Menu

رسالة لن تصل أبدًا إلى والدي

حسن شاهين

حسن شاهين

بعقل متصالح مع حقائق الحياة وقلب فطره الحزن استقبلت خبر وفاتك، كانت صدمة، لكن دعني أعترف لك أن صدمتي الأكبر كانت قبل عشرة أشهر تقريبًا، يوم ثبوت إصابتك بسرطان الرئة، تحدثنا عبر الهاتف، كانت معنوياتك عالية وطمأنتني ضاحكًا بأنك ستنتصر على المرض، وكنت أحدثك وفي الوقت نفسه أقرأ تقريرًا على صفحة جمعية السرطان الأمريكية، يقول أن فرصة نجاة من هم في مثل حالتك أقل من واحد في المئة. أعذرني لأني كذبت عليك، أخبرتك أن الطب تقدم وهناك كثير من العلاجات المكتشفة حديثًا لمرضك، لم أكن قادرًا على مصارحتك بالحقيقية، ثم ولأن الأمل مرض لا ينجو منه أحد تقريبًا كمرضك؛ تمسكت بتلك النسبة الأقل من واحد في المئة.

حدث ما كنت أعلم أنه سيحدث لا محالة، لكن أسرع مما كنت أتوقع أو آمل، أكملت المرحلة الأولى من علاجك الكيميائي الشاقة والمضنية بأفضل نتيجة ممكنة بالنسبة لمن هم في حالتك، الورم مستقر ولم ينتشر بل تقلص قليلًا، كان خبرًا سارًا، يعني أنه قد يمتد بك العمر بضعة أشهر وربما سنوات، وخططنا سويًا لرحلة الاستجمام التي ستقوم بها إلى مصر بعد تجاوزك آثار العلاج الكيميائي التي أقعدتك عن الحركة، لكن انتكاسة الأيام الأخيرة أطاحت بمخططنا وبجسدك المرهق الهزيل، وشفتني ولو إلى حين من مرض الأمل.

كنتُ متماسكًا طوال اليوم الأول لوفاتك وفي الأيام التالية أستقبل المعزين بك وألقى مكالماتهم، بل كنت قادرًا على الدخول في نقاش سياسي مع أصدقاء والابتسام والضحك أحيانًا، لا أعتقد أن هذا يزعجك، فهذا بعض من إرثك فيَّ. تذكر يوم انفجرت سيارة مفخخة أسفل العمارة التي كنا نقطنها في بيروت، حين أخبروك أن كل أفراد عائلتك قضوا في الحادثة، أمي وأختي الرضيعة وأنا، كنتَ متماسكًا ولم تذرف دمعة واحدة، هكذا أخبروني، وحين انتشلني رجال الانقاذ حيًا من داخل العمارة المدمرة، وذهبوا بي إليك انهرت بالبكاء وقلت لا أريده، أرجعوه وهاتوا لي شادية، زوجتك، دعني أخبرك أن هذا الموقف أحزنني لسنوات في طفولتي، لكن عندما كبرت، صرت أردد تلك القصة على مسامع أصدقائي بفخر، هكذا يكون الحب وإلا فلا.

أتذَكّرُ ما روي لي عن قصة زواجك من أمي شادية، الشابة اللبنانية الجميلة التي كان يتسابق عليها الخطاب المعبدة أمامهم طريق مستقبل باهر، فأحبتك أنت الفدائي شبه الضرير، ذي الشعر الأشعث واللحية الكثة، جنّ أهلها حين أخبرتهم بقرارها الزواج بك، أنت المقاتل الفلسطيني الذي ترافقه وعود الموت والشقاء كظله، وفوق ذلك سنّي وهي من عائلة شيعية، حين علمت إحدى قريباتها بالأمر وأخبروها أن اسمك سفيان، وهو اسمك الحركي الذي عرفت به في ذلك الوقت؛ صاحت مشدوهة (فلسطيني وكمان سفيان!)، لكن للأمانة هذا الأمر لم يكن مهمًا لأغلب العائلة كما تعلم، وعلى كل حال لم يمض وقت طويل حتى نجحت في تكوين علاقة قوية مع جميع أفراد العائلة، وأنت بارع في نسج العلاقات الاجتماعية، وهي خصلة فشلت أنا بجدارة في أن أرثها عنك.

