Menu

مآلات «صفقة القرن» بعد زيارة نتنياهو لواشنطن

محمد السعيد إدريس

كشفت زيارة بنيامين نيتانياهو رئيس حكومة الكيان الصهيونى لواشنطن الأسبوع الماضى والتى استمرت لخمسة أيام قضاها نيتانياهو فى عقد لقاءات مكثفة مع الرئيس الأمريكى دونالد ترامب وأركان إدارته وقيادات بارزة فى الكونجرس وحضور المؤتمر السنوى لمنظمة «إيباك» الصهيونية، أن ما كان يعتبره البعض من اعتماد إدارة ترامب لسياسة «الغموض البنّاء» فى إدارتها لمشروع التسوية الأمريكى لـ «النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني» الذى يحمل اسم «صفقة القرن»، والتسريب المتقطع وغير الرسمى لبعض محتويات هذه الصفقة كان وراءه هدفان أولهما الحصول من الفلسطينيين والعرب على أعلى درجة من التنازلات. وثانيهما أن تبقى صيغة الصفقة مفتوحة على تطورات المواقف الإسرائيلية بحيث تأتى صياغتها النهائية متطابقة مع ما تريده إسرائيل، لذلك حرص نيتانياهو على لقاء الفريق الثلاثى المسئول عن هذه الصفقة فى الإدارة الأمريكية: جاريد كوشنير مستشار ترامب وصهره رئيس هذا الفريق، وجيسون جرينيلات الموفد الخاص للرئيس إلى الشرق الأوسط، وديفيد فريدمان السفير الأمريكى فى تل أبيب قبل يوم من لقائه الرئيس ترامب، لحسم كل القضايا الخلافية، وجعل الصفقة متماشية مع ما تريده إسرائيل وتخطط له.

هذا ما حدث بالفعل، وهذا ما جعل نيتانياهو يخرج من لقائه مع ترامب يوم الثلاثاء الماضى متهللاً وسعيداً بما حققه من إنجازات فى هذا اللقاء وكان أول ما حرص نيتانياهو على إعلانه للصحفيين عقب خروجه مباشرة من هذا اللقاء مع ترامب القول: «لم نتحدث عن الفلسطينيين أكثر من ربع ساعة، وأن نصف الوقت قد خصص لإيران، وربما أكثر.. موضوع المحادثات المركزى كان إيران، إيران، وإيران».

كثيرون فهموا عن خطأ فى الإدراك، أن نيتانياهو لم يبحث صفقة القرن وتفاصيلها مع ترامب، فى حين أن الحقيقة هى العكس، ولكن كل ما حدث أن كل ما أراده نيتانياهو حصل عليه فى لقائه مع ثلاثى الإدارة المسئول عن هذه الصفقة فى اليوم السابق للقائه مع ترامب، وأنه أراد أن يركز الانتباه على أن القضية الفلسطينية لم تعد قضية تثير أزمة فى العلاقات بين تل أبيب وواشنطن، وأن ما تريده إسرائيل من ترامب تحصل عليه، ما لم يفصح عنه نيتانياهو أو ترامب بخصوص مآل «صفقة القرن» كمحصلة لزيارة الأيام الخمسة جرى الإفصاح عنه على لسان نيتانياهو نفسه، خاصة فى حديثه أمام المؤتمر السنوى للجنة الأمريكية الإسرائيلية للعلاقات العامة «إيباك»، وتصريحات كل من مايك بنس نائب الرئيس الأمريكي، ونيكى هايلى رئيسة الوفد الدبلوماسى الأمريكى بالأمم المتحدة أمام هذا المؤتمر. مجمل هذه التصريحات كشف ما يمكن اعتباره الحقائق الخفية لهذه الصفقة ومآلاتها.

