بمناسبة الذكرى العاشرة لرحيل (الحكيم) جورج حبش ، تنشر بوابة الهدف، هذه المقالة للكاتب: نصار إبراهيم، والمعنونة بـ: قوى اليسار الفلسطيني ومعضلاتها.
لقد كان موضوع اليسار، ذات أهمية كبيرة عند الحكيم، وبحكم موقعه، كأمين عام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، تناول موضوع اليسار وكتب عنه كثيراً، حيث حملت أحد مقالاته عنوان: أزمة اليسار العربي.. إلى أين؟ وجاء فيها: "لا يمكن الحديث عن أزمة اليسار العربي، وأسباب حالة الانكفاء والتهميش التي وصل إليها اليوم دون مراجعة تاريخ هذه الحركة، والوقوف أمام أخطائها ومنعطفاتها على مستوى التكتيك والاستراتيجيا. ولا بد أيضاً النظر إلى الموضوع من منظور تاريخي جدلي يدقق ويتفحص الصيرورة التاريخية لحركة اليسار العربي، وأهم المفاصل والمحطات التي مر بها ارتباطاً بالظروف الموضوعية والذاتية، الداخلية والخارجية. صحيح أن المقالة المرفقة تتحدث عن معضلات اليسار الفلسطيني، لكنها تصلح كقاعدة لمناقشة واقع اليسار بشكل عام (هيئة التحرير).
قوى اليسار الفلسطيني ومعضلاتها!
تقديم
أن تعتقد أي قوة سياسية أنها خارج نطاق الأزمات، هذا بحد ذاته تعبير عن أزمة معرفية ومنهجية حقيقية على صعيد وعيها لذاتها ودورها.
موضوع قوى اليسار الفلسطيني ليست شأنا تنظيميا خاصا، بل هي مسألة وطنية بامتياز، ذلك لأن حالة الضعف التي تعاني منها تلك القوى، وإن بتفاوت نسبي من تنظيم لآخر، تنعكس على مجمل واقع وأداء الحركة الوطنية الفلسطينية، كما تؤشر إلى اختلال عميق في التوازن الذي يجب أن يحكم واقع تلك الحركة بحيث لا تصبح قضية الشعب الفلسطيني بكل أبعادها ودلالاتها وأهميتها تحت رحمة هيمنة قوى سياسية معينة.
لهذا فإن الوقوف أمام واقع ودور قوى اليسار الفلسطيني ليس ترفا، بل هو ضرورة وطنية تمليها التحديات والصعوبات والمخاطر التي تواجهها القضية الفلسطينية ونضالات الشعب الفلسطيني.
المعضلة أو الإشكالية:
تتجلى المعضلة الاستراتيجية لحركة التحرر الوطني الفلسطيني عموما وقوى اليسار الفلسطيني على وجه الخصوص في عجزها حتى اللحظة عن توفير شروط التحرر والاستقلال لإنهاء الاحتلال الكولونيالي واستعادة حقوق الشعب الفلسطيني الوطنية والقومية... ليس هذا فحسب بل وذهاب التناقضات الداخلية نحو مشهد غير مسبوق من الانقسام والتشرذم؛ الانقسام على المستوى الوطني العام من جانب، والتشرذم على مستوى قوى اليسار الفلسطيني نفسها من جانب آخر، فيما يواصل الاحتلال الكولونيالي سياساته ومشاريعه بمزيد من الاجراءات وفرض الوقائع التي تجعل منه احتلالا مديدا... يشمل ذلك استمرار الحصار على قطاع غزة؛ اخفاق استراتيجية التفاوض وتقديم التنازلات فلسطينيا، وبالتالي فشل ما يسمى "عملية السلام" في سياق رفض الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني وفي مقدمتها حق العودة، واستمرار سياسة الاستيطان بصورة متواصلة وخاصة في القدس المحتلة المحاصرة؛ نهب وسرقة الثروات الفلسطينية الطبيعية مثل الأرض والمياه والآثار والتراث، الاعتداءات والحروب المتواصلة ضد الشعب الفلسطيني؛ بقاء ما يقارب 7 مليون لاجئ فلسطيني مشردين في المخيمات المنتشرة في داخل فلسطين وفي الدول العربية المحيطة.
