التقيت المطران المقاوم هيلاريون كبوجي مرة واحدة في دمشق، حين دعاني الحكيم د. جورج حبش ذات صباح إلى مكتبه في المزرعة في دمشق، كان ذلك في زمن الانتفاضة الفلسطينية الأولى في ثمانينات القرن الماضي.
صباحا دخلت مكتب الحكيم فاستقبلني كعادته بابتسامة حارة وصادقة، وقال تعال ستلتقي شخصية مناضلة عربية مميزة وفريدة..
ثم دخل المطران كبوجي... بقامته وحيويته... دخل بألفة وعفوية بوجه ضاحك البسمات طلقُ، ألقى تحية الصباح بلهجته السورية الحلبية المحببة، عانق الحكيم وعانقني مسلما...
كان لقاءا جميلا... فرحت أصغي وأتابع الحوار المتدفق حول فلسطين والمقاومة والانتفاضة... وفي ذات الوقت كان عقلي يتأمل هاتين الشخصيتين العروبيتين المقاومتين الرائعتين.. الحكيم ابن مدينة اللد القائد الفلسطيني القومي الماركسي والمسيحي الأرثوذوكسي، الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين... والمطران هيلاريون كبوجي العربي السوري ابن حلب الشهباء، مطران الروم الملكيين الكاثوليك في القدس ، القائد المناضل في حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح.
كم كانت جميلة كل تلك الأبعاد والركائز والثوابت وهي تمتزج في هاتين الشخصيتين...!
اليوم يرحل المطران هيلاريون كبوجي... يرحل بعد أربع وتسعين عاما ملأها عنفوانا ومقاومة وتضحية.. يرحل المطران الذي كان الدين بالنسبة له وقبل أي شئ هو قضية الإنسان والحرية والكرامة بمعناها الشخصي والقومي والوطني والإنساني... فلا فرق عنده بين الصلاة لله والمقاومة ضد الاحتلال والقهر.
هذا هو المطران كبوجي المناضل المثال... اعتقلته قوات الحتلال الإسرائيلي عام 19744 بتهمة تهريب السلاح للمقاومة، وحكمت عليه 12 عاما قضى منها في الاعتقال أربع سنوات.. وبعد ضغوط وتدخلات من الفاتيكان تم نفيه عام 1978...
ومع ذلك ومن منفاه في روما لم يتوقف المطران ولم يهدأ ولم يصمت ولم يستكن.. كما لم يغير إيمانه بقضيته العربية الفلسطينية ... فاستمر صوتا يدوي بكلمة المقاومة... صوت شجاع لرجل شجاع.
هذا الصباح وأنا أتابع خبر رحيل المطران كبوجي تذكرت اللقاء والحوار الذي جرى معه ذات صباح دمشقي جميل... مع الحكيم.
تذكرت كل هذا... ثم رحت أتأمل اللحظة الراهنة حيث ضباع الطائفية والتكفير والتهجير والذبح والموت.. قلت كم هي المسافة شاسعة بين دين مقاوم وباسل وبين "دين القتلة"...
وقفت أتأمل اللحظة.. وفي المدى تلوح حلب الشهباء التي أرسلت لنا ذات يوم من ستينات القرن الماضي رجلا اسمه هيلاريون كبوجي.. فلم يتردد ولم تلتبس عليه الأمور ولم يقف على الحياد ولم يختبئ وراء لباس الكهنوت.. فامتشق السلاح... وذهب للمقاومة حتى استشهد.
وقفت أتأمل اللحظة... وفي المدى تلوح جبلة وهي تتكئ على اللاذقية عروس المتوسط التي أرسلت لنا ذات يوم من ثلاثينات القرن الماضي رجلا اسمه محمد عز الدين القسام، فلم يتردد ولم تلتبس عليه الأمور ولم يقف على الحياد ولم يختبئ وراء لباس الدين .. فامتشق السلاح... وذهب للمقاومة حتى استشهد.
قائدان ومقاومان ورجلا دين من سورية الحبيبة التي لا تدير ظهرها لفلسطين... على دروب فلسطين مشى المطران السوري الحلبي هيلاريون كبوجي، كما سار عليها ذات يوم الشيخ السوري من جبلة عز الدين القسام... تلك هي سورية التي لا ترسل لفلسطين إلا ما يليق بها من رجال يعرفون معنى الانتماء والمقاومة... هذه هي سورية التي تدفع اليوم ثمن عروبتها وأصالتها ومشروعها المقاوم... لا أدري كيف يطاوع القلب تنظيما أو فردا فيوجه الرصاص إلى قلب سورية التي لم ترسل لنا يوما سوى من يحمل معنا السلاح ويقاوم ويستشهد من أجل فلسطين...!
رحل المطران المقاوم وهو يتمنى: "أتمنى أن أكحل عيني قبل مماتي برؤية قدسي".
لك المجد يا مطران المقاومة.. وفلسطينك باقية!