توارى عصر الإبداع الفني العربي في ظل غياب كثير من المبدعين العرب في مجالات الأدب والفن وهم قامات كبيرة في الشعر والقصة والرواية والمسرح والموسيقى والسينما والغناء، وبغيابهم عن الساحة الأدبية والفنية جف بحر الإبداع العربي العميق الذي كان يغمر الوطن العربي من مشرقه إلى مغربه حيث أصبح هذا البحر يوصف بمصطلح الزمن الجميل الذي كثيرا ما تحن لعودة مفرداته الغالبية العظمى من الجماهير العربية التي تعاني من طغيان الخطاب السياسي الجاف والممل وكذلك من شظف العيش وقسوة المشاكل الاجتماعية.
على مستوى الأدب الملتزم وخاصة الشعر كان آخر من رحل عن عالمنا الشاعر فاروق شوشة الإذاعي المصري المعروف الذي كان يقدم برنامج لغتنا الجميلة، والذي كان محل اهتمام الكثيرين من الكتاب والأدباء والمثقفين العرب من محبي اللغة العربية المدافعين عنها في مواجهة دعاة الاستشراق والاغتراب الحضاري وهجمة الدعوة إلى اعتماد اللهجات في الكتابة بدلا من الفصحى، وقبله رحل الشاعران عبد الرحمن الأبنودي، أحد رموز الشعر العامي في المرحلة الناصرية ومفتاح الفيتوري، شاعر أفريقيا، وكان قد رحل قبلهما ايضا سميح القاسم وهو من شعراء المقاومة الفلسطينية البارزين الذين عبرت بهم القضية الفلسطينية بحكم عدالتها إلى الفضاء العالمي التحرري والإنساني، وقبل ذلك سبقه محمود درويش، وتوفيق زياد، ومعين بسيسو، ونزار قباني، وأمل دنقل، وغيرهم الكثير من الشعراء العرب المعاصرين في كل الساحات الأدبية العربية الذين غرسوا في نفوس الجماهير العربية خاصة فئة الشباب، حب الوطن والانتماء القومي العربي.
وما حدث للشعر حدث لفن الرواية والمسرح والتمثيل حيث مضى زمن ازدهار عصر الأدب العربي الذي اكتسب قيمة عالمية بفضل نتاج كبار الأدباء والكتاب العرب في العصر الحديث أمثال عميد الأدب العربي طه حسين، ومحمود عباس العقاد، ونجيب محفوظ الحاصل على جائزة نوبل للسلام في الأدب، وأميل حبيبي، وجبرا إبراهيم جبرا، و غسان كنفاني .
أما فن الغناء العربي والأناشيد فلم يعد هذا النوع من الفن كسابق عهده يطرب النفس بما يشيع من بهجة روحيه وحماس متقد ونشوة عاطفية صادقة بعيدة عن شهوة الجنس وتأججها الحيواني حيث اكتظت الساحة الفنية العربية اليوم بأغان هابطة في مستواها الشكلي والمضموني، مغرقة بمفردات العشق والغرام والهوى والهيام بالمحبوبة، أغاني مثيرة للغريزة تحمل أشتاتا من المعاني الذاتية المفرطة لا تدل في نظمها إلا على مشاعر وعواطف متكلفة مبعثرة عاجزة عن خلق طرب حقيقي يفرح القلب ويمتع الأذن بما يشيع فيهما من بهجة حقيقية تجلي الهموم وتروح عن النفس وتوقظ المشاعر العاطفية النبيلة والإحساس الوطني والقومي والديني الصادق، فأين نحن مثلا من أغاني وأناشيد فترة الخمسينيات والستينيات؟! أي الفترة التي نطلق عليها اليوم بالزمن الجميل حيث أغاني مثل نشيد الله أكبر الذي أذيع أثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 56 من القرن الماضي من إذاعة صوت العرب بالقاهرة، والتي كانت تهدر بصوت المذيع المصري الشهير أحمد سعيد، وكان هذا النشيد بكلماته ولحنه له وقع الصاروخ والمدفع على معنوية الأعداء الانكليز والفرنسيين والإسرائيليين” الذين هاجموا مدن القناة واحتلوا بورسعيد وسيناء وقطاع غزة، وكذلك أيضا أغاني قومية ودينية مثل المارد العربي، ووطني حبيبي الوطن الأكبر، وأخي جاوز الظالمون المدى، وبساط الريح، وراجعين بقوة السلاح، وزهرة المدائن، والكثير أيضا من الأغاني العاطفية الشعبية والوطنية التي قدمها كبار المطربين والملحنين العرب أمثال أم كلثوم وعبد الوهاب، وفريد الأطرش، وعبد الحليم، ووديع الصافي، وفيروز، وصباح، وفايزة أحمد، ونجاة الصغيرة، وشادية، ووردة الجزائرية، وغيرهم من عمالقة الطرب الجميل التي كانت تردد أغنياتهم على ألسنة الشباب من الجنسين وتصدح في المقاهي الشعبية والأعراس العائلية والمناسبات الوطنية.
