في تاريخها الطويل من الاحتلال والتطهير العرقي، لم تحد الدولة الصهيونية يومًا عن تكتيكاتها الثابتة: الكذب، والإنكار، وتشويه الحقائق. هذه الأساليب، التي غالبًا ما تحظى بدعم صريح أو تغاضٍ متعمد من القوى الغربية، تحوّلت إلى فن إسرائيلي، صُقِل عبر عقود من الإفلات من العقاب، ورسّخته منظومة إعلامية عالمية متواطئة لا تكتفي بتجاهله، بل تضفي عليه الشرعية.
المجزرة الأخيرة التي وقعت خلال توزيع المساعدات الغذائية في غزة فجر الأحد، 1 يونيو، كانت تذكيرًا مريرًا آخر بهذا النمط. ففي رفح، أُطلقت النيران على حشود من الجائعين، ما أسفر عن مقتل أكثر من ثلاثين فلسطينيًا كانوا ينتظرون حصصهم الغذائية. وكالعادة، سارعت إسرائيل إلى نفي مسؤوليتها، مدعية أن جيشها لم يكن على علم بأي إطلاق نار في محيط مركز التوزيع، الذي تديره منظمة أمريكية متواطئة مع سياسة إداره التجويع. إلا أن روايات الشهود والناجين، وتقارير المنظمات الإنسانية والمستشفيات، جاءت لتكذّب هذه الادعاءات وتكشف فداحة الجريمة.
لم يتأخر الموقف الأمريكي، بل جاء مساندًا ومبررا، فالسفير الأمريكي – الذي يبدو انه أشبه بمبعوث إسرائيلي داخل وزارة الخارجية الأمريكية – وصف تقارير المجزرة بأنها “أخبار كاذبة”. هذا التشويه للحقائق لم يعد استثناءً، بل قاعدة راسخة. الأمر يذكّر بمجزرة “الطحين” التي وقعت في 29 فبراير 2024، حين أطلقت القوات الإسرائيلية النار على مدنيين كانوا يتجمعون لتلقي مساعدات، فقتلت 112 شخصًا وأصابت أكثر من 760. وقتها، أيضًا، أنكرت إسرائيل مسؤوليتها، مدعية أن الوفيات نجمت عن “تدافع” ودهس بواسطة شاحنات الإغاثة. حتى بعد أن عرضت الأمم المتحدة وقنوات مثل الجزيرة مقاطع فيديو تُظهر بوضوح إطلاق النار الإسرائيلي على مدنيين عُزّل، لم تُتخذ أي إجراءات للمحاسبة.
في غزة، لم تعد مواقع توزيع الغذاء وحدها مصائد موت. بل سيارات الإسعاف باتت أهدافًا، والمسعفون والأطباء وأطفالهم أصبحوا “أهدافًا عسكرية مشروعة”.
الأسبوع الماضي، استهدفت إسرائيل منزل الطبيبة آلاء النجار، فقتلت تسعة من أطفالها العشرة: يحيى (12 عامًا)، إيف (9 أعوام)، ريفال (5 أعوام)، سادين (3 أعوام)، راكان (10 أعوام)، رسلان (7 أعوام)، جبران (8 أعوام)، لقمان (عامان)، وسيدار، التي لم تكمل عامها الأول. زوجها الطبيب حمدي النجار تُوفي لاحقا متأثرًا بجراحه، فيما يصارع طفلهما الأخير، آدم (11 عامًا)، الموت بإصابة خطيرة في الرأس وسط انهيار القطاع الطبي. أما الرواية الإسرائيلية فادعت أنها “استهدفت مشتبه بهم” في خان يونس.
وفي مارس، قُتل ثمانية مسعفين، وستة من عمال الدفاع المدني، وموظف في الأمم المتحدة، ثم دُفنوا في الرمال. برّرت إسرائيل القصف بـ”سلوك مشبوه” لسيارة إسعاف. وعندما ظهرت أدلة فيديو تُفند هذه الرواية، لجأ الجيش إلى عباراته المعهودة: “خطأ”، “تقدير غير دقيق”، “إجراءات تأديبية”. خمسة عشر إنسانًا أُزهقت أرواحهم بلا اكتراث، وبتغطية أكاذيب مفضوحة.
