Menu

حماس ما بين مطرقة الاتفاق وسنديان الشعب

ثائر أبو عياش

 

في اللحظة التي يُعرض فيها على حركة حماس اتفاق هدنة مشروط من قبل المبعوث الأميركي ويتكوف، تصبح السياسة في غزة أكثر تعقيدًا من مجرد مفاوضات بين طرفين، إذ تدخل الأخلاق والدم والمستقبل في صلب القرار.

بنود الاتفاق، وإن بدت لأول وهلة وكأنها استراحة من أهوال الحرب، تكشف عند التدقيق عجزها عن تقديم ضمان حقيقي لوقف دائم لإطلاق النار، وهو المطلب الجوهري الذي تصر عليه حماس علنًا.

ما يطرحه الاتفاق ليس أكثر من هدنة مؤقتة مشروطة، تمتد على ستين يومًا، تعود بعدها المفاوضات في ظل اختلال موازين القوى، وتحت ضغط دمار شامل لم ينجُ منه لا البشر ولا الحجر في قطاع غزة.

في هذا السياق، لا يُعقل أن يُفهم موقف حماس على أنه تصلب أو عرقلة لفرص السلام، بل يجب أن يُقرأ ضمن معادلة دقيقة تحاول فيها الحركة أن توازن بين حماية شعبها من الفناء، وصون مشروعها السياسي والمقاوم من التآكل أو الاحتواء.

من السهل إطلاق الأحكام من خارج الميدان، أما من بداخله، حيث يُقتل الأطفال يوميًا ويُدفن الناس أحياء تحت الركام، فإن القرار يصبح أشبه بالمشي على حد السيف. هنا بالضبط تبرز الإشكالية الأخلاقية والسياسية لحماس، فهي ليست فصيلًا معزولًا يبحث عن مكسب تفاوضي، بل حركة مقاومة تمثل شريحة واسعة من شعبها، وتتحمل أمامه مسؤولية مضاعفة: حماية الأرواح، وحفظ الكرامة.

ومن هذا الباب، لا يمكن تحميل الحركة عبء الفشل الدولي في ردع آلة الحرب الإسرائيلية، ولا وصمها بالعداء لشعبها، وهي التي تتلقى الضربات الأولى في كل عدوان، وتقود معركة الوجود من الميدان إلى طاولة السياسة. غير أن الخروج من هذا المأزق يتطلب ما هو أبعد من النوايا الصادقة أو المواقف الرافضة، بل حكمة تاريخية في إدارة الصراع، تشبه في جوهرها ما مارسه الإمام علي بن أبي طالب حين اضطر إلى القبول بالتحكيم في صفين، في لحظة التباس بين المبادئ والواقع.

الإمام علي لم يتنازل عن الحق، لكنه قبل التفاوض حين أدرك أن استمرار الحرب سيجلب الفتنة في صفوفه، وقال جملته الخالدة: "لا رأي لمن لا يُطاع، ولا طاعة لمن لا يُحسن الرأي." لم يكن التحكيم خيارًا مثاليًا، لكنه كان مخرجًا ضروريًا يجنّب الأمة الاقتتال الداخلي، ويوفر وقتًا للمراجعة وإعادة التموضع. وهكذا، لا يكون القبول بهدنة مؤقتة خضوعًا، بل قد يكون استخدامًا ذكيًا للزمن، لاستعادة الأنفاس، ولملمة الصفوف، وتحشيد التأييد الوطني والدولي حول موقف فلسطيني موحد، خاصة وأن حماس لم تتخذ قرارها بشكل منفرد، بل بادرت إلى التشاور مع فصائل العمل الوطني، وهو ما يشير إلى رغبة جادة في مشاركة المسؤولية وصياغة رؤية جماعية لا تقود إلى انقسام جديد.

لكن حتى في حال القبول المؤقت بالاتفاق، فإن هناك شروطًا لا بد من تثبيتها ضمن أي موقف تفاوضي مسؤول. أولها، التأكيد على أن وقف إطلاق النار المؤقت لا يُمكن أن يتحول إلى هدنة دائمة دون اتفاق واضح يفضي إلى انسحاب كامل من غزة، ويضمن عدم استئناف العمليات العسكرية بأي ذريعة. ثانيًا، يجب ربط دخول المساعدات الإنسانية بضمانات لا يمكن تجاوزها، بحيث لا تبقى أدوات ضغط بيد الاحتلال في المفاوضات المستقبلية، بل تتحول إلى حق مكفول للمدنيين. ثالثًا، ينبغي الإصرار على أن تكون أي مفاوضات لاحقة برعاية دولية متعددة، لا تحتكرها الولايات المتحدة وحدها، بل تشارك فيها أطراف لها مصداقية لدى الفلسطينيين.

إن الإدارة السياسية الذكية لهذه اللحظة تقتضي ألا يُترك القرار محصورًا في مسار عسكري أو مسار تفاوضي فقط، بل أن يُبنى على ثلاث دعائم مترابطة: تفعيل الجبهة الوطنية الفلسطينية للتشاور وصياغة رؤية جامعة، استخدام أدوات الضغط الدولي والإعلامي لفضح قصور الاتفاق الحالي، وخلق مسار إنساني موازٍ لإدخال المساعدات وتخفيف الكارثة، ولو اضطر الأمر إلى استخدام منظمات دولية بديلة. في هذا التوازن، لن تكون حماس في موقع المتهم، بل في موقع المسؤول، الذي يتعامل مع الواقع بكل مكوناته، دون أن يتنازل عن ثوابته.

ما يعرض اليوم على طاولة حماس ليس اتفاق سلام، بل عقد إذعان مؤقت، ولذلك فإن التعامل معه يحتاج إلى فقه الضرورة لا إلى فقه الانكسار. وتمامًا كما فعل الإمام علي، حين استخدم التفاوض لا كتنازل بل كأداة تأجيل استراتيجي يعيد به ترتيب أوراقه، يمكن لحماس أن تتعامل مع الهدنة المؤقتة كورقة تكتيكية، تُخفف بها عن شعبها دون أن تتخلى عن هدفها الأسمى في التحرر. وعندما تفعل ذلك بشفافية، وبمشاركة قوى الشعب، وبوضوح في الرؤية، فلن تكون خصمًا لشعبها، بل ممثلًا عنه ومسؤولًا أمامه.

الشعوب لا تحاسب قادتها فقط على النوايا، بل على الكيفية التي يواجهون بها اللحظات التاريخية الحرجة. وحماس الآن تقف في قلب واحدة من هذه اللحظات، والقرار الذي ستتخذه لن يكون عابرًا، بل تأسيسيًا للمرحلة القادمة: إما تثبيت لمعادلة مقاومة تملك حكمة السياسة، أو تركها تتآكل تحت ضغط الوقت والدم. وهنا يُحسن التذكير بكلمات مهمه تقول: الشجاعة ليست فقط في القتال، بل في اتخاذ القرار الصحيح في الزمن الأصعب".