اليوم لن أرثي... ولن أمارس الحزن... فما يضج في داخلي مع رحيل فيديل كاسترو يتجاوز الرثاء والحزن، ليرتقي إلى مستوى الفكرة التي بقي كاسترو يحملها بثبات وهو يدخن السيجار ويبتسم.
اليوم وكأن الناس مع رحيل كاسترو يستيقظون، يعيدون اكتشاف بديهة ثورة جميلة اسمها فيديل كاسترو... فيودعونه كل على طريقته... لهذا يأخذ الوداع طعم الكبرياء والوفاء.. كما يأخذ ايضا طعم القهر والألم من بؤس "ثورات" فقدت بريقها وطريقها... كما فقد رجالها وقادتها معنى أن يكونوا ثوارا...
كاسترو كما تشي جيفارا يذكران الجميع ببديهيات الثورة... وأبجدية الثائر وجماله.
إنهم عقاب التاريخ الباهر والنقيض ل"ثوار" المنابر والفنادق وربطات العنق الأنيقة والولائم... كما أنهم أيضا عقاب التاريخ الذي لم ينكسر أمام الغطرسة والعنصرية الاستعمارية وامتهان كرامة الشعوب والتعامل معها وكأنها من الدرجة العاشرة.
فيديل كاسترو، تشي جيفارا، كوبا... هنا ترتقي بندقية الثائر إلى المقدس، لم تتلوث ولم تنحني ولم تصبح قاطعة طريق، كما لم تطلق النار على رفاق الثورة... بندقية لم تخن ذاتها ولا شعبها ولا الرجال الذين حملوها.
كاسترو هو الثورة في أعلى درجات صفائها وجرأتها... حيث تصبح الثورة معادلا للوفاء فتبقى ابتسامة تشي جيفارا الأرجنتيني الذي رحل باكرا وهو يحلق وراء أحلامه في بوليفيا تزهر في شوارع وباحات كوبا التي انحدر عليها مع كاسترو وثمانين مقاتلا ثائرا في 2 كانون أول عام 1956 ذات مساء من جبال سييرا مايسترا على القارب غرانما ليشعلا ثورة ويسقطا ديكتاتورية بتيستا... من يومها وفكرة الثورة لم تنطفئ شعلتها.
كم هي صغيرة كوبا بمقياس الجغرافيا، لكنها بسعة الأرض بمعيار الثورة والجرأة التي ليس لها حدود...
بعيدة جدا كوبا بمقياس المسافة.. لكنها قريبة كالقلب في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا.
هذه كوبا التي آمن بها ثائرها الشجاع فيديل كاسترو وآمنت به .. فأعطته أجمل ما لديها وأعطاها أجمل ما لديه... فبقيت الثورة واضحة حاسمة وشابة، وكأن عمرها لم يتجاوز 57 عاما منذ انتصارها عام 1959.
الثنائي فيديل وتشي هما النموذج للثائر الإنسان المثقف الحاسم، الذي يحمل الفكرة ولا يمارس السياسة أو الثورة كوظيفة.. بل كنمط حياة وفلسفة... يحظر فيها المساومة على مبادئ الثورة وحقوق الشعب واستقلاله وكرامته.
قد يقول البعض أن كاسترو ما هو إلا ديكتاتوري حكم كوبا بقبضة من حديد على مدار عقود... هنا لا أدري كيف يقارب هذا البعض خيارات الأمم والشعوب... خاصة حين يأتي مثل هذا التقييم من مواطنين يعيشون في ظل أكثر الأنظمة فسادا وتبعية وارتهانا على الصعيدين السياسي والاقتصادي... ويقنعون أنفسهم بأنهم أحرار...
لم أسمع صرخات الكوبيين في الشوارع تطالب برحيل كاسترو أو بديمقراطية على الطريقة الأمريكية أو الأوروبية، بل ولا يزال الكثيرون يذكرون يوم حركت الولايات المتحدة بعض أدواتها في كوبا مطالبين بفتح الحدود... يومها رد كاسترو بثقة ومهارة.. نعم سأفتح الحدود ليغادر من يريد إلى أمريكا ولكن بشرط أن ينفض تراب كوبا عن حذائه.. فتراب كوبا مقدس... وفعلا تدفقت بضعة آلاف من بينهم الكثير من المجرمين والعالم السفلي... لم يندفع الكوبيون بالملايين إلى الحدود كما توهمت أمريكا وخططت.. حينها أدركت أنها وقعت في المصيدة التي أعدتها لكسر كوبا من داخلها... فبدأت بالصراخ راجية وقف تدفق أسوأ ما في المجتمع الكوبي إلى أمريكا....
تلك هي ثقافة الثورة الباسلة.. تلك هي قامة كاسترو التي لم يكن يقبل إلا أنت تكون بمستوى قامة كوبا...
اليوم يرحل كاسترو ليلتقي رفيق دربه تشي جيفارا.. سيدخنا السيجار الكوبي معا وسيطمئنه بأن الثورة مستمرة.. وكوبا بخير.
فهل هناك من يتعلم!
