزامه بإدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة. على كل حال، على أطراف المقاومة استحداث خطط مواجهة مرنة، تأخذ بالإعتبار حقيقة عدم تكافوء القوى العسكرية مع العدو، وإيقاع أكبر الخسائر في صفوفه، آخذين بالإعتبار أهمية الخدعة الحربية، وضرورة اقتناص الفرص في توجيه الضربات الموجعة، كما يفعل العدو نفسه.
المواقف المشرفة للمقاومة اللبنانية والشعب اللبناني، وللشعب اليمني وقيادته السياسية وانخراطهم في المقاومة من أجل مساندة الشعب الفلسطيني وفك الحصار عن غزة، وتحملهم نتائج الإعتداءات الوحشية التي أسفرت عن خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات. إن الشعب الفلسطيني يقدر هذه المواقف ولا ينسى من وقف إلى جانبه خلال حرب الإبادة. وينبغي مواصلة حث القوى الوطنية في الدول العربية من أجل رفع الصوت عالياً ضد حرب الإبادة، والتنبيه على أن هذه الحرب تستهدف أيضاً بلادهم وتستهدف مستقبلهم.
وحدة محور الشر وسرعة تحركه. لقد أظهرت هذه الحرب مدى إرتباط قوى محور الشر مع الكيان الصهيوني، ومشاركة تلك القوى بالقتال دفاعاً عن هذا الكيان النازي. وينبغي القول أن هذا الكيان يمثل المصالح المشتركة لدول محور الشر المحليين والدوليين. وهي مصالح سياسية وإيديولوجية وإقتصادية وإجتماعية. وهذه الدول تعمل على تحقيق مصالحها والدفاع عنها، بصرف النظر عن حجم الخسائر والضحايا، ودون الإلتفات إلى الشعارات الإنسانية والروابط القومية والدينية. بينما العدو يستعمل أبشع أسلحة الدمار أمريكية الصنع في حرب الإبادة، إلا أن العين تبقى على الإستثمارات الضخمة سواء في الغاز الكامن في بحر غزة، أو القناة البحرية للخط التجاري المزعوم المنافس لطريق الحرير، أو حتى للمشاريع الوهمية التي تدّعي تحويل غزة إلى سنغافورة أو ريفيرا الشرق الأوسط. وهذه المزاعم والأوهام تسقط أمام صمود الشعب الفلسطيني ووحدة قواه الوطنية، وإنهاء الإنقسامات السياسية السخيفة. وينبغي تصنيف هذه القوى في خانة العدو، والتعامل معها كما يتم التعامل مع الكيان الصهيوني، من ناحية الإستهداف وضرب مصالحهم في المنطقة حتى يمتنعوا عن المشاركة مع الكيان الصهيوني في حرب الإبادة.
ضعف محور المقاومة والممانعة. لقد أظهرت حرب الإبادة الوحشية في غزة، ولبنان، واليمن ضعف محور المقاومة وتردده، وعدم قدرته العملية على مواجهة العدوان الصهيوني وشركائه مواجهة مباشرة. وهذا الضعف أدى إلى الإستفراد بقوى المقاومة كل على حدة. بينما قوى محور الشر تتحرك ككتلة واحدة مستغلة كافة الظروف وبدون أدنى احترام للمعاهدات والمواثيق الدولية. ولا شك أن القوى بين المحورين غير متكافئة البتة. لقد أدى العدوان الوحشي ضد أطراف المقاومة إلى انهيار قوى المحور في المواجهة مما يشير إلى عدم استعدادهم الكافي والجدي للمواجهة، كما أدى إلى تحييد سوريا وإخراجها من دائرة الصراع مع العدو ومن محور الممانعة ودورها الداعم لقوى المقاومة.
