[كتبت هذا المقال في 27 كانون أول 2016، ومع ذلك فإني وبعد مراجعته رأيت أنه لا يزال يحتفظ بذات القيمة اليوم]
***
" إنني في حال انسجام مع قوميتي العربية - ومسيحيتي – وتراثي الإسلامي كجزء أصيل من بنيتي الفكرية والنفسية - وماركسيتي التقدمية" (الحكيم).
***
بصراحة ولأسباب عديدة... كنت ولا زلت أتهيب من الكتابة عن الحكيم... لكن وبعد تفكير هادئ قلت من الواجب والضرورة أن أكتب... فرحت استعيد الأحداث واللحظات واللقاءات والحوارات... أفكر...وأتأمل... ثم كتبت.
وهنا يهمني أن أشير إلى مسألة أساسية لعبت دور القوة الدافعة لكتابة هذه المقالة... فأنا لم أقصد من وراء هذا المقال الطويل نسبيا البعد التوثيقي في تجربتي مع الحكيم بالمعنى العلمي للكلمة... إنما هي ومضات كثيفة في التجربة وفي العلاقة المباشرة... أما الهدف العميق فهو يتعلق باللحظة الراهنة، وبالواقع والظروف التي تمر بها القضية الفلسطينية... وسيتوضح هذا الهدف الذي أقصده وأتحدث عنه من خلال وبعد الانتهاء من قراءة هذه الورقة... أرجو أن تكون مقاربتي ذات فائدة ولو جزئية... فهذا يكفي.
في هذا السياق ربما أن ما ستأتي عليه هذه المقالة لن يضيف شيئا لما يعرفه الكثيرون ممن عايشوا وناضلوا مع الحكيم، أو لما كُتِب عنه... ومع ذلك فإن تناولي ومقاربتي لبعض الأبعاد في تجربة الحكيم وفكره إنما تعبر عن فهمي الخاص الذي تكون من خلال تجربتي النضالية وعملي المباشر مع الحكيم... لعلّي بذلك أضيء بعض الجوانب والأبعاد في شخصية الحكيم وتجربتة المدهشة...
بطبيعة الحال، لن تغطي هذه المقالة تجربة الحكيم وشخصيته ومنتوجه وإرثه النضالي والسياسي والفكري... فهو كحالة وتجربة أكبر من أن تحيط بهما مقالة أو حتى عدة كتب... ولكن هي محاولة.
سأقف في هذه المقالة أمام بعض الجوانب وبعض المفاصل التي قد يراها البعض عادية ومعروفة، وقد يراها البعض جزئية وغير مكتملة، وهذا شئ طبيعي... فهي خطوة تأتي في سياق أشمل... سبقني إليها كتاب فلسطينيون وعرب وغير وعرب... ومع ذلك يبقى الحكيم تجربة مفتوحة على مزيد من البحث والتعمق.
***
الحكيم وبكل معنى الكلمة هو ظاهرة... والظاهرة دائما تختلف الآراء حين مقاربتها سواء في وجودها أو بعد رحيلها... والاختلاف هنا محكوم، بطبيعة الحال، بالزاوية التي ينظر منها الإنسان الذي يحاول أن يستجلي أبعاد تلك الظاهرة، بالإضافة إلى المنطلقات والأهداف التي تقف وراء عملية التقييم أو القراءة... بهذا المعنى هناك من يرى أو يصف الحكيم بأنه قائد وسياسي متشدد... ولا يتعامل بواقعية مع الأحداث وحركة الواقع وتحدياته.. بل هو أقرب للرجل "الخيالي" كما يعتقدون وفق مقاربتهم السياسية... فهل كان الحكيم حقا هكذا... أم هو في العمق وفي الجوهر كان وبقي ثوريا واقعيا بامتياز!؟
التعامل مع هذا السؤال الأساسي... يستدعي المرونة والشمولية في متابعة تجربة الحكيم الممتدة على مساحة حياته كلها... والتحرك بحيوية بين مواقف الحكيم وممارسته ثم العودة للواقع السياسي والاجتماعي الراهن والمقارنة... وأحيانا الذهاب لما هو أبعد من الرصد السياسي والفكري والعملي في تلك تجربته... أي الذهاب لبعض السمات والزوايا العميقة في شخصية الحكيم وبنيته الاجتماعية والمعرفية.... وربطها بحركة الواقع.
وهنا أجد من الواجب والضرورة التنويه إلى المسألة المنهجية التالية: وهي أن كل ما سيأتي في سياق هذا المقال بخصوص تجربة الحكيم، يجب أن لا تجري مقاربته والتعامل معه وكأنه مسألة شخصية خاصة بالحكيم... بل إنها قضايا هي بمجملها نتاج تفاعل الحكيم في سياق تجربته كقائد ومؤسس لحركة القوميين العرب ولاحقا كأمين عام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين... بهذا المعنى فإنها مواقف وممارسة ورؤية لم تسقط على الحكيم من السماء أو من الفراغ.. بل جاءت في إطار التفاعل العميق الذي قاده الحكيم في جسم الجبهة الشعبية على امتداد الزمان والتحديات... وبهذا المعنى أيضا، فإنها نتاج جهد وتفاعل جمعي عام في المحصلة النهائية.. سلبا أو إيجابا... فروعة وقيمة الحكيم أنه ابن التجربة والنضال وقائده... فلم يكن يمارس السياسة والإبداع الفكري من موقع المتفرج يوما.
