Menu

تركيا بين الانقلاب والانقلاب المضاد والتداعيات المحتملة

وديع ابو هاني

ما حدث من مجريات الانقلاب في تركيا ليلة 15 تموز ما زالت تفاعلاته تحليلاً وتقييماً قائماً، ومن ضمن الأسئلة المثارة، من انقلب على من؟ لقد احتبست أنفاس العالم لساعات لما حدث في تركيا إثر الانقلاب الفاشل حيث انقسمت الآراء والمواقف ارتباطاً بتحالفات ومصالح ورؤى وصلت لدرجة الإسقاطات والأمنيات الذاتية، مما أفقد البعض القراءة الموضوعية المتأنية، فما هو الأساس والعنصر الذي يمكن الإمساك به لمعرفة ما جرى وما هي الدروس المستخلصة لما حصل خلال الساعات التي رافقت وأعقبت الانقلاب.

إن أي مراقب ومتابع لما حصل في تركيا يجب أن ينظر له كشأن داخلي أولوية الحسم فيه للشارع التركي، وعناصر الحسم مراكز وموازين القوى الداخلية، رغم إدراكنا بأنه يصعب فصل تداعيات ما حصل وقد يحصل في بلد بأهمية وموقع تركيا الإقليمي وتداعيات ذلك على الشأن الدولي خاصة ما يربط تركيا من علاقات وسياسيات خارجية في إقليم مضطرب وساخن مع الجوار وفي ظل استحقاقات داخلية ليس أقلها الموقف الذي اتخذه الشارع التركي وأحزاب المعارضة وحساسية الموضوع الكردي داخل تركيا وعلى حدودها، ولإنعاش الذاكرة يمكن التذكير بما جرى في عهد تشافيز (مع فارق المقارنة بين البلدين والزعيمين) عندما جرى الانقلاب عليه وتم عودته إلى السلطة بقوة الشارع الفنزويلي وهذا ما حصل في تركيا حيث لم يكن ليفشل الانقلاب لولا نزول القاعدة الشعبية والانتخابية لحزب العدالة والتنمية واحتلالهم الشوارع العامة ومحاصرتهم للقوى الانقلابية واعتقال جزء منهم، من هنا أهمية الانطلاق في القراءة والتقييم لما جرى في تركيا ارتباطاً بمصالح وخيارات الشعب التركي أولاً، وموقف القوى المعارضة برفض ما جرى التزاماَ بالتقاليد الديمقراطية والحفاظ عليها واحترام نتائج صناديق الانتخاب وتداول السلطة سلمياً رغم ما قد يقال عن ديكتاتورية أوردغان وتفرد حزبه بالسلطة، عوضاً عن رأي عام سائد وتراكم بتقاليد برفض تدخل الجيش بالحياة السياسية بعد تجارب عديدة من الانقلابات التاريخية في تركيا، فالعالم المتحضر اليوم ينحو لتعزيز ثقافة احترام إرادة الشعوب وتقرير المصير وسيادة الدول وحقوق الانسان بالرغم من التدخلات الغربية والأمريكية خاصة بشؤون الدول الداخلية ونظمها وبشكل مفضوح، مما يطرح مجدداً السؤال: من المقرر فيما جرى بتركيا وقد يجري؟ هل العامل الداخلي المعتمد على موازين القوى الداخلية وتقاليد الدول وعلمانيتها (مثال تركيا) رغم ما يحكمها ويتفرد بحكمها حزب إسلامي، وما موقع العامل الخارجي كعامل مساعد أو مقرر في هذه الحالة؟ وهذا ما يجب أخذه بعين الاعتبار في المحاكمة والتقييم لأي أحداث وتطورات قد تحصل.

بغض النظر عن أمنياتنا ورغباتنا، وهذا ما حصل عملياً عندما تداعت أعداد غفيرة من الشعب التركي وقطعت الطريق على العملية الانقلابية، فالمعركة الداخلية تحسم بموقف وقوة الجماهير وليس بالعسكر، مع إدراكنا لميل الكثيرين من العرب التقدميين والمقاومين في فلسطين، حيث يتحدد موقفهم لما حصل بمدى انحيازات تلك الدول في سياساتها لصالح ودعم نضال شعبنا وحقوقه الوطنية وبمدى وقوف العالم ومنها العالم الإسلامي تجاه قضية القدس ودعم مقاومة شعبنا ورفض التطبيع مع الكيان الصهيوني الذي يمارس إرهاب الدولة، لقد أسفرت العملية الانقلابية الفاشلة لساعات في نتائجها وتداعياتها (خلال ثلاثة أيام) إلى اعتقال سبعة آلاف شخص منهم ستة آلاف معتقل عسكري من كافة الرتب (منهم 103 جنرالات) و700 قاضي ومقتل أكثر من 300 شخص وجرح الآلاف في الشوارع خلال المواجهات، وإيقاف محافظين منهم 50 مسؤول مهماً في الدولة، وعزل 1500 موظف في وزارة المالية وحسب تصريح رئيس الوزراء تم إقالة تسعة آلاف موظف، لقد مورست هستيريا من قبل السلطات التركية وصلت لحد تصريح وزير العدل التركي بأن ما يجري ويقومون به عملية تطهير للدولة والمؤسسات، ولم يخفي أوردغان رغبته بتطبيق عقوبة الاعدام واستعداده للمصادقة عليها إذا وافق البرلمان، فهل ما جرى في تركيا يستحق كل هذه الحملة من الاعتقالات والتصفيات للخصوم، أم وراء ما يجري أهداف مبيتة أبعد من حدود محاكمة ومحاسبة المتورطين بالانقلاب بشكل قانوني، الوقائع تؤشر وتزكي بعض الأهداف المبيتة التي جعلت جنوح البعض يرجح نظرية المؤامرة مما حصل، وأن ما حصل في تركيا مسرحية أعدت بإتقان عندما سربت أخبار واتهامات لقائدي القوى الجوية والبرية وآخرون، قبل أن تنجلي غبار العملية الانقلابية. ربما من واجب وحق الكثيرين أن يدافعوا عن التقاليد الديمقراطية ورفض حكم العسكر، لكنه بنفس الوقت فأن ما يمارسه أوردغان ورئيس وزراءه ووزير عدله يفوق حجم وأخطار العملية الانقلابية ومدبريها، فهم لم يحترموا القضاء وحقوق الانسان من اعتقالات عشوائية ومن الرغبة في الانتقام وتطبيق عقوبة الإعدام.