أما على الصعيد الاقتصادي الاجتماعي فتبدو الصورة أكثر قتامة وضراوة وذلك بسبب طبيعة التحديات البنيوية التي يفرضها الاحتلال على المجتمع الفلسطيني من جانب، وبحكم البنى السياسية والطبقية المهيمنة في هذا المجتمع من جانب آخر.
فالاعتماد الكبير على التمويل الأجنبي بكل اشتراطاته السياسية والاجتماعية في سياق الخضوع والتبعية الاقتصادية التي يفرضها الاحتلال الكولونيالي الإسرائيلي بقوته الاقتصادية والعسكرية، لا يقف تأثيرهما على الجوانب الاقتصادية والاجتماعية بل يمتد ليتحول إلى أداة ابتزاز سياسي يضرب في عمق الأهداف الوطنية الفلسطينية التحررية. حيث تتجه الطبقات المهيمنة إلى استخدام آليات السوق في المجتمعات الضعيفة للتعويض عن طريق منظومات الفساد وسرقة الرأسمال العام، والسمسرة والصفقات المشبوهة... وذلك بهدف الاستيلاء على أكبر حصة من الناتج القومي، وفي مواجهة ذلك تلجأ "الدولة/السلطة" للتعويض عن هذه الاختلالات البنيوية إلى رفع الدعم وزيادة الضرائب بما يضع المواطن بين شقي رحى القطاع الخاص المتوحش، وخاصة حين تصبح السلطة أداة في يد القطاع الخاص والتمويل الأجنبي واشتراطاته... ولتحقيق هذه الهيمنة الطبقية يجري التحالف أو التقاطع ما بين رأس المال والسلطة السياسية والإعلام لكي يتم إحكام القبضة على ردود الفعل الاجتماعية وضبطها بحيث لا تتحول لحركة جذرية للتغيير.
هذا الواقع بأبعاده المختلفة بقدر ما يشير إلى أزمة فلسطينية عامة، إلا أنه في ذات الوقت يضع قوى اليسار الفلسطيني أمام أزمة أكثر عمقا بحيث تضع علامة سؤال جدية على برامج أو مشروع اليسار الفلسطيني السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والكفاحي ذاته، وقدرة ذلك البرنامج على إقناع الشعب الفلسطيني بقيمته وجدواه كبرنامج يجيب على أسئلة الناس ويلبي مطالبهم، بما يوفر التوازن والتناغم بين مهام التحرر الوطني وانهاء الاحتلال وتحقيق طموحات الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال ومهام البناء الاجتماعي وتلبية حقوق واحتياجات المجتمع الفلسطيني الاقتصادية والاجتماعية، ف" في الحياة العملية، لا يمكن للمرء أن يطلب من الآخرين الحماس والتضحية .. إلخ دون مقابل" (أنطونيو غرامشي - كراسات السجن، ص 103 –– دار المستقبل العربي – القاهرة – 1994)، هنا التحدي.. وهنا يتقرر النجاح والفشل.
فهل يملك اليسار الفلسطيني اليوم برنامجا مقنعا وعمليا وعلميا..؟ أم أنه لا يزال يتحرك وفق البرامج التي صاغها قبل عقود؟.
قوى اليسار وسياسة "حرب المواقع" والتجاوز الجدلي:
ما يقوله الواقع وتقوله التجربة هو أن التصدي لتلك الأزمات يجري في الغالب بصورة عاطفية وأحيانا بصورة عشوائية أو ارتجالية، وفي الغالب وفق استراتيجية رد الفعل وليس وفق رد الفعل الاستراتيجي، وكأن التناقضات السياسية - الاجتماعية هي مجرد سوء فهم وليست تعبيرا عن تناقضات عميقة بين مصالح طبقات متصارعة.