كما يجدر التنويه أيضا، إلى أن الهدف من هذه المقاربة ليس تقديس شخص الحكيم... كما ليس رفعه ليغدو فوق النقد... فهو في كل الأحوال إنسان... والأنسان يخطئ بالضرورة... فكل تجربة ومهما كانت مدهشة إلا أنها تحمل معها أيضا أخطاءها... وبعض تلك الأخطاء قد يعود لتقديرات ذاتية، فيما يعود بعضها الآخر لتأثيرات الظروف الموضوعية والتباسات المواجهة... إذن...بالتأكيد أن هناك أخطاء رافقت تجربة الحكيم... غير أنها تبقى أخطاء القائد الشجاع المندمج بكليته في النضال... وليست أخطاء الهبوط أو الأنانية الذاتية الضيقة... إنها جزء أصيل من استحقاقات الصراع الضاري الذي كان الحكيم وحتى اللحظة الأخيرة في بؤرته الحارقة.
أن تقترب من الحكيم.. وأن تعايشه.. وتعمل معه... وأن تناضل وقتا طويلا في التنظيم الذي يقوده هي فرصة نادرة للتعلم... وفي ذات الوقت مهمة صعبة...
إنها فرصة نادرة من زاوية التفاعل مع شخصية محورية لها تجربة عريقة كما الحكيم... شخصية تختزن ثروة من المعرفة... وثروة من التجارب... كما تستند إلى أبعاد متداخلة بما يشكل حالة فريدة من القادة السياسيين الذين يتركون تأثيرا عميقا على كل من يقترب منهم...
فالحكيم بكُلِّيته تجربة مميزة جدا... إنه الرجل الذي كان يدرك بوعيه وانتمائه وحدسه وصدقه معنى أن يكون قائدا فلسطينيا عروبيا... كما كان يدرك أن من يتقدم ليرفع راية فلسطين وشعبها عليه أن يعرف مسبقا أنه مطالب بأن يتجاوز العادي تماما... عليه أن يصعد المنحدرات الصعبة، وأن يواجه التحديات القاسية التي تطرحها القضية الفلسطينية... عليه أن يملك الوعي والإرادة والعناد لكي يتجاوز المصائد والالتباسات والإغراءات... بحيث يبقى هناك... في الأعالي واضحا وحاسما... بهيا وفاعلا...
كان الحكيم يدرك ويعي جيدا خياره بأن يكون ثائرا فلسطينيا عربيا وأمميا... فهو لم يذهب لهذا الخيار بقلب مرتبك... أو في سياق أحلام وردية أو انتهازية... لقد ذهب إلى هناك وهو يعرف أنه يقف أمام حقل شاسع من الألم والدماء والقهر والتضحيات والطموحات والأهداف النبيلة... فقد اكتوى هو شخصيا بتلك الآلام... وفي مدينته اللد شاهد بأم عينيه أهوال الجريمة ... كما نالت عائلته نصيبها منها... كما كان يدرك أنه يخوض في واقع تحكمه موازين قوى مجافية وصعبة داخليا وعربيا وعالميا... وبالتالي فإن أقل ثمن قد يترتب على هكذا خيار مصيري، هو حياة الإنسان ذاتها... ومع ذلك لم يتردد.
لهذا قلت أن من يعمل مع الحكيم أو بالقرب منه، فإنه حكما يخوض تجربة فريدة وحاسمة... ولن يخرج منها كما دخلها أبدا.
لكن.. وفي ذات اللحظة هي مهمة صعبة وخطرة... ولا أقصد هنا أثقال ومخاطرالعمل النضالي اليومي.. بل أقصد البعد الذاتي في التجربة... فالحكيم بحضوره وتاريخه وتجربته ووعيه... وسماته الشخصية المؤثرة... من السهولة أن "يحتوي" كل من يقترب منه... وأن "يهيمن" ربما على وعيه... إنه يغمر كل من يدخل في دائرة شخصيته بحضوره وتأثيره... إنه لا يتقصد ذلك... بل هي شخصيته المؤثرة بطبيعتها هكذا... شخصية تترك، ودون استئذان، تأثيرها على كل من يحيط بها... هو تأثير الحكيم بوضوحه.. بهدوئه... بوفائه.. بعاطفته ... بحركة جسده.. بنبرة صوته... بقدرته على الإصغاء... بدموعه أحيانا... وبضحكته الصافية أحيانا أخرى... وأيضا من خلال اهتمامه بالتفاصيل كما اهتمامه بالقضايا الكبرى... بغضبه... وبقدرته في لحظة ما على أن يضرب الطاولة بقبضته... وفوق كل ذلك استعداده الدائم للعطاء والعمل بلا حدود... فالنضال بالنسبة له ليس نزهة أو امتيازات أو مظاهر.. بل إنه كان يكره وبطبعه المظاهر... فهو متواضع بحكمة ورصانة... تستفزه الشكليات الفارغة من المضمون... بل وكان يستفزه جدا أن يهتف الناس والرفاق باسمه وليس باسم فلسطين... فيغضب ويحتد.. ويرفض.
هو كل هذا... ولهذا من السهل أن يعيد تشكيل من يقترب منه... إنه يشبه بؤرة جاذبة، لها مجال طاقتها الفاعل باستمرار...فهي تجذب الإنسان إليها بصورة عفوية .. بل وبنوع من بهجة... فأن تكون بقرب الحكيم هي ذاتها بهجة... حتى وإن أثقلك بالمهام والمسؤوليات.
لهذا... قلت له يوم طلب مني أن أعمل معه في أواسط ثمانينات من القرن الماضي: يا حكيم شرف وفرصة لي أن أعمل معك... ولكن لي شرط واحد.. وهو أن يكون ذلك فقط لعام واحد!
نظر إلي بدهشة وابتسامة "ماكرة" وقال: هل من الممكن أن تقول لي السبب!