ولاسمك الحريكي ذاك قصة قلة من يعرفونها حتى من بين أصدقائك المقربين، لازلت أذكر حين حدثتني لأول مرة عن الشهيد سفيان، رفيق سلاحك حين التحقت بصفوف الثورة في الأردن نهاية ستينات القرن الماضي، كنتما تخوضان معركة شرسة في جبال عجلون إبان أحداث أيلول الأسود، حين أصيب سفيان إصابة قاتلة، وطلب منك وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة أن تتركه وتنجو بحياتك، فرفضت وظللت ممسكًا به حتى سقط شهيدًا بين يديك، وبقيت إلى جواره تقاتل دفاعًا عن جثته إلى أن أُصبت وأُسرت.

لم تحدثني كثيرًا عن التعذيب الرهيب الذي تعرضت له في سجن الجفر الصحراوي، احترمت رغبتك ولم ألح عليك، لكني علمت كم كنت صلباً، رفضت الاعتراف حتى حين واجهوك بأحد المعتقلين من جيرانك في مخيم المغازي ب غزة الذي اعترف عليك، لم يتمكن الجلادين من معرفة حتى اسمك الحقيقي.

حين كنت تحدثني عن مرحلة الأردن كنت تذكر المواجهات مع الجيش الأردني باقتضاب، وكنت تسرف بالحديث عن العمل الفدائي ضد العدو الإسرائيلي في تلك المرحلة، كنت أستمع إليك بإنصات شديد وأسألك بفضول عن أدق التفاصيل، كيف كنتم تتسللون في دوريات إلى الأرض المحتلة خلف خطوط العدو، أذكر حين حدثتني عن كيف كنت ورفاقك تربطون أحذيتكم العسكرية معكوسة إلى أرجلكم، كعب الحذاء يقابل مشط القدم، حتى تخدعوا مقتفي الأثر الإسرائيليين، وأذكر عندما أخبرتني عن وسيلتك الناجعة في تجاوز حقول الألغام، حيث كنت تُسَيّر حماراً أمامك وتقتفي خطواته، كنت تضحك وأنت تتحدث عن براعة الحمير في تجاوز الألغام مؤكدًا أنه لم ينفجر لغم بحمار قط.

لم يخلو مكان في جسمك من أثر إصابة، أُصبت في رأسك وكتفك، ويدك، وقدميك، وفقدت إحدى عينك ومعظم قدرة النظر في الثانية، راوغت الموت نصف قرن كامل، عشت أكثر مما تتوقع أو يفترض بأمثالك أن يعيشوا.

كنت شقيًّا ومشاكسًا في شبابك، متهورًا إلى حد الرعونة، حدثتني يومًا كيف كنت تغزو مخازن سلاح تنظيم القيادة العامة في الأردن بعد انشقاقها عن الجبهة الشعبية، وعندما ملوا الشكوى منك بلا طائل، قاموا بنصب شراك متفجرة حول مخازن السلاح، فقمت بتفكيكها وضمها إلى غنائمك. وفي قصة أخرى من قصص تهورك الجنوني، حدثتني والدتي كيف أخدت بطاقة هويتها اللبنانية يومًا في عز فترة المواجهة بين المقاومة الفلسطينية في لبنان والقوات السورية، واتجهت إلى الجنوب الذي كانت طريقه تعج بحواجز الجيش السوري، كنت تبرز بطاقة هويتها للجنود السوريين، مراهنًا على أنهم لن يتمعنوا بما هو مدون فيها ولا الصورة، ونجح رهانك المجنون.