فعلى الصعيد السياسي يبدو اليسار الفلسطيني في حالة عجز ومراوحة لا تتناسب مع دوره وتاريخه وتضحياته.. كما لا تتناسب مع ما يفترض أنه وجد من أجل حله والتعامل معه من مشكلات وتناقضات سياسية واجتماعية وثقافية، مما وضع الحالة السياسية الفلسطينية تحت رحمة التناقض والتوازن بين حركتي فتح وحماس كقوى مهيمنة.
البديل الوطني الثوري لهذا الواقع يعني النضال الشامل لقيادة الطبقات الشعبية الفلسطينية في مختلف أماكن تواجدها والتعبير عن مصالحها الوطنية والاجتماعية، ف"الحزب الثوري لا يمثل فقط الحاجات المباشرة للأشخاص الذين تتألف منهم الطبقة التي يمثلها، بل عليه أن يمثل الحركة الثورية ككل، باعتبارها تطورا تاريخيا متكاملا. كما يمثل الحاجات المستقبلية، أي أنه مرة أخرى لا يمثل حاجات أفراد بعينهم، بل كل الجماعات (الطبقات) الوطنية، التي يجب أن تستوعبها الطبقة الاجتماعية الأساسية القائمة.
هذا هو جوهر دور اليسار الاجتماعي والسياسي والثقافي، هذا الدور لا يتحقق بمواقف وممارسة واستراتيجية تقوم على التردد والتشتت والالتباس والاكتفاء بالنقد والمعارضة الخطابية للقوتين الأساسيتين في الساحة الفلسطينية، أي حركتي فتح وحماس، ذلك أن دور قوى اليسار الفعلي يتجاوز النقد نحو تأسيس البديل، وعلى مختلف المستويات... ثقافيا وتنظيميا وعمليا.. أي بمعنى قيادة المواجهة السياسية والاجتماعية.
إذن المطلوب خطوة استراتيجية حاسمة لتجاوز هذه المعضلة وحالة الانحباس والانتظار التي تعيشها قوى اليسار الفلسطيني
غير أن هذه الخطوة تستدعي مغادرة قوى اليسار الفلسطيني حالة "حرب المواقع الثابتة أو الثورة السلبية إلى حرب الحركة" وفق تعبير غرامشي، وهذا لن يتحقق إلا بامتلاك قوى اليسار الفلسطيني لشروط "التجاوز الجدلي" للواقع القائم، يشرح غرامشي هذه الفكرة كما يلي: -
لا يندثر أي تكوين اجتماعي طالما قوى الانتاج التي نمت داخله، لا تزال تجد متسعا لحركتها.
المجتمع لا يطرح على نفسه مهاما لم تتهيأ بعد الشروط الموضوعية لحلها.
بمعنى أن قوى اليسار الفلسطيني ولكي تتجاوز الواقع عليها أن تلقي بثقلها لقيادة القوى الاجتماعية، وهذا لن يتحقق من خلال الاكتفاء بنقد برنامج القوى النقيضة. دور اليسار يتحقق بالأساس من خلال النجاح في اقناع الطبقات الاجتماعية بجدوى برنامج اليسار ذاته، وقدرته على قيادتها فعليا، غير أن تحقيق هذا التجاوز يتطلب بنى تنظيمية مناسبة وقادرة على خوض المواجهات السياسية والاجتماعية، وقادرة على قيادة الطبقات الشعبية ثقافيا وعمليا.
فالسؤال هنا هو: كيف ستنحاز الطبقات الشعبية لقوى اليسار عمليا بدون صراع ومواجهة طبقية مع القوى المسيطرة!؟.
