ابتداءً، بات من نافل القول بأن طبيعة المرحلة التي نمر بها كفلسطينيين ورغم مرور ما يزيد عن ربع قرن من توقيع اتفاق أوسلو وإقامة سلطة الحكم الإداري الذاتي، كانت ولا تزال مرحلة تحرر وطني من الاحتلال الصهيوني، وهذه حقيقة لا تحتاج إلى كثير من الشواهد للتأكيد عليها. والقول بعكس ذلك غير أنه محزن فإنه تعبير عن إنكار سفيه وانسحاق أمام حقائق الواقع الواضحة، التي ستتخطى من يتعامل معها بجهل أو غباء أو معاندة أو ارتجال. فالتعامل مع القضايا الكبرى يحتاج لقيادة واعية تمتلك رؤية واضحة واستراتيجية شاملة وتتحلى بمسؤولية عالية، تحدد حسابات الربح والخسارة بدقة، وتراكم عوامل القوة، وتعزز التماسك والمنِعة والوحدة، وتستثمر في طاقات وكفاءات شعبها، وتسير به نحو تحقيق أهدافه الوطنية.
إن التصريحات التي صدرت عن العديد من "القيادات" في منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة، حول سلاح المقاومة يعبر عن قيادة في مستواها ومضمونها وأدائها عكس المقصودة فيما سبق من قول، أقول ذلك لأن هذه القضية الكبرى لا يمكن التعامل معها بهذا الاستخفاف والاستهتار بأن يجري نقاشها أو السجال حولها، عبر وسائل الإعلام، لتختفي خلفها كل من الإدارة الأمريكية وحكومة الاحتلال الإسرائيلي، وتعيدا مطالبهما القديمة – الجديدة، بسحب سلاح المقاومة وتفكيك بنيتها، والاعتراف بشروط اللجنة الرباعية والاعتراف "بإسرائيل"، لقبول مشاركة حماس في حكومة فلسطينية متوقع تشكيلها كأحد نتائج المصالحة الفلسطينية، لتصبح هذه التصريحات بمثابة حبل مشنقة لفته هذه "القيادة" حول عنقها بيديها.
غير أن تناول هذه القضية الكبيرة بكل هذا الاستخفاف والاستهتار، يُلقي بالألغام الخطيرة، أمام المصالحة وإمكانية تحققها بالشكل المأمول وبما يفتح الباب لتحقيق وحدة وطنية حقيقية، فإنه يُنذر بأن أي جولة صراع داخلية قادمة ستكون نارها أشد، بين القوى السياسية والاجتماعية التي ستبقى تواصل النضال بكافة أشكاله ضد العدو الصهيوني، وبين القوى التي ارتبطت بالاحتلال ومخططاته وتعمل على حمايته ومنع الصدام معه، مما يدفع الشعب الفلسطيني لدوائر التآكل الداخلي عبر الإضعاف والإنهاك والاستنزاف الذاتي.
ما سبق يحيلنا إلى اتفاق أوسلو، وما تضمنه من شروط، تزيد وتضاعف من هذا الخطر، في ظل قبول سلطة الحكم الذاتي، أن تقوم بوظيفة شرطي الأمن للإسرائيلي، تحت أوهام أن ذلك يوفر أرضية مناسبة لتحقيق السلام، من خلال نزع تنازلات من العدو الصهيوني لقاء أمنه والدفاع عنه. وهذا ليس كل ما في الأمر، بل إنه يعبر أيضًا عن اتجاه ساد في ساحة العمل الفلسطيني منذ أواسط السبعينيات، يرى أن لا فائدة من الكفاح المسلح وأشكال المقاومة الأخرى في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، على قاعدة أن الحل بيد من يستطيع أن يُلزم "إسرائيل" بتقديم تنازلات من أجل تحقيق تسوية عادلة في المنطقة، ومن يستطيع ذلك هي فقط الولايات المتحدة الأمريكية، التي بيدها (99%) من أوراق اللعبة/الحل، بحسب زعمهم. وأمام هذا القول لا يكون أي قيمة لقوة الوضع الداخلي، طالما أن الغلبة والكلمة العليا للعامل الخارجي، فليس غريبًا حينها أن تصبح الولايات المتحدة الراعية الوحيدة للتسوية، وليس غريبًا، أن يبقى التعويل عليها رغم انكشاف زيف نزاهتها وعدالتها، كما ليس غريبًا أيضًا، أن يبقى هذا النهج ساريًا بيننا، فلا يزال صاحب هذا النهج ومؤيديه على رأس "المؤسسة الفلسطينية"، ويجزمون أن نتائج الصراع ستتقرر على طاولة المفاوضات بين رجال عادلين، وليس تحت ضغط موازين قوى معلومة ومحددة، وفي ضوء قدرة كل طرف على إدارة الصراع بما في ذلك المفاوضات من خلال توظيف واستثمار ما يملك من مقومات ومكونات وعناصر قوة ببراعة، وتحييد ما أمكن من عناصر قوة العدو.