قلت: لأنني إذا بقيت بجانبك أكثر من ذلك فلن أعود أنا أنا... وأنا لا أريد أن أكون غير نفسي!
أذكر أنه ضحك بصدق... وقال: حسن... لك ذلك... إنك ماكر يا رفيق...
ومع ذلك فقد عملت معه سنوات أكثر... ثم بعدها وتحديدا في عام 1994 وبتشجيع منه توليت رئاسة تحرير مجلة "الهدف".
في هذا السياق وبوعي منه ومني جرى الحفاظ على المسافات بوضوح وبمنتهى الأناقة والصدق والحرارة... كان الحكيم يدرك كل ذلك ويعيه... فهو من الأشخاص والقادة النادرين الذين يصعب أن ترفض لهم طلبا... ذلك لأنك تعرف في أعماقك كمناضل أنه لا يطلب شيئا لنفسه... بل لقضية كبرى هي قضية شعب وأمة بكاملها.
بهذا المعنى كانت الأخلاق والصدق عند الحكيم يعادلان الثورة.. والأخلاق هنا تتجاوز المعنى الضيق لتصبح مبدءا سياسيا وسلوكيا... فالحكيم بقدر ما هو ذكي... وبقدر ما يرى الواقع ويتابع التناقضات الداخلية... إلا أنه ليس عقلية تآمرية ضد رفاقه... قد يكون له رأي في هذا الرفيق أو ذاك... لكنه واضح في ذلك... وعادة ما يقرأ الناس والخيارات من جانب سياسي وأخلاقي ونضالي... وليس من زاوية الولاء الشخصي له... لهذا لا يمكن أن تجد في تاريخ الحكيم الممتد من يكرهه أو لا يحترمه... أو يتطاول عليه شخصيا... قد يختلف المرء معه سياسيا وفكريا، غير أن هذا الاختلاف لا يتجاوز مطلقا نحو المساس بالحكيم شخصيا.
الحكيم مزيج مدهش من الثوري المثقف، والطبيب المسيحي الأرثوذوكسي الفلسطيني... والماركسي التقدمي... وفوق كل ذلك هو القومي المعتد بقوميته العربية ولغته وفضائه الثقافي الإسلامي وحضارته الممتدة في التاريخ... وأذكر جيدا كيف كان يدقق اللغة العربية كلمة كلمة في كل ما سيصدر باسمه من تصريحات أو مقالات...من حيث القواعد والإملاء... فكان يلفت نظري لذلك قائلا: لا أقبل كقومي عربي أن أخطئ في لغتي...
لم يكن الحكيم يساوم على أي من هذه الأبعاد في تكوينه أو يتنازل عنها... فهي بمجملها وفي سياق التزامه بها، هي من أعطى شخصية الحكيم هذا الحضور وهذا الإبهار المستند إلى روح قتالية حاسمة وشجاعة... فهو رقيق وعاطفي... عنيد ومتسامح بصدق، يغضب ويتحدى... يكره الخداع والكذب... ولا يساوم على البديهيات... ولعل هذه السمات قد امتدت لتترك آثارها على الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بكاملها... التي أخذت في سلوكها بعضا من سمات الحكيم الشخصية... قد يختلف الكثيرون معها وقد تثير غضبهم... وقد تستفزهم... ومع ذلك يدرك الجميع أن الجبهة الشعبية تبقى صادقة ولا تتخذ موقفا سياسيا من منطلق المناكفة بل لأنها تؤمن بذلك...
لقد كانت تجربتي الشخصية مع الحكيم مدهشة بكل المقاييس... كان لقائي الأول معه، وبشكل مباشر وشخصي، أثناء حصار بيروت عام 1982... وبعدها تواصلت اللقاءات والحوارات ... فتعرفت أكثر على أعماقه وخوافيه وبنيته الفكرية والسياسية... تعرفت على نمط حياته... وقلقه.. والأسئلة العميقة التي تدور في داخله... لقد كانت أيام وساعات من النقاش في كل الأبعاد... وعلى مدار سنوات...
من أجمل السمات المنهجية التي لفتت نظري عند الحكيم .. أنه كان يحترم الأسئلة... فقد كان يواصل طرح الأسئلة حتى النهاية... كان يصغي جيدا... ولكن لم يكن من السهولة بمكان أن يهز أحد قناعاته ومواقفه الأساسية.. فالمرء يحتاج لطاقة غير عادية ولمنطق سياسي محكم كي يؤثر في ركائز مواقفه... وهذا لا يعني أنه منغلق... بل كان حذرا جدا من أن ينتهك التكتيك وإسقاطات اللحظة الاستراتيجيا.. لهذا كان يدقق جيدا في كل كلمة... ويأخذ وقته في التفكير والتأمل.
وهنا قد يطرح سؤال منهجي... وهو: ألم يكن الحكيم بوعيه ودقته تلك يدرك الصعوبات والتناقضات التي يواجهها في داخل التظيم.. فلماذا كان أحيانا يبدو مترددا تجاه التغيير...؟
لاحقا فهمت البعد الذي كان ينطلق منه الحكيم في التعامل مع تلك التناقضات الداخلية... حين شرح ذلك بنفسه في إحدى الحوارات قائلا: التغيير ليس رغبة ذاتية... فلا أريد أن نندفع تحت وقع شعارات تبدو صحيحة لنجد أنفسنا لاحقا في مغامرة مدمرة تعصف بما لدينا... علينا أولا أن نعي البنى التي تواجهنا والتي نحن جزء منها... ذلك لأننا ونحن نمارس التغيير فإننا نخوض في الثورة وأي خطأ أو تسرع يعني دما... ولهذا كانت لديه حساسية هائلة تجاه الانشقاقات... ودائما ما كان يذكر وبألم تجربة اليمن... وكيف عصفت الإدارة الخاطئة للتناقضات بوحدة الحزب الإشتراكي اليمني... وقبلها لم تفارقه معضلة الانشقاق عام 1969 (خروج الجبهة الديمقراطية)... لقد كانت تجاربه مع الانشقاقات مؤلمة... وهو الذي كان يحاول مع رفاقه أن يقود حركة القوميين العرب وينتقل بها... نحو الفكر الماركسي العلمي الواضح والدقيق.