إذن أهم شرط يميز البرنامج أو المقاربة أو التحليل اليساري في حالتنا الفلسطينية، هو القدرة والعمق في ربط مهام التحرر الوطني بمهام النضال والمطالب الاجتماعية، والربط هنا بمعنى رؤية تأثير التموضع والانتماء الطبقي في تحديد الخيارات والبرامج والمواقف السياسية والاجتماعية... هذه الإشكالية تضعنا بالضبط في مواجهة السبب الجوهري لأزمة اليسار الفلسطيني...
هنا تتبدى الأهمية والقيمة الكبرى للفكر والمنهج الماركسي، الذي تعلن مختلف قوى اليسار الفلسطيني أنها تتبناه وتسترشد به، لفهم ما يجري في الواقع الفلسطيني ... فهو أداة منهجية صارمة وعلمية إلى أبعد الحدود من أجل وعي ذلك الواقع ومغادرة دوائر التخبط والتجريب والشتائم والتكفير والغيبيات والجهل والمقاربات الأخلاقية والمناشدات الساذجة... فالماركسية علم وليست تنجيم... وكم كان كارل ماركس يرفض ويكره مفهوم "التنبؤ" فهو يستنتج ولا يتنبأ...
ما يميز اليسار عادة هي رؤيته الاجتماعية، ولكن بشرط أن تكون مستمدة من وعي الواقع بعمق... وليس مجرد شعار أو ادعاء.. فبإمكان أي كان أن يدعي ما يشاء... ولكن هل الواقع يستجيب لهذا الادعاء ويقبل به هكذا ببساطة!؟.
لتوضيح هذه المعضلة أكثر لننظر، على سبيل المثال لا الحصر، إلى المنتوج والخطاب الاجتماعي والسياسي الثقافي المتعلق بقضايا المرأة، حيث يعتقد الكثيرون أن المسألة مجرد كلام وشعارات.. أو مجرد قوانين مدنية، أو كما يقول البعض إنها بسبب العادات والتقاليد، ولكن كيف ومن أين وفي أي سياقات تشكلت تلك العادات والتقاليد والبنى القانونية والمدنية؟.
تحرر المرأة ليس مجرد عملية لغوية أو اعتباطية أو أمنيات أو تصورات ذهنية... بل عملية تاريخية اجتماعية مشروطة بوعي البنى والمنظومات التي تولد استغلال المرأة وقهرها .. أقصد البنى الاقتصادية والطبقية التي تؤدي لاستغلال المرأة وتبعيتها واستلابها الشامل..
غالبية البرامج والخطاب تتعامل بشكل عام مع قضايا المرأة بصورة طوباوية.. مجرد مناشدات بما في ذلك مسألة الحرية في العلاقات العاطفية والزواج، وكأن المعضلة هي مجرد وعي أو مجرد تفكير أو رومانسيات ومثاليات تهبط على الوعي من السماء .. في حين أن ما تعانيه المرأة من استلاب ناتج في العمق عن تبعيتها اقتصاديا وطبقيا، وبالتالي تكريس دونيتها وخضوعها، فالاستلاب العاطفي هو وليد الاستلاب الاقتصادي وبالتالي الاجتماعي ومن ثم النفسي... وهكذا لا يمكن الوصول للحرية بمعناها الواقعي والحقيقي بدون تحرير العلاقات الاجتماعية من الاستغلال والقهر... وغير ذلك هو تهويم في العموميات وتفكير مثالي ينطلق من وهم أن المسألة مجرد حوار ونقاش وتعبيرات نفسية...
