Menu

مهران والبرادعي وآخرون

عبد الله السّناوي

وهو يرقد على سرير في غرفة عناية فائقة، ربما استعاد قصته القديمة، التي حكمت حياته على مدى ستة عقود.
كان شاباً صغيراً تجاوز بالكاد السابعة عشرة من عمره، عندما وجد نفسه يتطوع في الحرس الوطني، يتدرب على السلاح، ويقود سرية صغيرة لحماية مطار الجميل في بورسعيد أثناء حرب(1956). 
حاول بقدر ما يستطيع أن يوقف مع رفاقه المتطوعين هبوط المظليين البريطانيين، بعد قصف كثيف للمطار، ألحقوا خسائر فادحة بقوات الغزو، لكن لم يكن ممكناً وقفه، وسقط أسيراً، وكان الانتقام مروعاً.
خضع لمحاكمة عسكرية ميدانية وتقرر الحكم عليه بأغرب حكم في تاريخ الحروب، أن تنزع مقلتاه بزعم أنه تسبب بزخات رصاصه في إصابة ضابط بريطاني بالعمى حتى يمكن نقلها إليه.
هكذا حملته طائرة حربية إلى قبرص حتى تتم تلك العملية، التي تخاصم القوانين الدولية مع أسرى الحرب على نحو فاحش.
في المحاكمة الصورية قال إنه لم يرتكب جرماً، فقد كان يدافع عن بلده، وهذا واجبه، ورفض أن يسب «جمال عبدالناصر»، فهو رمز المقاومة الوطنية المصرية في تلك اللحظة الحاسمة، وسبه تنصل من أي معنى يجعله يحترم نفسه.
بشهامة «ابن البلد» تقبل مصيره، وعاش أغلب عمره ضريراً يطل على العالم من خلف نظارة سوداء لا يرى منه شيئاً. فقد بصره بجريمة حرب، لكنه لم يفقد بصيرته بضمير إنسان. عاش وروى قصته عشرات المرات، زاره «عبدالناصر» في مستشفى عسكري، كالذي يرقد فيه الآن، وسأله بعامية مصرية: «أزيك يا محمد؟».
عرفه من صوته وقال كلاماً كثيراً مفاده أن كل شيء يهون مقابل ما حصدته مصر من نتائج الحرب التي أفضت إلى غروب أكبر إمبراطوريتين في ذلك الوقت، البريطانية والفرنسية.
عندما نقل هذا الأسبوع إلى مستشفى المعادي العسكري بدا للأطباء أن يسألوه عما حدث لعينيه، ولماذا تبدوان كأنهما اقتلعتا. روى قصته بالكلمات والأوصاف نفسها التي رددها مئات المرات، كأنه راو لسيرة شعبية على مقهى كالتي كان يستمع إليها المصريون قبل دخول الراديو، لكنه بدا هذه المرة واهناً بأثر المرض الشديد.
قال لابنته عندما انفرد بها حزيناً: «إنهم لا يعرفونني». لم يكن ذلك صحيحاً تماماً، فمصر لا تنسى، وإن مرت غمامات على ذاكرتها، و«النيل لا ينسى كما كنا نظن»، على ما أنشد ذات مرة الشاعر الفلسطيني «محمود درويش». شيء من الذاكرة استدعى اهتماماً جدياً بتدهور حالته الصحية.
«‬إنه واحد من أبطالنا».‬‬ هكذا تردد الوصف ف«إذا لم نهتم بحياته فإن الرسالة السلبية أن مصر تتنكر لأبطالها الذين ضحوا من أجلها».
لم تكن قصة «محمد مهران» جملة عابرة في تاريخ بورسعيد، التي وصفت دوماً ب«الباسلة»، فقد لخصت معاني كبرى ظلت تلهم أجيالاً متلاحقة.
عندما نتحدث عن تلك المدينة المصرية فإنها تعني «مهران» ومجايليه، الذين لم يلقوا تكريماً يستحقونه، ولا تضمنت مناهج دراسية سيرتهم حتى بدا سؤال: «ما الذي حدث لعينيك؟» طبيعياً ومحزناً في الوقت نفسه.