أليس ما يجري هو نسف لكل الأصول الديمقراطية واحترام حرية الرأي والعودة لحكم الفرد وممارسة الاستبداد السلطوي متذرعاً أوردغان بما حصل ليلة 15 تموز ولو على حساب القوانين والمؤسسات القضائية. لقد أجمع كبار المحللين والمراقبين وأرجعوا فشل الانقلاب للأسباب الرئيسية التالية: 1- عدم اعتقال الرئيس وفريقه الرئاسي ومطبخه السياسي إضافة إلى رئيس البرلمان ورئيس الوزراء. 2- عدم وقف خدمات الانترنت وعدم السيطرة على وسائل التواصل الاجتماعي. 3- عدم ممارسة العنف باتجاه المتظاهرين الذين تطاولوا على القوات الانقلابية. 4- عدم السيطرة على المواقع والمفاصل الهامة في أجهزة الدولة وفي العاصمة أنقرة. 5-عدم تدخل العامل الخارجي سلباً، لما له من دور مؤثر ومساعد في دولة مثل تركيا ومنها على وجه الخصوص الولايات المتحدة الأمريكية والحلف الأطلسي وروسيا وإيران وإسرائيل. يبقى ما يجري في تركيا مفتوح على كل الاحتمالات بعيدة المدى رغم القبضة الحديدية الآنية التي يمارسها أوردغان ضد معارضيه وضد من قاد العملية الانقلابية ولكن عملية التطهير التعسفية الجارية قد تنقلب عليه في طالع الأيام (كمن يحفر قبره بيده). لعل موقع تركيا الاقليمي وتورطها وتدخلها في ملفات وسياسات عديدة تبقيها في حالة اضطراب وعدم استقرار جيو سياسي ومعرضة لاستحقاقات وتداعيات بحكم الجوار مع دول تتقاطع وتتصادم المصالح فيها، فلم تهدأ كاملاً عاصفة التوتر التي سادت العلاقة مع روسيا (الكريملن) إضافة للأوضاع المضطربة في الداخل ومنها أحزاب المعارضة والملف الكردي إلى موضوع اللاجئين والعلاقة مع الاتحاد الأوروبي إلى الأهم في تدخلها بالشأن السوري والعراقي ودعمها للإخوان المسلمين في مواجهة دول مهمة في الاقليم خاصة مع مصر وسوريا وإيران واسرائيل، كل ذلك يجعل الارتباط وثيق بين السياسات الداخلية والخارجية في خيارات ومواقف وتحالفات تركيا.

قد نشهد تغييراً إيجابياً في العلاقة مع روسيا، وتعزيزاً للعلاقات التركية الإسرائيلية مع لحظ تغيير في اللهجة التركية اتجاه الأزمة في سوريا ونظامها واستعدادها للتعاون في مواجهة الإرهاب، والعلاقات مع إيران تتقاطع في المصالح التي تشهد تحسن ملحوظ، مما يفتح الباب لانتهاج سياسة تركية جديدة، خاصة وأن الملف الكردي يقلقها داخلياً وعلى حدودها بعدما تعززت الاتفاقات وأشكال التعاون وبناء القواعد الأمريكية في إقليم كردستان الذي يطمح بربط أجزاء من شمال سوريا، وهذا ما يقلق أوردغان جدياً وما ترفضه سوريا أصلاً. تحديات وملفات ساخنة قادمة أيضاً تواجه تركيا، منها إعلان ويكليكس عن نية إعلان ونشر مئة ألف وثيقة عن تركيا وعلاقاتها.

كذلك رغبة أوردغان بتعديل وتطويع الدستور وإعلان نفسه السلطان الأوحد لتركيا الطامح لدور الخليفة الذي ينطق باسم الإخوان خاصة والمسلمين عامة. كرة النار الأوردغانية تتدحرج وستلتهم بطريقها الكثير وربما تلتهم ما يتباكى عليه ومنه أوردغان لأن ما يجريه ويقوم به باسم الدفاع عن الديمقراطية وحرية وحقوق الإنسان.

وتبقى العلمانية التركية وما أرساه الزعيم التاريخي أتاتورك الفيصل بين أولوية الحكم للنظام العلماني السياسي للدولة أم للحزب الإسلامي القائد. ومن سينتصر بالنهاية، الديمقراطية أم أوردغان، علمانية الجيش والدولة أم إعادة أسلمة السياسة والدولة، القادم من تداعيات واستحقاقات في تركيا سيجيب عن كل ذلك.