اليسار والمبادرة الثقافية:
حالة التمزق والجهل والعشوائية تجاه ما يجري في مجتمعاتنا العربية يشير إلى أن معظم المثقفين والكتاب يميلون للمثاليات والفكر الغيبي أو الانتقائي أو الرغائبي وكأنه الحل... أو يذهبون لشتم الواقع وشتم الذات وكأن ذلك هو الرد والطريق للتغيير... بينما المطلوب ممارسة سياسية وثقافية تنطلق من المعطيات وحركتها، لكي يتم تحديد القوى الاجتماعية صاحبة المصلحة في عملية التغيير، وأيضا القوى التي ليس لها مصلحة في ذلك، ومن ثم العمل من أجل بلورة مشروع سياسي فكري اقتصادي واجتماعي... تحمله قوى اجتماعية مستعدة للمقاومة والثورة وغير ذلك هو الدوران في ذات الدوائر المغلقة...
هذا يستدعي التوقف ولو سريعا أمام الدور الثقافي لقوى اليسار الفلسطيني، ذلك لأن من أخطر الظواهر التي مر بها هذا اليسار في ظل صعود الإسلام السياسي هو الميل للمهادنة والمساومة الثقافية/الأيديولوجية من جانب، وفقدان المبادرة الثقافية بالمعنى الاجتماعي الطبقي، الأمر الذي ضرب عميقا قدرة تلك القوى على مواجهة الفكر الغيبي وثقافة الاستهلاك والاستلاب، مما وضع علامات استفهام جدية على هوية اليسار الفكرية.
لم يعد هناك مجال لأي مهادنة أو مساومة أيديولوجية مع الغيبيات والتكفير والتجهيل والشعوذة "الدينية" أو الاجتماعية أيا كان مصدرها.... لقد آن الآوان لكي تغادر القوى اليسارية والعلمانية عموما، والقوى والمفكرين الماركسيين تحديدا سياسة الدفاع... والانتقال للهجوم الثقافي... فالمواجهة الفكرية الثقافية من أصعب وأعقد المواجهات... إنها صراع على الوعي... وهو في جوهره صراع طبقي... فلا يوجد فكر فوق الطبقات... كما لا توجد دولة فوق الطبقات... بل هي أداة في يد طبقة لفرض سلطتها على الطبقات الأخرى... ومن أجل الحفاظ على علاقات الإنتاج التي تدر عليها الأرباح... إذن هو صراع بين فكر يؤمن بالحرية وبالقوى المنتجة وفكر يحاول تكريس الجهل وتشويه الوعي وتصوير الظلم والاستغلال الذي تمارسه طبقة ضد أغلبية المجتمع على أنه حالة طبيعية أزلية.
كل ما تقدم يقود إلى المسألة الحاسمة التي تشكل جوهر فكرة المبادرة الثقافية والذي يتمثل بضرورة وعي شروط وسياقات بناء المثقف الثوري الفلسطيني العضوي، كشرط لمغادرة دوائر ردود الفعل وحالة العجز أو الإخفاق التي تواجه الثقافة والمثقف والحزب السياسي الفلسطيني اليوم... ذلك "لأن الفن الرديء الذي يروّج له الصغار في حياتنا الآن، تحت أي شعار كان، لا يقلّ ضرراً عن السلاح الرديء" (درويش).
هذا التحدي الثقافي يواجه مجمل قوى اليسار الفلسطيني التي تراجع دورها وحضورها الثقافي بصورة هائلة، فاكتفت بمستوى المقال السياسي الأقرب لمفهوم "الفكر اليومي" وفق تعبير مهدي عامل.. ليس هذا فحسب، بل إنها أصبحت عاجزة اليوم عن تنظيم مبادرات ثقافية جماعية أو خاصة، كالندوات والمؤتمرات الفكرية والثقافية، كما لم تنجح في إصدار مجلة فكرية ثقافية موحدة تساهم في إثارة الحوار وجذب المثقفين لميادين النقاش السياسي والاجتماعي والأدبي... ليس هذا فحسب بل وقد تخلت أيضا حتى عن أساليب التثقيف الداخلي التي كانت تعتمدها في عملها التنظيمي الداخلي في سنوات ماضية.