في تلك الأيام البعيدة ألهم تأميم قناة السويس والصمود المصري أمام عدوان ثلاثي، الشعوب المغلوبة على أمرها أنها تستطيع أن تنال حريتها واستقلالها، فإذا كان بوسع دولة صغيرة مستقلة حديثاً أن تتحدى مستعمريها الذين غادر آخر جنودهم معسكرات قناة السويس قبل أيام تعد من تأميمها، وأن تقاتل، وتصمد، وتعلن إرادة المقاومة حتى النهاية، فإن بوسع الشعوب المستضعفة الأخرى أن تنهج الخط نفسه.

لقد اكتسبت مصر مكانة إقليمية ودولية رفيعة من جراء تضحيات أبنائها في ميادين القتال.
لا يوجد شيء مجاني في التاريخ، ولا تولد زعامة بالادعاء. ولدت زعامة «عبدالناصر» بإرادة المقاومة، وصرخته من على منبر الأزهر الشريف: «الله أكبر.. سنقاتل ولن نستسلم أبداً». تحمل مسؤولية الموقف التاريخي، ولمس عمق الجرح الوطني، فقد كانت مصر للقناة، ولم تكن القناة لمصر حتى بدت رهينة لها.
لم تكن مصادفة أن مصر اكتسبت قيادتها للعالم العربي والقارة الإفريقية، وتقدمت لقيادة حركة عدم الانحياز بأثر ملحمة الصمود في بورسعيد. لا توجد أدوار بلا أثمان، وتكاليف، ومتطلبات، وأي زعم آخر تجديف في الوهم.
في ملحمة المقاومة، بتضحيات أمثال «مهران»، ولدت روح جديدة في مصر لخصتها رواية «الباب المفتوح» للأديبة الراحلة «لطيفة الزيات» في طلب تقدم المرأة وحريتها.
اكتسبت حقها في الحرية في الانضمام إلى الفدائيين لإسعاف الجرحى وتضميد الآلام.
كما تولدت حقيقة أساسية أن من قاتلوا، ودفعوا فواتير الدم هم أصحاب الحق الأصيل في البلد، في الصحة، والتعليم، وحق، العمل، والترقي بالكفاءة من دون تمييز.
بروح التضحية تغير وجه الحياة في مصر، وقد كان «مهران» واحداً من أيقونات ملحمة التغيير الكبير، غير أنه من ثغرات يوليو/تموز جرت هزيمة عسكرية فادحة في (١٩٦٧) قبل الانقضاض على إرثها الوطني، كأنه اغتيال لكل معنى في أية تضحية.
وهو على سرير مرضه الشديد، ربما لم يخبره أحد بما قاله الدكتور «محمد البرادعي» بعد لقاء ضمه إلى رئيس الوزراء «الإسرائيلي» الأسبق «إيهود باراك» في ملتقى «ريشموند» بالولايات المتحدة من «إننا ضللنا الطريق لنكون عادلين وموضوعيين سبعين سنة» قاصداً منذ نكبة (١٩٤٨)، التي أفضت إلى اقتلاع شعب من أرضه بترويع السلاح.
أي عدل.. وأية موضوعية؟
لا يمكن لأمة تحترم نفسها أن تنكر ما تعرضت له من عدوان عنصري وممنهج على أبسط حقوقها في أراضيها، وإنسانيتها، باسم «إننا نفتقد الصورة الكبيرة وهي أن الحرب والعنف ليسا حلاً».
لا أحد يطلب الحرب، لكن أين هو السلام؟ وما معنى كل تلك التنازلات المجانية التي تقدم لمجرمي حرب بالمعنى الجنائي الدولي؟ إذا ما كان هناك عدل في هذا العالم.
وما معنى أن يقول «إيهود باراك»: «نريد أن نرى الفوائد التي سوف تترتب على السلام؟»، إذا ما كان هذا السلام استسلاماً مجانياً يدمج «إسرائيل» اقتصادياً واستراتيجياً في الإقليم من دون أي انسحاب من أية أراض محتلة في الضفة الغربية و القدس والجولان السورية.
هل هذا هو المقصود ب«صفقة القرن» التي سارع «البرادعي» للالتحاق بها لعله يعود من البوابة «الإسرائيلية»؟
وماذا قد يخطر على بال رجل فقير، لم يحز جائزة نوبل للسلام، وهو يتطلع في الظلام إلى شيء من الأمل في بلد منحه عن طيب خاطر نور عينيه؟
ربما تساعده حكمة «أمل دنقل» على إبصار الحقيقة: «هي أشياء لا تشترى»، كما لا تباع.