في إحدى النقاشات الخاصة قلت معلقا: يا حكيم يجب اتخاذ خطوات حاسمة تجاه أي عضو قيادي أو أي بنية تنظيمية يشكلان عائقا أمام التغيير والتجديد... يجب الحسم... كان ينظر صامتا ثم يقول: أنت لا زلت شابا.. ولم تجرب خطورة الانشقاقات وويلاتها داخل التنظيم...
ما أريد قوله أن الحكيم وبالرغم من عاطفته إلا أنه كان يتمتع بحدس علمي رائع وإحساس عميق بالمسؤولية... وهذا الحدس نضج وتبلور منذ أن كان طالبا متفوقا في كلية الطب في الجامعة الأمريكية في بيروت... وهنا لا بأس بحادثة رواهها مباشرة.. فهي توضح أشياء كثيرة في كيفية تفكير الحكيم واستعداده الدائم للتعلم... يقول الحكيم:
حين كنت أدرس في كلية الطب، طلب منا بروفيسور أمريكي أن نجري تجربة كيميائية في المختبر، وأن نقدم تقريرا عن نتائج التجربة... وفعلا قمنا كطلاب بذلك... وكتبت تقريرا بالتجربة قلت فيه: من تفاعل المادة "س" مع المادة "ص" نتج لدينا راسب لونه كذا... وتصاعد غاز لونه أبيض... إلخ .
وحين قرأ البروفيسور التقرير.. نظر إلى وقال: هذا تقرير غير علمي وغير دقيق... فدهشت.. فأنا واثق جيدا من دقة التجربة والنتائج ومن دقة التقرير... فسألت أين الخطأ؟
قال الدكتور: في التقرير العلمي عليك أن تشير يا جورج إلى تاريخ وساعة إجراء التجربة.. و درجة الحرارة في المختبر وكذلك الضغط الجوي في تلك اللحظة...
بمعنى أن هذه التجربة جرت في ظروف محددة فكانت نتائجها كما جاءت عليه، فماذا لو تغيرت الظروف على ذات التجربة...؟ فعلا...قال الحكيم: لقد تعلمت درسا ذكيا في التفكير العلمي الذي لا يترك شيئا للصدف.
إذن لكي نعي ونفهم الحكيم بصورة أكثر عمقا... علينا أن نعي سياقاته وركائز شخصيته ووعيه... والأهم أن نتابع ردود فعله وسلوكه في المحطات الحاسمة واللحظات الصعبة.
فالحكيم لم يكن مجرد قائد فلسطيني ثوري، بل كان أيضا وبنفس الدرجة قائدا ثوريا عربيا... فلم تقف تجربته وفعله عند قضية فلسطين فقط، بل امتد دوره إلى العالم العربي... وقد تجلى ذلك في تجربة تأسيسه وقيادته لحركة القوميين العرب وبعدها بسنين تجربة بناء حزب العمل الاشتراكي العربي... الذي لم يصمد طويلا وذلك بحكم صعوبة شروط تحقيق هذا الحزب العربي وقلة الإمكانات... إلا أن الفكرة تعكس الاهتمام المركزي للبعد القومي في فكر الحكيم وبنيته السياسية... وفي السياق تأتي أيضا تجربة الحزب الإشتراكي اليمني التي كان الحكيم يشكل دائما مرجعية حاسمة لها من خلال اسهامه في توجيهها ووعي تناقضاتها... ويعرف الكثيرون كم بذل من جهد ووقت وتفكير وهو يحاول رأب الصدع بين الأطراف المتناقضة في الحزب الاشتراكي اليمني عندما عصفت به التناقضات الداخلية.
في سياق هذه الصيرورة تحددت ثوابت الحكيم وركائز شخصيته العميقة والمؤثرة... فهو قائد نضج في براكين الواقع... فعلى حد قوله: أنا صنعتني التجربة... لست منظرا أكاديميا أو مدرّسا... النظرية عندي هي تفاعل مع الواقع... وليس فوقه... هي ضرورة للفعل الثوري أثناء حركته وليس مجرد مقولات جامدة...
بمعنى أن الوعي النظري تبلور وتطور عند الحكيم من خلال الممارسة الثورية وليس من خارجها.. فقد كان يواجه أسئلة الواقع بالعودة لدراسة النظريات الثورية والتجارب الثورية ثم يقوم بقراءة الواقع الفلسطيني بناء على الدروس المستفادة من تلك التجارب... ومع أنه قرأ الفكر الماركسي واسترشد به.. غير أن اللافت في كتابات الحكيم وخطاباته، وبالرغم من أنه كان يستخدم الأسس والقوانين الموضوعية للماركسية في التحليل، إلا أنه لم يلجأ إلى اللغة والخطاب الماركسي المعقد.. كان يدرك أنه يتوجه بخطابه للجماهير الفلسطينية والعربية، وبالتالي كان يقدم الفكر التقدمي بسهولة وبساطة وبلغة مفهومة... [ عندما كان يطلب مني صياغة فكرة ما كان يقول: اكتبها بلغة قوية ولكن مفهومة... تذكر هدفي هو أن يفهم الناس ماذا يقول الحكيم.. وليس أنت فقط]... إنه بهذا المعنى لم يكن يُسقِط النظرية على الواقع بل كان يستخدم الفكر العلمي لوعي الواقع بصورة أكثر عمقا...