ولن أنسى ما حييت قصة مشهورة عنك بين من عرفوك في فترة الحرب الأهلية اللبنانية، حينها كنت مسؤولًا عسكريًا للجبهة الشعبية في منطقة الشياح، وهي منطقة تماس مع منطقة عين الرمانة المسيحية، وتمكن المقاتلون الذين كنت تقودهم من قتل ثلاثة من القوات الانعزالية، حاولوا التسلل خلف خطوط التماس، وحين دققت ورفاقك بجثثم الملقية في منطقة مكشوفة، ارتبتم من لون بشرتهم البيضاء، ورجّحتم أنهم إما مرتزقة أو إسرائيليين، وزاد من ارتيابكم إلحاح القيادة الفلسطينية عليكم للسماح لقوات الانعزاليين بسحب جثثهم، فرفضت ذلك، وحين جاءتك الأوامر من قيادة الجبهة تمردت وازداد إصرارك على الرفض، وقمت بنشر قناصة وأمرتهم بإطلاق النار على كل من يقترب من الجثث حتى وإن كان فلسطينيًا، وبعد محاولات عدة فاشلة، قاموا بإلقاء كلاليب على الجثث وسحبوها عن بُعد.

ولا تخلو القصص التي أذكرها عنك من إضاءة على بعض الجوانب المظلمة في تاريخ الثورة الفلسطينية، بما فيها الجبهة الشعبية، مثل قصة خروجك مع عدد من رفاقك من الأردن إلى لبنان، حيث توجهتم إلى أحد مكاتب الجبهة الشعبية، فرفضوا استقبالكم بعد أن اتهموكم بأنكم يمينيين من أتباع اليميني أبو علي مصطفى ! وبتّم ليلتكم الأولى في بيروت وليلتين أخريين على رمال شاطئ البحر، ثم أخبرتني كيف خرج مدّعي اليسارية هؤلاء من الجبهة الشعبية واستطفوا على يمين ياسر عرفات فيما بعد. من أهم الدروس التي تعلمتها منك ألّا أثق بمتطرف أو مُحْبِط، فهو في الغالب إما مدع كاذب أو مندس.

ومن مواقفك التي تكشف جانبًا من خصالك؛ تحديك بقوة لحالات الاستزلام والعصاباتية وفساد السلطة في الثورة، أخبرتني أمي كيف كنت تنام وتحت وسادتك مسدس وإلى جوار سريرك رشاش كلاشنكوف مذخّرين، في الفترة التي شهدت ظاهرة سيء الذكر أبو أحمد يونس داخل الجبهة الشعبية نهاية السبعينات، كنت مهددًا بالقتل من جماعته، وبعد ضغط من القائدين أبو علي مصطفى وأبو ماهر اليماني، وافقت على المغادرة إلى العراق لفترة من الزمن حفاظًا على حياتك، ثم عدت وقمت على رأس مجموعة باعتقال أبو أحمد يونس بعد أن ثبت تورطه بجرائم قتل ووضع في عهدتك حتى إعدامه، وهي معلومة أستطيع أن أكشفها اليوم لأول مرة. وقوبلت ظاهرة أبو أحمد يونس إلى جانب ظواهر كثيرة مسيئة شهدتها الثورة الفلسطينية في تاريخها بالتعتيم والتجاهل، لم نتعلم بعد كيف نستفيد من دروس الماضي ونمتلك شجاعة نقد أخطائنا، هذا ما قلته لي قبل أكثر من عام، حين تحدثنا آخر مرة حول هذا الموضوع.