أين نحن من ذلك الزمن الجميل زمن روائع الدراما المصرية التي كان لها جمهورها الكبير في كل أرجاء الوطن العربي لما كانت تقدمه من أفلام شيقة مستمدة من الواقع الاجتماعي المصري العريق في انتمائه الوطني والقومي والديني العميق في مواجهة تيار الاغتراب الحضاري، زمن الإبداع الفني الملتزم بالقيم والمبادئ والتقاليد العربية والإسلامية الاصيلة، زمن الحب الحقيقي في أرجاء المنطقة العربية بين الأفراد والأسر والعائلات والتنظيمات والأحزاب والمذاهب والطوائف والأديان والأقليات والشعوب حيث قيم التسامح والتضامن والتكافل والعيش المشترك والقبول بالآخر بعيدا عن الكراهية والصراع والحقد؟ متى يعود الفن العربي ليأخذ مكانه في مواجهة التحديات التي تواجه الأمة اليوم وهي أكثر وأخطر على المستقبل العربي مما واجهته في عهد الزمن الجميل الذي نتوق إليه حيث كان ذلك الزمن خاليا من الصراعات السياسية والطائفية بين مكونات الشعب الواحد، خاليا من استفحال خطر التدخل الأجنبي الإمبريالي في مخطط تقسيمي جديد لخارطة المنطقة السياسية مستغلا بذلك هجوم الفكر الظلامي التكفيري المعادي لنهج الديمقراطية والتقدم والحداثة في محاولة لإعادة شعوب المنطقة إلى عصور الجمود العقلي والانحطاط الفكري وبروز وتمدد تنظيماته الإرهابية المسلحة العابرة للحدود، المنتفخة بالأموال من جراء السيطرة على آبار النفط والغاز.
زمن جميل لم يكن فيه المسجد الأقصى المبارك مستباحا بهذه القوة والوحشية والغطرسة من قبل اليهود الصهاينة العنصريين يؤجج حقدهم وكراهيتهم أحزابهم اليمينية المتطرفة والحاخامات ورجال الدين الغزاة القادمين من وراء البحار ممن يحملون في وعيهم وذاكرتهم الجمعية المشوهة فكر التوراة والتلمود الخرافي المزور؟ متي يؤكد من جديد هذا الفن الممتع هويته الوطنية الشعبية والقومية والدينية والحضارية في زمن شاع فيه التحرش الجنسي الذي أصبح ظاهرة سلبية تخدش الحياء العام تسود بعض العواصم والمدن العربية الكبرى، وفي وقت أيضا أصبح فيه التسابق على الفوز في برنامج (آراب أيدول) الذي تبثه فضائية (mbc) في هذا الشهر من كل عام والذي لا يخلو هذا البرنامج الفني على الرغم من وظيفته الفنية الإبداعية الجماعية من خلفية سياسية مغرقة بالتعصب الإقليمي الذي يتحكم بعملية التصويت وحيث أصبح الشغف برؤية ذلك البرنامج الذي يهتم بالنجومية وحب الشهرة والاهتمام الكبير بسماع فقراته من قبل قطاعات كبيرة من الجماهير العربية ومن كل الأعمار ومن كافة المهن ومن غالبية الأوساط الاجتماعية أكثر من الاهتمام بما يجري في القدس والأقصى من قتل وتهويد وقمع على أيدي الصهاينة الغزاة أعداء الأمة؟