ومن السمات الأهم في تجربة الحكيم النضالية والنظرية، أنه لم يَسقط في التوصيفات النظرية الجاهزة أو الجامدة... ولهذا فإنه وبالرغم من أن معظم الأحزاب الشيوعية العربية الكلاسيكية كانت تردد مواقف الحزب الشيوعي السوفييتي تجاه العديد من القضايا المفصلية، كالموقف من المسألة القومية والأمة والكفاح المسلح وإسرائيل.. إلا أنه بقي ملتزما بثوابته تجاه هذه المسائل، وهو ما وضع الجبهة الشعبية ولفترة طويلة في حالة تناقض مع الاتحاد السوفييتي.. بل ولم يكن يتردد أمام الاستفادة من التجربة الصينية والاستشهاد بكتابات ماو تسي تونغ رغم معرفته بحساسية هذا الموضوع عند الاحزاب الشيوعية العربية وعند الاتحاد السوفييتي آنذاك.
لقد كان الحكيم شديد الاهتمام وبصورة خاصة بتجارب حركات التحرر العالمية كتجربة ثوار الفيتكونغ وشخصية هوشي منه الفذة في فيتنام.... وتجربة كاسترو وتشي جيفارا في الثورة الكوبية ، إلى جانب حركات التحرر في أمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا.. هذا الأعجاب وهذا الاهتمام لم يكونا عفويان.. بل لأنه يؤمن أن تلك التجارب التحررية هي أكثر فائدة وجدوى للنضال التحرري الفلسطيني من الخوض في نقاشات تتعلق مثلا ببناء الدولة في المنظومة الإشتراكية.. لأن تلك التجارب التحررية تتقاطع من حيث الواقع والأهداف أكثر مع واقع حال الشعب الفلسطيني والتحديات التي تواجهه.
فالحكيم بقدر ما كان يمتاز بوعي عميق... وإلى جانب كونه قارئا مثابرا... فهو أيضا كان سيد الحوار والنقاش، ويجيد الاستماع لذوي الاختصاص في العديد من القضايا... كالمسائل الاقتصادية... أو الدولية أو الخاصة بالتجربة الصهيونية...
في ضوء مجمل ما تقدم من إضاءات يمكن القول وبثقة عالية، أن الحكيم يمثل نموذجا ساطعا على جدل الفرد الوعي والممارسة... مع حيوية واستعداد لتطوير الفكرة والموقف والممارسة والأهم حماية كل ذلك من الإنحراف عن الأسس الوطنية الراسخة.
في هذا السياق المتحرك من النضوج النظري والسياسي والعملي في شخصية وتجربة الحكيم الممتدة، اغتنت ثوابته وقناعاته بصورة عميقة ومقنعة وأصبحت أكثر رسوخا. من هنا تأتي أهمية إعادة التذكير بتلك الثوابت وبهذا نعطي لذكرى الحكيم قيمة عملية وليس فقط وجدانية عاطفية.
أهم وأول تلك الثوابت الراسخة أن قضية فلسطين ومهما كانت الظروف... ومهما بدا الواقع العربي سيئا ومعاكسا تبقى قضية الأمة العربية المركزية... ولهذا كان يرفض شعار يا وحدنا... وهذه المسألة تعود إلى ثابته الأصل .. أي انتماءه القومي العربي... فخطورة احتلال فلسطين كما هي في وعي الحكيم العميق، لا تنبع وفق قناعته الراسخة من خسارة فلسطن على خطورة ذلك.. بل لأنه يعي أن الهدف الأعمق والأخطر تاريخيا من وراء اغتصاب فلسطين هو الهيمنة على العالم العربي وتمزيقه ونهبه.. وقد كان يلح ويعبر عن ذلك في خطاباته وكتاباته وأحاديثه بصورة لا تقبل الغموض: فالكيان الصهيوني هو بمثابة سرطان في جسد الأمة العربية... واحتلال فلسطين هو مجرد رأس جسر للسيطرة على تلك الأمة... وبالتالي فالمشروع الصهيوني هو مشروع استعماري من أوله إلى منتهاه.. وعليه فإن مواجهته هي مسؤولية الأمة... وانطلاقا من ذلك فإن هدف توحيد الأمة العربية بقي ثابتا لا يتزحزح في فكر الحكيم...
انطلاقا من هذا الثابت فإن الحكيم لم يكن يقارب أي قضية عربية من منطلق انتهازي أو استعمالي.. بل من كون كل قضايا الأمة العربية هي قضاياه... هكذا تقاطعت الثوابت القومية في فكر الحكيم وممارسته السياسية مع ثوابته الوطنية الفلسطينية، دون أن يشكل ذلك أي تناقض لديه... وكل ذلك كان يتقاطع مع ثوابته الأممية، انطلاقا من أن مواجهة الاستعمار وقوى الاستغلال الطبقية (كدول وقوى اجتماعية ورجعية عربية وعالمية) هي مهمة أممية أيضا... وبالتالي فإن قضية فلسطين هي قضية وطنية قومية أممية وإنسانية في ذات اللحظة... بناء على كل ذلك كان يحدد الحكيم مواقفه دون التباس...