أولى هذه الحقائق أن الإدارة الأمريكية، بعد زيارة نيتانياهو لم تعد فى عجلة من أمرها لطرح «صفقة القرن». يبدو أن نيتانياهو نجح فى تمرير مشروعه الخاص بالتسوية، والذى من أجله يعتنق سياسة «الصبر الإستراتيجي» بالرهان على الزمن الذى يؤمن أنه يعمل، بالمطلق لصالح إسرائيل، وأنه نجح فى أن يأخذ من الصفقة ما يريده وأن يرجئ ما لا يريده. فهو يرفض بالمطلق أى دعوة لإقامة دولة فلسطينية على أى أرض فلسطينية، ويرى أن حل المشكلة الفلسطينية ليس أمامه غير مسارين إما القبول الفلسطينى بالحكم الذاتى الأقرب إلى «المعازل العنصرية» التى كانت فى دولة جنوب إفريقيا وروديسيا قبل استقلالهما، وإما الانضمام إلى المملكة الأردنية فى فيدرالية أو كونفيدرالية، لذلك هو ليس مع الجزء الخاص بإقامة دولة فلسطينية الوارد فى مشروع ترامب للتسوية حتى لو كانت على أجزاء محدودة من فلسطين المحتلة، لكنه مع الجزء الآخر الوارد بالمشروع الذى يدعو إلى «السلام الإقليمي»، ويرى ضرورة إعطاء أولوية للسلام الإقليمى الذى يقود إلى تحالف إسرائيلي- عربى ضد الخطر الإيراني.

يبدو أن نيتانياهو نجح مع الإدارة الأمريكية فى تأجيل أو حتى تجميد طرح المشروع الأمريكى للتسوية «صفقة القرن» مع تفعيل الأجزاء التى تحقق المصالح الإسرائيلية، ومن هنا جاء تصريحه الخطير عقب انتهاء محادثاته مع الرئيس الأمريكى بأنه «لم ير أى مسودة أو جدول زمنى لخطة السلام الأمريكية» وجاء حرصه على أن يعيد التأكيد على «الخطر الإيراني» فى حديثه أمام مؤتمر «إيباك»، لكن الأهم هو تبجحه بأن يتباهى بـ «حالة الانسجام التام» مع الدول العربية فى مواجهة هذا الخطر، وأن يقول إن «معظم، بل كل الدول العربية هى الآن صديقة لإسرائيل».

ثانية هذه الحقائق هى تطابق الرؤى الأمريكية، كما عبر عنها رموز الإدارة، مع الرؤى الإسرائيلية وبالتحديد رؤى نيتانياهو على نحو معا جاءت كلمات مايك بنس نائب الرئيس ونيكى هايلى رئيسة الوفد الأمريكى بالأمم المتحدة أمام مؤتمر منظمة «إيباك» الصهيونية، اللذين أخذا يعددان «مفاخر دولة إسرائيل اليهودية الديمقراطية» ويطلقان التهديدات لأعدائها من العرب والإيرانيين مستعرضين سجل دعمهما الطويل والعميق لإسرائيل. مايك بنس، مهندس دعوة نقل السفارة الأمريكية إلى القدس ، أخذ يتباهى بإجراءات الرئيس ترامب بهذا الخصوص، وقال، وهذا هو الأهم إن «الإدارة الأمريكية لم تتخذ أى خطوات لاستباق قضايا الحل النهائي»، مؤكداً أن «الأمن الإسرائيلى غير مطروح للتفاوض»، وفى ذات الوقت أخذ يركز على أهمية دعم التدافع العربى للتقارب مع إسرائيل، وقال بالنص: «رياح التغيير تهب على الشرق الأوسط.. والأعداء القدامى أصبحوا أصدقاء(!!)، أبناء إسحق وإسماعيل سوف يلتئمون سوياً». أما نيكى هايلى فقد أفرطت فى الإطراء على إسرائيل وأخذت تتباهى بأدوارها الداعمة لها وتتعمد بمواصلة هذه الأدوار مؤكدة أن إسرائيل «لن تختفي»، وأن «السلام يمكن أن يتحقق فقط عندما يدرك العالم ذلك»، وأن إدارة ترامب عازمة على «شمل المستوطنات الإسرائيلية تحت سيادة إسرائيل وبقاء قوات الأمن الإسرائيلية فى الضفة الغربية، وتخلى الفلسطينيين عن حق العودة فى أى اتفاق سلام»، ومؤكدة أيضاً أن القدس «كانت وستظل عاصمة لإسرائيل»، وأن هذه هى الحقيقة التى امتلك ترامب الشجاعة ليؤكدها.

كل هذا يعنى أن «صفقة قرن ترامب» باتت بين مآلين إما التأجيل أو التجميد حتى يتحقق التوافق الفلسطينى والعربى مع الطموحات الإسرائيلية، وإما أن تترك لبنيامين نيتانياهو الفرصة ليعيد صياغتها كما يحلو له، وترك أمر قبولها أو رفضها للفلسطينيين والعرب.