مفهوم القيادة الطبقية – السياسية:
بالاستناد لما تقدم ، هل قوى اليسار الفلسطيني، تملك القدرة والإرادة على إعادة تجديد ذاتها داخليا؟ وهل هي قادرة على صياغة استراتيجية موحدة لكي تجيب على الأسئلة الحارقة التي يواجهها الشعب الفلسطيني، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا؟ هل قوى اليسار الفلسطيني قادرة على تقديم نفسها كقوة سياسية واجتماعية وثقافية ونضالية لكسر معادلة الاستقطاب القائمة في الواقع الفلسطيني؟ والأهم هل قوى اليسار الفلسطيني ببناها الراهنة تملك إمكانية التجدد والانطلاق والإبداع، أم أنها أصبحت محكومة بتلك البنى؟.
التصدي لهذه الأسئلة وغيرها هو الذي سيحدد مستقبل ودور قوى اليسار الفلسطيني، ولن ينقذ هذا اليسار تحميل مسؤولية ما يجري في الواقع الفلسطيني لحركتي حماس وفتح، بل إن ضعف اليسار وتشتته وجموده وفقدانه للمبادرة والحيوية السياسية والتنظيمية والفكرية، يحمله مسؤولية أساسية عن تهميش دور مشروع اليسار في الواقع الفلسطيني، ذلك لأن دور اليسار العميق يكمن في دوره كقوة إنهاض وقوة تصحيح للمعادلات الفلسطينية المختلة.
هي لحظة مناسبة لقوى اليسار الفلسطيني لتتحرك، ذلك لأن طرفي حالة الانقسام والاستقطاب في الشارع الفلسطيني (حركة فتح و حركة حماس ) يعيشان أزمة عميقة، لهذا فإن اللحظة مناسبة لكي تنهض قوى اليسار الفلسطيني لتعيد صياغة وتجديد مشروعها واستراتيجيتها الوطنية التحررية التقدمية كمهمة وطنية عاجلة ، بما في ذلك إعادة تجديد مشروعها الاجتماعي الثقافي الذي يدافع عن حقوق غالبية الشعب التي تدفع ثمن خيارات القوى الرجعية الدينية والقوى الرجعية النيوليبرالية.
لن تغادر قوى اليسار الفلسطيني دوائر الأزمة إلا إذا غادرت ثقافة التنافس فيما بينها واشتغلت على توفير شروط بناء بديلها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي الموحد، الذي يتجاوز خيار الإسلام السياسي الذي تمثله حركة حماس على كل الأصعدة، كما يتجاوز خيار حركة فتح الذي انكشف أيضا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.
خاتمة:
في النهاية إن نهوض قوى اليسار الفلسطيني ليس أمرا سهلا، بل هو عملية شاقة بكل المقاييس النظرية والعملية، وهي تستدعي التقييم والنقد والتحليل ورؤية حركة الواقع والاستراتيجيات والمصالح المتصادمة، كما تشمل أيضا إعادة تجديد وبناء الذات لقوى اليسار الفلسطيني بحيث تستعيد حيويتها المفقودة، وتعيد ربط خطابها السياسي والثقافي مع الواقع الاجتماعي باعتباره المرجعية الوحيدة للفعل والتأثير.
خلاصة القول، أنه وبدون رؤية سياقات الواقع وتجارب الشعب الفلسطيني، وما يواجهه من مهام وتحديات وطنية وقومية واجتماعية، وبدون إعادة تقييم تجربة وواقع معضلات قوى اليسار الفلسطيني، وبدون العمل الفاعل –على الصعيد السياسي والتنظيمي عموماً والفكري خصوصاً- للإمساك بشروط النهوض الموضوعية والذاتية فإن ذلك يعني أن قوى اليسار الفلسطيني لم تفهم دروس التاريخ كما لم تفهم الواقع، وبهذا تفقد أهم شروط يساريتها، فلا حركة ثورية بدون نظرية ثورية.