ثابت آخر في فكر الحكيم...هو وعيه العميق لمضمون المشروع الصهيوني وأهدافه.. باعتباره مشروعا استعماريا من الدرجة الأولى... ولهذا كان يشير دائما إلى أن اليهود العرب ويهود العالم هم مجرد وقود في هذا المشروع الاستعماري.. وبالتالي فهو لم يتخذ من اليهود موقفا عدائيا بسبب دينهم... بل كان يؤكد وباستمرار على ضرورة التمييز بين الحركة الصهيونية وبين اليهود... ولهذا كان يرى أن على حركة المقاومة الفلسطينية أن تكون واضحة في منطلقاتها تجاه هذه المسألة التي لعبت عليها الحركة الصهيونية ببراعة لتصور مقاومة الأمة العربية والثورة الفلسطينية وكأنها فعل عنصري وشوفيني ضد اليهود. بهذا الوعي السياسي والإنساني العميق تجاوز الحكيم الفكر العنصري أو الديني أو الشوفيني القومي المتطرف... ليعطي للمقاومة الفلسطينية عمقا إنسانيا وأخلاقيا مدهشا.
أما الركيزة الأخرى في فكر الحكيم وممارسته، فهي الوضوح الحاسم لمفهوم معسكر أعداء الثورة... فلم يحد أو يخطئ يوما بهذا الشأن، كما لم تلتبس عليه الرؤية لحظة واحدة وهي أن "رأس الأفعى" على حد تعبيره هي الأمبريالية الأمريكية... وأن العلاقة بين الأمبريالية والصهيونية هي علاقة تناغم بين المركز وأدواته... ولهذا لم يكن يبالغ أو يخطئ في قراءة هذه المعادلة، كما أخطأ ولا يزال يخطئ الكثيرون في رؤيتها، بحيث يعلنون وبخفة أن سياسة الولايات المتحدة الأمريكية تتحكم بها الصهيونية...
بالطبع لم يكن موقف الحكيم هذا اعتباطيا... أو تجاهلا.. بل لأنه يدرك جيدا أنه من غير العلمي والممكن أن يخضع مجتمع بقوة وتعقيدات المجتمع الأمريكي ومنظومة الرأسمال العالمي لإرادة بعض مراكز القوى هنا أو هناك بما في ذلك اللوبي الصهيوني... كل ما في الأمر أن حركة اللوبي الصهيوني وتناقضاته تأتي في سياق مصالح وتناقضات النظام الرأسمالي العالمي والطبقة المسيطرة.. فهو أصلا جزء منها... إذن هو دور لا يخرج ولا يتجاوز التناقضات الطبيعية داخل البيت الواحد... وبالتالي فإن دعم إسرائيل من الولايات المتحدة والدول الغربية لا يأتي ولا يتشكل كنتيجة لضغط اللوبيات الصهيونية بل لأن إسرائيل كانت ولا زالت تشكل جزءا عضويا من المنظومة الاستعمارية... فقط كل ما هنالك أن التناقض الثانوي بينهما يتعلق بحجم هذا الدعم ووقته والتخفيف من الضغوط على إسرائيل... بهدف إطلاق يدها بصورة أكثر حرية.
وبذات الوضوح الذي كان يرى فيه الحكيم دور الإمبريالية العالمية وحليفتها الصهيونية، فإنه أيضا كان يرى دور الرجعية العربية وجناحها الأكثر تخلفا المتمثل بالرجعية الريعية النفطية الخليجية... فهم برأيه مجرد أدوات وسماسرة لا أكثر... ولهذا لم يراهن يوما على تلك الأنظمة... ولهذا فإنه لم يسع لإقامة أي علاقة مع تلك الرجعية ولم يقاطعها من منطلق عاطفي بل من منطلق سياسي علمي... بل وكان يستغرب كل من ينتظر منها أو يراهن عليها لدعم الثورة الفلسطينية، وبرأيه فإن هذا التناقض مع الرجعية هو من طبيعة الظاهرة ... ذلك لأن تلك الرجعية وفق تحليله الطبقي العميق ستنحاز وبلا تردد إلى مصالحها الضيقة كقوى تابعة وخاضعة للرأسمال الأمبريالي العالمي...
وفي الوقت الذي كانت فيه مواقف الحكيم واضحة من الرجعية العربية .. إلا أنه لم يقطع مع الأنظمة الوطنية العربية... أو لنقل أنظمة البرجوازية العربية الوطنية والقومية... وبهذا المعنى كان يقول بأن العلاقة مع تلك الأنظمة تقوم على مبدأ الوحدة والصراع... بمعنى أننا نتفق ونتقارب معها ما دامت تتخذ مواقفا مع النضال الفلسطيني ومصالح الأمة العربية... وحالما تنحو نحو مصالحها وتقترب من القوى الإمبريالية فسترتفع وتيرة التناقض معها... هذا ما تشهد عليه تجربة الجبهة مع الأنظمة العربية في كل من العراق وسورية ومصر وليبيا.
في ذات السياق المتناغم والمنسجم يأتي موقف الحكيم تجاه العلاقة بالتنظيمات البرجوازية الفلسطينية... وخاصة حركة فتح... وهي علاقة يرى البعض أنها كانت ملتبسة وغير حاسمة...
هنا... من الهام والضروري استجلاء المنطلقات العميقة التي كانت تحكم مقاربات الحكيم تجاه هذه المسألة...