الأمر تكرّر في أبريل 2024 عندما قُتل سبعة من عمال الإغاثة الإنسانية من منظمة “وورلد سنترال كيتشن” في هجوم إسرائيلي. ورغم الغضب الأمريكي المبدئي، تراجع البيت الأبيض خلال 24 ساعة فقط، مدعيًا عدم وجود دليل على أن القصف كان متعمدًا. تحوّلت الرواية الإسرائيلية، رغم تهافتها، إلى الموقف الرسمي الأمريكي.
وليس هذا بجديد. في أكتوبر 2023، قُتل نحو 500 مدني في انفجار بمستشفى المعمداني العربي في غزة. حمّلت إسرائيل صاروخًا فلسطينيًا مسؤولية المجزرة. وفي أقل من يوم، كرر الرئيس بايدن الرواية الإسرائيلية من على منبر عالمي، متجاهلًا شهادات شهود العيان، والأدلة المتزايدة، وتحقيقات مراقبين مستقلين.
ثم جاءت قضية الصحفية الفلسطينية الأمريكية شيرين أبو عاقلة، التي اغتيلت برصاص قناص إسرائيلي عام 2022. زعمت إسرائيل أنها قُتلت برصاص فلسطيني، ونشرت مقطع فيديو ثبت لاحقًا زيفه. ومع ذلك، منحت وسائل الإعلام الغربية وقتًا أطول لهذه الرواية المفبركة مقارنة بشهادات الصحفيين والمواطنين الذين كانوا إلى جانبها. وبعد شهور، وتحت ضغط الأدلة، اعترفت إسرائيل بأن الجندي الإسرائيلي هو من أطلق النار – وكرّرت أسطوانة “الخطأ غير المقصود”. الجندي لم يُحاسب، رغم أن الضحية مواطنة أمريكية، فقط لأنها فلسطينية.
اليوم، كما أطفال غزة، أصبحت الحقيقة ذاتها هدفًا عرضيًا. أولئك الذين يفترض بهم الدفاع عنها – الإعلام والمؤسسات الديمقراطية في الغرب – يتحوّلون إلى أبواق لتسويق الأكاذيب الإسرائيلية.
فأن غزه لا تُقصف فحسب، بل تُمحى من الوعي العالمي، بجدار من التضليل والخداع، ولن يتوقف هذا المسلسل الدموي ما لم يبدأ العالم بتقدير حياة الفلسطينيين أكثر من الروايات الإسرائيلية المفبركة.
إسرائيل لا تُفلت فقط من جرائم الحرب، بل من الكذب بشأنها أيضًا، إنها حصانة مزدوجة: عسكرية وإعلامية، وقد أتقنت الصهيونية السياسية فن الكذب منذ نشأتها في القرن الثامن عشر، و وفّر الغرب – ولا يزال – منصة لتطبيع هذه الأكاذيب، تمامًا كما يُطبع اليوم حصار وتجويع أطفال غزة.
لقد بنت الحكومات ووسائل الإعلام الغربية حاضنة تعطي دائما الأولوية فيها للروايات الإسرائيلية - ليس حرصًا منها على المصداقية، بل لتجنب المحاسبة الذاتيه. فعند تفضيلهم الكذب الاسرائيلي على الحقيقة، يتجنبون بذلك المساءلة الأخلاقية، ولا حاجه عندها للتوفيق بين قيمهم المُعلنة والإبادة الجماعية التي يُمكّنون الكيان الصهيوني من ارتكابها.
لم يعد الأمر يتعلّق فقط بأكاذيب إسرائيل، بل أصبح عن نظام عالمي متواطئ في دعم الأكاذيب الإسرائيلية المتكررة والخداع المنهجي لتغطية التجويع والإبادة الجماعية المنقولة مباشرة على الهواء.