ضعف الدول العربية. بالمقابل فإن الدول العربية الأخرى قد بان ضعفها وعجزها وتخاذلها أمام العدوان الصهيوني على غزة ولبنان واستمرار حرب الإبادة لمدة تزيد عن 15 شهراً. مع إلتزام كامل بالصمت. وهذا العجز ينطبق على جميع الدول منفردة، كما ينطبق عليها مجتمعة كمنظومة دولية منضوية في مؤسسة قومية، هي جامعة الدول العربية. إلا أن هذه الحرب أظهرت فشل هذه المؤسسة وغياب أدنى تأثير لدور المنظومة العربية على المستوى الدولي. كما أظهر أن وظيفة هذه المؤسسة ودورها البائس كما هو مقدر لها في التموضع داخل الصراعات الداخلية وتنفيذ القرارات الأمريكية.من ناحية أخرى، فإن الدول العربية الراعية لإتفاقيات الهدنة ووقف إطلاق النار، أظهرت دوراً ملتبساً وضعيفاً لا يمكن الركون إليه، على الأقل بسبب عدم قدرتها على إلزام الكيان الصهيوني ببنود الإتفاقيات التي تمت على أراضيها وبرعايتها. كذلك النظرة الملتبسة لهذه الدول التي تتصرف وكأنها محايدة، وتساوي بين المعتدي والمعتدى عليه.
تعذيب الأسرى والمعتقلين بوحشية، والتعامل معهم بقسوة مفرطة، مع توجيه الإهانات لهم، والضغط النفسي والترهيب، وتجويعهم وحرمانهم من العلاج، والإغتصاب، وأسر الجثث كما حصل مع جثة الشهيد وليد دقة وغيره. هذه الأفعال مدروسة وعن سابق تصميم. وهذه السياسة النازية ليست غريبة على دول محور الشر أيضاً، فقد مارست الولايات المتحدة وحلفائها صنوفاً من التعذيب تندى له جبين البشرية. ولعل الممارسات الوحشية في سجن أبو غريب ومعتقل غوانتانمو هي أبلغ دليل على تلك الممارسات الوحشية. لقد كشفت هذه الحرب مستوى الكذب والنفاق الذي تتميز به العديد من المنظمات الإنسانية التي تنادي بحماية حقوق الإنسان والدفاع عن الحريات العامة والأقليات وغير ذلك من الشعارات الفارغة، بينما بقيت صامتة أمام الإنتهاكات الصهيونية لحقوق الشعب الفلسطيني والممارسات الوحشية العلنية ضد المدنيين العزل، وموظفي القطاع الصحي، وغيرهم من الأسرى الفلسطينيين. هذه الجماعات لا تتردد بالكذب وترديد الدعاية الصهيونية والمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين الصهاينة لدى المقاومة في غزة، دون شروط، بينما تتجاهل الممارسات الوحشية التي يمارسها الكيان الصهيوني ضد آلاف المعتقلين الفلسطينيين في سجون الإحتلال.
التغيرات السياسية في الشارع، وفي الجامعات على المستوى الدولي. لقد تركت حرب الإبادة في غزة أثراً مهماً في الشارع الغربي بشكل خاص. لقد تحرك طلاب الجامعات، وقوى شعبية أخرى، في الولايات المتحدة والدول الأوروبية وبلدان مختلفة في العالم، وقادوا المظاهرات الصاخبة دعما للشعب الفلسطيني وضد حرب الإبادة. غير أن دول محور الشر لم تتراجع عن دورها أمام ضغط الشارع المحلي، بل على العكس، تم قمع التحركات الطلابية بقسوة، كما حصل في جامعة كولومبيا بنيويورك وغيرها من الجامعات. لكن تحرك الطلاب والقوى الشعبية المساندة ترك أثراً مهما سوف يؤدي إلى تغيرات كبرى في المستقبل. عموماً، هذا الحراك الدولي أظهر أيضاً بوضوح الموقف السلبي للدول العربية التي منعت مثل هذه التحركات حتى ولو كانت شكلية أو رمزية. وعليه، ينبغي على كافة القوى الفلسطينية السياسية والشعبية تعميق التواصل مع هذه القوى الجديدة من أجل إعلاء الصوت في الشارع الغربي ضدد ممارسات العدو المنافية لأدنى المستويات الإنسانية.