Menu

ضـربــة عـلـــى الـمـفـاصــل

طلال عوكل

مخطئ من يعتقد أن التسونامي الذي ضرب منطقة الشرق الأوسط ابتداءً من الحلقة الأضعف والأهم، وهي المنطقة العربية، آخذ في الهدوء لمجرد وقوع بعض التطورات الإيجابية في هذا البلد أو ذاك. 

لا نقصد الخوض مجدداً في أسباب وعوامل هذا الانفجار الضخم، لكن كل يوم يمر يؤكد أن المنطقة، تشهد تحولات تاريخية مستحقة، من المرجح أن تستمر لعقود، قبل أن تستقر على تغيرات في الجغرافيا السياسية، وأيضاً في طبيعة الأنظمة السياسية السائدة. 

ثمة مظاهر خادعة منها ـ على سبيل المثال ـ غياب دور المفكرين والمثقفين، والأهم غياب القوى الحاملة لمشاريع التنوير والحداثة، وملاحقة ركب التطور العالمي. 

وبخلاف الشائع من أن التسونامي بدأ من تونس أواخر العام 2010، فلقد تعرض العراق، كدولة مركزية مهمة في البعدين الحضاري والتاريخي، إلى الموجات الأولى من تسونامي، منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، على أثر الخطأ التاريخي الذي ساقه إلى احتلال الكويت ، وما تلا ذلك من حصار، وغزو أميركي أدى إلى احتلاله.

ما يقرب من ثلاثة عقود، وبدوافع سياسية أميركية قصدية، عاش العراق حالة من الفوضى، والتدمير، والصراع الطائفي والإرهاب، وتجفيف موارد الدولة النفطية. 

المناخ الجديد في العراق، الذي عمّقت فيه حكومة المالكي، الصراعات الطائفية، ووضعت الكثير من الأسمدة الكيماوية في جذور الكراهية والإرهاب، أدت بالإضافة إلى عوامل أخرى أميركية إسرائيلية أساساً إلى ظهور واتساع وتصاعد دور تنظيم الدولة الإسلامية، الذي يؤرق العالم بأسره.

ولكن ما أن بدأت تلوح في الأفق بوادر هزيمة تنظيم الدولة بعد تحرير معقلها الرئيس في الموصل، وقبل أن تنجح الدولة العراقية في ملاحقة فلول التنظيم، كان على حكومة العبادي أن تواجه تطوراً خطيراً من نوع آخر، يتمثل في بلوغ الطموحات القومية الكردية، نقطة الحسم باتجاه الاستقلال بدءاً بإجراء الاستفتاء.

ليس على أحد أن يتفاجأ من القرارات والإجراءات التي اتخذتها قيادة الإقليم بزعامة ملا مسعود البرزاني، الذي تابع مسيرة والده مصطفى والذي خاض قتالاً عنيفاً، ساعده في ذلك الطبيعة الجغرافية للشمال العراقي، وكان يحلم بتحقيق الاستقلال.

الأكراد موجودون كأقليات قومية كبيرة، في عديد الدول، أكبرها الأقلية الكردية في تركيا ثم تليها الموجودة في إيران ثم في العراق وأخيراً في سورية.

نجح الأكراد بقيادة ملا مصطفى البرزاني في أن ينتزعوا حكماً ذاتياً لهم، لم تنجح كل محاولات البعث العراقي، التي اعتمدت سياسة التعريب في أن تفتّ من عضد الأكراد. 

وخلال مرحلة ما بعد الغزو الأميركي للعراق، طوّر النظام الفيدرالي، الحكم الذاتي بمزيد من المكاسب التي جعلت من المنطقة الكردية دولة داخل الدولة المركزية.

الأكراد تسلّموا رئاسة الجمهورية، وحصلوا على مناصب سيادية في كل مواقع الدولة المركزية، التشريعية والتنفيذية، غير أن الأهم هو بلورة كيانية ذات هوية كردية. 

ثمة برلمان وحكومة ورئيس لإقليم كردستان، مدعوم بجيش محترف ومسلح جيداً اسمه قوات البيشمركة، كما نجحت إدارة الإقليم في أن تكون شريكاً مضارباً في إنتاج حقول النفط التي تزخر بها المنطقة الشمالية من العراق. 

البيشمركة لعبوا دوراً بارزاً في الحرب على داعش، وفي تحرير العديد من المناطق والبلدات والقرى المحيطة بالموصل، لكن هذا الدور كان محصوراً في اطار استراتيجية تهدف إلى إبعاد الخطر الداعشي عن المناطق والسكان الكرد.

وفي اطار التكتيكات المهمة التي اتبعتها قيادة الإقليم، تم توزيع السيطرة على مناطق ومدن أخرى، لا تحظى بأغلبية كردية، إما لأنها مناطق غنية بآبار النفط وإما للمساومة لاحقاً على الاحتفاظ بالسيطرة على المناطق الكردية كحد أدنى.

تدرك قيادة الإقليم، طبيعة المخاطر والتهديدات التي تنتظرها من وراء خطوة إجراء الاستفتاء، ذلك أن الإقليم الذي يمكن أن يتحول إلى دولة مستقلة، محاصر من الجهات الأربع، ولا يوجد له أي إمكانية للتواصل مع الخارج، ولكنه يحظى بتواصل مع الأكراد في الدول المحيطة بالعراق. هذه هي الورقة الأهم، إذ سيكون بمقدور القيادة الكردية، أن تستنفر طاقة الأكراد، وتغذي لديهم الأمل في تحقيق الاستقلال، ما قد يدفعهم لتصعيد قتالهم ضد الأنظمة التي يقعون تحت سيطرتها مرتكنين إلى القاعدة الصلبة والقوية التي تتوفر لهم في شمال العراق. 

كان اختيار الأكراد مناسبا في المكان ولكن ليس في الزمان، إذ يشكل العراق الحلقة الأضعف، ويشكلون هم الحلقة الأقوى والأكثر جاهزية من التجمعات الأخرى. 

ما حول العراق يعاني، أيضاً، من عديد الأزمات، وربما راهن الأكراد على التناقضات في الأدوار والمصالح بين سورية وتركيا، وسورية وإيران وتركيا، فضلاً عن تضارب أدوار الدول الكبرى الفاعلة في المنطقة.

على أن ما لا يدركه الأكراد هو أن الخطر الذي تشكله الدولة الكردية على الدول المحيطة، يحظى بأولوية على أي مخاطر أخرى، حيث إنه يهدد بانفجار الصراعات القومية في تلك الدول ويهدد وحداتها الجغرافية. 

خطوة الاستفتاء أدت عملياً وبسرعة إلى بداية تصعيد متدرّج تعتمده الدول الثلاث: العراق وتركيا وإيران، ما قد يصل إلى مستوى بدء عمليات حربية عسكرية.

الأكراد مصممون على ما أقدموا عليه رغم ما يشعرون به من خذلان إزاء مواقف الدول والأهم موقف الولايات المتحدة التي عارضت على نحو علني الاستفتاء. 

وربما كانت الثغرة الأكبر، أن تعلن إسرائيل دعمها للاستفتاء والاستقلال، ذلك أن إسرائيل التي ترفض منح الشعب الفلسطيني حقه في تقرير مصيره، تجيز لنفسها ولأسباب تتعلق بالمصالح والمخططات والأهداف التقسيمية، بأن تجاهر بدعم استقلال إقليم كردستان.