أصدقك القول أني أشعر بكثير من الغبن والظلم لمغادرتك الباكرة ولم تُتِم بعد عامك السادس والستين، لكن عزائي أنه أتيح لنا أن نحول علاقة الأب وابنه المتوترة اللدودة التي جمعتنا لسنوات طويلة إلى صداقة متينة في السنوات الأخيرة، لا أذكر أني نشرت مقالًا قبل أن أرسله إليك لتقرأه وتعطيني رأيك، إلًا مقالي السابق الذي كتبته وقد اشتد عليك المرض وهذه السطور، وهي بالمناسبة ليست رثاء، فاسمح لي ألّا أرثيك، لا أشعر أن الرثاء هو ما تستحق، أنت تستحق أن يحتفى بحياتك لا أن ترثى، فالرثاء يكون بذكر الفراغ الذي خلفه غيابك، أما الاحتفاء فيكون باستذكار الأثر الذي أحدثته حين كان قلبك ينبض بالحياة، وهناك فرق.

أعلم أن تربيتي كانت مهمة شاقة بالنسبة لك، كنت عنيدًا متمردًا في صغري، استمع بإنصات لأوامرك وتعليماتك، وأفعل العكس تماماً. أذكر حين كنت تؤنبني إن عدت متأخرًا إلى المنزل في سنوات مراهقتي، فأعود في اليوم التالي متأخرًا ساعة أو اثنتين عن الذي سبقه، مستعدًا لجولة جديدة من الصراخ اليومي بيننا، كانت لدي نزعة استقلالية قوية، كنت أرغب بشدة ألا أشبهك أو أشبه أحدًا، لا أنتمي إليك ولا لأحد، لكن إن أردت الصراحة أنت تتحمل جزءًا من المسؤولية عن ذلك، طيبة قلبك المفرطة كانت تشجعني على تحديك، أَتَذْكُرُ حين طلبت مني مغادرة المنزل؟ كنت كلما ذهبت إلى بيت صديق من أصدقائي يقول لي أباك مر علينا وسأل عنك، طردتني من المنزل ثم سبقتني إلى كل مكان يمكن أن ألجأ إليه لترجعني، تراجعت عن عقابك في لحظة كالعادة.

أكتب لك هذه الرسالة وأعلم أنها لن تصلك أبدًا، وأن كثيرين سيقرؤونها إلا أنت، لم أستخدم فيها عبارات التمجيد والتفخيم، أنا لا أجيد استخدامها وأنت لا تحبذها ولا تكترث لها، لم تكن يومًا متفاخرًا رغم أن لديك الكثير الكثير لتفتخر به، فالتفاخر لأصحاب النفوس الناقصة وأنت لست كذلك. أما أنا فأخبرك اليوم كم أنا فخور بك، وأكثر ما يثير فخري هو أني ابن رجل عاش منسجمًا مع نفسه وقناعاته، كنت صادقًا في إيمانك بمبادئك التي كانت تحدد منظورك للحياة، لم تكن واسع الثقافة ولا منظرًا، لكن مقارباتك المبدئية لكافة القضايا كانت تجعلك أكثر تقدمية من كثير من أصحاب الثقافة الموسوعية ومنظري اليسار، كنت ديموقراطيًا حقيقيًا، مؤمن بالعدالة، مناديًا بالمساواة التامة قبل أن تتبلور النسوية في بلادنا، كنت تقول ما تمارس وتمارس ما تقول، لم تتعالى يومًا على أي مهمة نضالية، قبلت أن تتابع مهام تنظيمية يعتبرها كثر صغيرة في سنواتك الأخيرة، كالإشراف على تأسيس المنظمة الحزبية لشباب الجبهة الشعبية في غزة، وأنت في سن متقدمة نسبيًا، وتشغل منصبًا في العمل الحكومي، الذي غادرته بحساب بنكي شبه خاو، ولا تمتلك سوى شقة صغيرة تأويك وعائلتك.

في الختام أيها الصديق دعني أُسِر لك باعتراف أخير؛ أمضيت عمري وأنا أظن بأني لا أنتمي إلى أحد وحاولت أن أتمايز عنك، اليوم فقط بعد نحو أربعين عاماً اكتشفت كم أنتمي إليك، كم أنت حي في داخلي، كم أشبهك... وداعاً يا رفيق.