لقد كان الحكيم يعي أن الثورة الفلسطينية تعبر عن نفسها كحركة تحرر وطني فلسطيني في مواجهة المشروع الصهيوني الاقتلاعي والتدميري بالمعنى السياسي والجغرافي والاجتماعي... مما يضع الغالبية الساحقة من الشعب الفلسطيني في دائرة الاستهداف... وبالتالي فإن التعبيرات السياسية والتنظيمية عن تلك الغالبية ستكون في معظم الأوقات والمراحل جزءا من الثورة... بل وكان يرى في بعض اللحظات أن القيادة الرسمية حتى لو غامرت تجاه بعض الخيارات السياسية الخاطئة فإنها ستجد نفسها عاجلا أو آجلا في حالة تناقض حتى مع غالبية قواعدها الشعبية الوطنية... مما سيعيدها من جديد إلى الموقف الوطني السليم.
زاد من حساسية وتعقيد هذا الأمر مفهوم الوحدة الوطنية كشرط من شروط صمود حركة التحرر الوطني الفلسطيني وانتصارها... حيث بقي التناقض مع تلك القيادة الرسمية محكوما بسقف الوحدة الوطنية، ولكنه لم يصل إلى لحظة القطع النهائي التي لا عودة عنها معها... فالحكيم كان دائما مشدودا للتناقض الرئيسي مع الاحتلال... الذي سيعيد تصويب الانحرافات السياسية في صفوف قوى حركة التحرر الوطني الفلسطيني إلى وضعها السليم...
قد نجادل كثيرا في هذا الشأن... ولكن من الضروري الانتباه إلى أن القيادة والبنى والظروف التي نتحدث عنها ليست هي ذاتها اليوم... هذا ناهيك عن مسألة أساسية لا يجوز أن تغيب عن بال أحد بتاتا... وهي أن الحكيم ورغم كل طاقته ووزنه وتأثيره .. إلا أنه كان يحتكم في النهاية لقرارات هيئات الجبهة التنظيمية (المؤتمر الوطني، اللجنة المركزية والمكتب السياسي) وهي أجسام حيوية فيها آراء واجتهادات ولم يكن من النادر أن تتخذ تلك الهيئات بعض المواقف وبعض التوجهات ضد ما يراه الحكيم... أرجو فهم هذه النقطة جيدا... فليس الهدف منها القول أن الحكيم كان دائما على صواب والهيئات على خطأ بل الهدف الإشارة إلى الديناميات التي كانت تحكم هيئات الجبهة وديناميات اتخاذ القرار فيها بغض النظر عن صوابية أو خطأ الموقف قيد النقاش في هذه المرحلة أو تلك...
في سياق كل ما تقدم يمكن فهم وإدراك الثابت الآخر الذي اتسمت به مواقف الحكيم والجبهة الشعبية... وهو القناعة الراسخة بممارسة كل أشكال النضال... فلم يتنازل الحكيم أو الجبهة يوما... عن حق الشعب الفلسطيني في ممارسة كافة اشكال النضال من أجل تحرير فلسطين... وفلسطين هنا تعني كل فلسطين.. فحتى مع الموافقة على برنامج النقاط العشر (المرحلية في النضال) فقد كانت قناعة الحكيم أنه مجرد برناج مرحلي... وأن الجسر الرابط بين الأهداف التكتيكية المرحلية والأهداف الاستراتيجية بتحرير كل فلسطين هي قضية اللاجئن الفلسطينيين، التي هي جوهر الصراع الفلسطيني العربي – الصهيوني... وبالتالي فإن طبيعة المشروع الصهيوني ودمويته لن تترك مجالا لحلول جزئية.
هذا هو الحكيم... حكيم فلسطين... الذي لم يغادر بديهيات شعبه وقضيته وأمته... كانت بوصلته ترتكز دوما إلى الوعي وإلى الثقة بالناس... فكانت رؤيته عميقة جدا، شمولية ومنهجية.. وحين يخاطب الناس كان يخاطبهم من موقع الاحترام وبهدف تعميق الوعي والموقف... وهو بقدر ما كان محرضا بارعا في أسلوبه الخطابي فقد كان في العمق داعية بارع أيضا... لهذا كانت خطاباته باستمرار محطات للنقد والتقييم والتحليل والتوجيه، سواء على مستوى الجبهة الشعبية أو على المستوى الوطني .. فقد كان يرفض أن يخاطب الناس بصورة عشوائية أو عاطفية أو غوغائية.. بل كان يستعرض الحقائق ويحلل ويوضح ويجادل بهدف الإقناع...
في كل الأحوال والظروف كانت ثقته بالجماهير الفلسطينية والعربية مطلقة... لقد كان شديد الإيمان بتلك الجماهير.. حتى وهي في طور الكمون... وبهذا المعنى لم ير الحكيم يوما في أي حزب أو تنظيم بديلا عن الناس... فالناس هم فرس الرهان ووقود الثورة وهم قوة التغيير الحاسمة التي لا تتخلى عن ثوابتها.. حتى وإن التبست عليها المواقف في بعض المراحل. وفي هذا السياق كان يرى في النقد سلاحا للتجديد والتطوير والتصويب السياسي والتنظيمي والسلوكي...
في غمرة كل هذه المسؤوليات القيادية والتحديات والحروب والمواجهات التي مرت بها الثورة الفلسطينية، لم يفقد الحكيم رباطة جأشه أبدا... كما لم يتخل عن أبعاده الإنسانية والأخلاقية... فلم يكن يخجل من إظهار عاطفته العميقة والإنسانية سواء تجاه زوجته أو أسرته أو رفاقه أو أصدقائه... فهذا الأمر بالنسبة له ينسجم تماما مع روح الثائر الحقيقي...