لقد دللت هذه السياسة من جانب على عدم امتلاك رؤية صحيحة للصراع مع العدو الصهيوني، ارتباطًا بطبيعته وجوهره وعناصره وتحالفاته ومشاريعه السياسية، وليس ارتباطًا بفهم الصراع كعملية فهلوية لبعض القيادات والزعامات الفردية، مما قاد إلى وضع حقوق وأهداف ومصالح الشعب الفلسطيني، تحت سقف الشروط والإملاءات الصهيونية – الأمريكية.
على أصحاب هذا النهج أن يسألوا أنفسهم، ماذا يتوقعون أو ينتظرون من شعب سُلبت أرضه، ودمرت بنيته المادية في أرض وطنه، ومصلوب أمام مرأى ومسمع العالم بأسره منذ ما يزيد عن سبعين عامًا، سوى أن يذود عن أرض وطنه وأن يدافع عن نفسه وأن يعمل لاسترداد حقه؟! فهذا حقه الطبيعي، بل واجبه الذي لا يجب أن يتأخر عنه، في الدفاع عن نفسه وأرض وطنه، بمختلف أشكال النضال، بما في ذلك الكفاح المسلح، فما ترفضوه أنتم، كفله القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، التي أقرت بحق الشعوب في النضال واستخدام القوة لاسترداد حقوقها والدفاع عن نفسها، فهل لكم أن تحرموا شعبًا أنتم "قيادته"، من حق كُفل بقوانين وقرارات أممية، - تدَّعون بأنكم تسعون للعمل على تطبيقها - وتسحبوا منه أحد مقومات وعناصر قوته؟! بالطبع، لن يكون ذلك إلا في حالة واحدة، أن تكونوا من الأساس ضد أي شكل من أشكال المقاومة، حتى في حدودها الدنيا، فيصبح الاستهداف ليس فقط لسلاح المقاومة بل لثقافة وبنية ومقومات المقاومة، وبمعنى آخر استهداف شعبها..!!
إن ما يجب أن لا نفقده أبدًا أن طبيعة العدو الصهيوني وبنيته العنيفة/الإرهابية، ومشروعه وأهدافه التوسعية/التصفوية، التي تتعارض وتتناقض بشكل سافر مع أهداف ومصالح وآمال شعبنا الفلسطيني كما أمتنا العربية، وتطورها الطبيعي، يفرض ديناميات استمرار حالة الصدام والمجابهة معه ومع مشاريعه، وتتطور أشكال وأساليب النضال تبعًا لحدة الصراع في كل مرحلة من مراحله، وأي محاولة للتمويه أو التجاوز أو التجاهل لهذه الحقيقة، باسم السلام، أو توفير واقع مشترك من التفاهم أو مجافاة الظروف أو الصراخ بمقولة "يا وحدنا"، لن يُكتب لها النجاح أو الحياة بمعنى أدق، كونها تعاكس منطق الواقع وطبيعة المشروع الصهيوني وجوهره الحقيقي القائم على العدوان والإرهاب والاستيطان والمحاولات المحمومة لإلغاء الوجود الفلسطيني.
أخيرًا، من المفيد التذكير بأن المقاومة كمفهوم وممارسة لا تقتصر على العمل المسلح فقط، بل تتخذ أشكالًا سياسية وثقافية واقتصادية وتعليمية واجتماعية وإعلامية... وعلى مختلف جبهات الصراع ومحافله. كما من المفيد التأكيد بأن سلاح المقاومة ليس للاستعراض أو التوظيف الداخلي أو لتعميم الفوضى أو إرهاب المجتمع، أو رهن للاستخدام العفوي والقرار الفردي، مما يطرح ضرورة البحث بين قوى المقاومة عن الشكل الأفضل لتوحيد وتنظيم وتعظيم جهدها وقرارها، بما يخدم المشروع الوطني الفلسطيني وأهدافه التحررية.