مع كل حادث يتأكد أن العقل الإسرائيلي لا يمكن أن يكون سوياً ليس على مستوى ما أفرزه من توحش كبير في حرب الإبادة التي شنها على قطاع غزة على امتداد الأشهر الطويلة الماضية بل وأيضاً على مستوى فهمه ورؤيته وحجم انفصاله عن الواقع بدرجة كبيرة .
تصريح رئيس حزب " الديمقراطيون " وهو التحالف المشترك لحزبي العمل وميرتس يائير غولان جعل الدولة تهتز هكذا بدت دولة إسرائيل وهي ترد بكاملها سلطة وحكومة ومعارضة على اتهام من رئيس حزب معارض ففي الردود ما كان يؤكد أزمة العقل المختل المنفصلة عن الواقع ، كان غولان يتحدث عن قتل جيش إسرائيل للأطفال لكن الصدمة التي عبرت عنها ردود الفعل كانت أكبر كثيراً عن الدفاع عن الجيش بقدر ما كانت تشي باستغراب حول الاتهام نفسه كأنهم ينكرون جميعاً بأن الجيش قتل أطفال .
لا أحد يملك رقماً محدداً بعدد الأطفال الذين قتلتهم إسرائيل فالأرقام المعلنة هي بعدد من وصل منهم للمستشفيات وتم تسجيلهم كشهداء ولكن من يعرف كم طفلاً بقي تحت الأنقاض؟ طبعاً لا أحد يفكر بكوابيس ما قبل الموت لهؤلاء الذين قتلوا جائعين خائفين بعضهم ظل ينزف حياً لم يسعفه أحد وآلاف من القصص التي تكسر القلب ومع كل هذا تندهش إسرائيل عندما يتم تأكيد أنها تقتل أطفالاً والذين بلغت نسبتهم بحوالي ثلث الشهداء والرقم المعلن من الأطفال بحوالي سبعة عشر ألف طفل لكن الحقيقة أن العدد أكبر من ذلك.
وإذا كان هذا النقاش المختل قد امتد على مساحة الصحف الإسرائيلية نقاشاً بين النخبة السياسية لكن الأخطر هو المزاج الشعبي اليهودي في إسرائيل الذي ظهر في لحظة ما وهي ليست لحظة عابرة بأنه أكثر وحشية من تلك النخبة المتصارعة، فالاستطلاع الأشد خطورة الذي قامت به جامعة بن ستيت في بنسلفانيا ونشرته صحيفة هآرتس يعكس فاشية لا تقل عما تم ارتكابه في غزة من إبادة.
فقد أظهر الاستطلاع الذي نشرته الصحيفة في الرابع والعشرين من مايو أن 82% من الإسرائيليين يؤيدون التهجير القسري للفلسطينيين من قطاع غزة وأن 56 % منهم يدعمون طرد الفلسطينيين من داخل الخط الأخضر أي الذين يحملون جنسيات إسرائيلية وإذا ما استثنينا العرب في إسرائيل والذين هم جزء من الجمهور ولا بد أن يكونوا جزءاً من الاستطلاع هكذا يمكن اعتبار النسبة سترتفع بين اليهود لتبلغ أكثر من النسبة الواردة.
وإذا كانت النخبة السياسية في ظل المناخات السائدة والمنافسة على أي منهم أشد يمينية وأكثر تطرفاً وقد يتم فهم الأمر كنوع من المزاودة بحدة الاستقطاب للحصول على أصوات انتخابية فكيف يمكن تفسير نتائج الاستطلاع الذي يعكس المزاج الجماهيري العام سوى أن فاشية تغلغلت في المجتمع الإسرائيلي.
ولأن يائير غولان مركز الحدث ربما أن هناك ضرورة لأن نستدعي تصريحه الشهير عام 2014 عندما كان نائباً لرئيس الأركان حين قال إنه يرى المجتمع الإسرائيلي يشبه المجتمع الألماني مطلع ثلاثينات القرن الماضي محذراً من تسلل فاشية إلى داخل المجتمع الإسرائيلي وتلك كانت قد حرمته من الترشح لرئاسة الأركان فهل كان غولان يتنبأ أم كان يدرك تماماَ طبيعة العقل الإسرائيلي الذي يستفحل فيه المرض ويتدهور إلى هذا الحد من العنصرية والوحشية.
طبعاَ كل ذلك كان مفهوماَ حتى قبل أن تبدأ هذه الحرب لكن الحرب الأخيرة كشفت ما لا يدع مجالاً للشك حتى لدى أقرب أصدقاء إسرائيل بأن هذه الدولة ومن خلال حكومتها الأكثر تطرفاً وبرنامجها المعلن هي حكومة تطهير عرقي لكن الجديد هنا أن هذه الحكومة يقف خلفها شعب التطهير العرقي وتلك لم تكن مصادفات أو وليدة حدث أكتوبر بقدر ما أن الأمر مرتبط بثقافة عززتها الكتب الدينية وتحولت إلى ممارسة وسلوك يومي يتم التعبير عنه بشكل فردي وجمعي.
عاد غولان بعد الحملة الشرسة محاولاً التراجع عن وصفه للجيش بهواية قتل الأطفال رغم أن هناك جنوداً اعترفوا بأنهم كانوا يتراهنون مع زملائهم على قنص الفلسطيني "وتلك هواية " لكن الأهم أن إسرائيل لم تعد قادرة على إخفاء ثقافتها العميقة كما العقود الماضية فقد تصرفت بطبيعتها العنيفة تحت وقع السابع من أكتوبر ولم تنتبه لأن عليها أن تستمر بقناع ارتدته منذ قيامها بديمقراطية وحقوق إنسان ودولة قانون وقوانين دولية وهي ابنة العالم الحضاري وفجأة تنكشف كدولة ما قبل العصور الوسطى لكن المدهش جداً أنها تندهش عندما يتم اتهامها بذلك .