وهذا يذكرني بتلك النقاشات التي سبقت انشقاق الجبهة الشعبية عام 1969، والتي تمحورت حول امكانية تحول تنظيم قومي برجوازي إلى تنظيم ديقراطي ثوري ماركسي... حيث حملت المجموعة التي تبنت الانشقاق فكرة أن التظيم الناشئ يجب أن يتخلص من العناصر اليمينية التي كانت تقود حركة القوميين العرب ومنهم على سبيل المثال الشهداء ( أبو علي مصطفى ، وديع حداد، وأحمد اليماني (أبوماهر))، وذلك لأنه وفقا لمنطق الفريق الذي قاد الانشقاق، لا إمكانية واقعية لتحول هؤلاء إلى ثوريين ماركسيين... يومها وقف الحكيم وغيره من الرفاق بكل قوة وصلابة وعزم ضد هذا المنطق والموقف... وقال متسائلا: ولكن هؤلاء هم الذين ناضلوا وقاوموا... فمعظم جسم حركة القوميين العرب هو من أمثال هؤلاء الرجال... فمن سيبقى بعدهم ليشكل الحزب الثوري...ويضحي من أجل الثورة!؟.
كان الحكيم يعرف عجينة هؤلاء الرجال جيدا، فقد خبرهم في الظروف القاسية حين كانت تبدو كل الآفاق مغلقة وصعبة.. ومع ذلك كانوا لا يغادرون خط الواجب ويقاتلوا حتى النهاية... في هذا السياق من المفيد إيراد حادثة ذات دلالة ومعنى.
في أحد مؤتمرات الجبهة التنظيمية جرى نقاش حاد حول قضية محورية ... وبالصدفة كان الحكيم يقف في جانب والشهيد أبو علي مصطفى يقف في جانب آخر... أثارت القضية حالة نقاش عاصفة ترافقت مع حالة استقطاب حادة... وفي النهاية جرى التصويت.. فرجحت كفة وجهة النظر التي يؤيدها الحكيم بفارق صوت واحد فقط... فصفق الطرف الذي أيد ذلك ابتهاجا... ما استفز أبو علي مصطفى فخرج غاضبا من قاعة المؤتمر وهو يقول بأنه لن يعود وسيتخلى عن كل شئ... أثار هذا الأمر حالة من القلق الشديد في أوساط الحاضرين... فأبو علي مصطفى ليس شخصا عاديا، فهو نائب الأمين العام (آنذاك) القائد الشجاع والعنيد والمحبوب من كل أعضاء الجبهة...
أذكر وقتها.. أنني اقتربت من الحكيم وقلت متسائلا ما الذي سيحدث... لقد خرج أبو علي وهو غاضب... أذكر جيدا كيف ابتسم الحكيم بهدوئه وقال لي: لا تخف.. أنا أعرف رفيقي أبو علي أفضل منكم... غدا سيكون هنا... فعلا في اليوم التالي كان أبو علي أول الحاضرين... فحيا الجميع ثم قدم اعتذاره وتابع قيادة أعمال المؤتمر وكأن شيئا لم يكن...
هؤلاء هم الرجال الكبار... هذا هو الحكيم الذي يعرف جيدا رفاقه الذين وقفوا ويقفون إلى جانبه في سنوات النضال الطويل.
الآن... وبعد هذا الاستعراض المكثف الذي ليس بالتأكيد شاملا ونموذجيا... نعود إلى السؤال الأساس الذي ابتدأت به هذا المقالة وهو: هل كان الحكيم كما كان يصفه البعض قائدا وسياسيا متشددا وعنيدا... ولا يتعامل "بواقعية" مع الأحداث وحركة الواقع وتحدياته وبالتالي فقد كان أقرب للرجل "الحالم والخيالي" منه للسياسي الديناميكي.. أم هو في العمق وفي الجوهر كان وبقي ثوريا واقعيا بامتياز؟
الإجابة على هذا السؤال ليس الهدف من ورائها إضافة مديح جديد للحكيم.. بل الهدف هو راهن وعملي تماما...
الإجابة على السؤال لها علاقة عميقة بوعي ومقاربة الصراع والنضال الوطني الفلسطيني بالمعنى الاستراتيجي والوقوف طويلا أمام ما انتهى إليه الآن... فهل القوى التي وصفت الحكيم بالتشدد وبعدم الواقعية جاءت التجربة لتقول بأنها كانت محقة... وبأن "واقعيتها أو براغماتيتها" قد حققت للشعب الفلسطيني الحد الأدنى من حقوقه الوطنية؟.
أم أن الحكيم كان القائد الأكثر واقعية بالمعنى الثوري، بحكم وعيه العميق لطبيعة الصراع وطبيعة المشروع الصهيوني وطبيعة معسكر أعداء الثورة الفلسطينية بما لا يوفر أي هامش لحلول تنصف الشعب الفلسطيني؟
نظرة سريعة وكثيفة إلى ما آلت إليها تجربة اتفاقيات أوسلو تعطينا جوابا أكثر من واضح... فتعنت الاحتلال الصهيوني وإمعانه في القتل ونهب الأرض وتشريد الشعب الفلسطيني، ورفضه الإعتراف بالحد الأدنى من حقوق الشعب الفلسطيني الوطنية، والدعم اللامحدود له من قبل القوى الإمبريالية العالمية والرجعية العربية، وخاصة الرجعية الخليجية النفطية، تظهر أن تقدير الحكيم وقراءته كانت واقعية بصورة مدهشة... وأن "الحالمون واللاواقعيون" بالمعنى السلبي هم الذين راهنوا على تحقيق سلام وهمي مع مشروع استعماري من هذا النوع...
كما أن ما تقوم به الرجعية العربية وحلفاؤها الآن من تدمير لشعوب الأمة العربية وما تنشره من ثقافة تجهيل وقتل وتمزيق