Menu

ارحمونا من هذا الحب القاسي

عبد الله السّناوي

صارت تلك العبارة البليغة، التي صاغها الشاعر الفلسطيني «محمود درويش»، مثلاً على نوع من الحب يؤذي ما يتطلع إليه أصحابه.

كان طبيعياً بعد هزيمة يونيو/حزيران (1967) وصعود المقاومة الفلسطينية أن يحتضن الرأي العام العربي ظاهرة شعراء الأرض المحتلة، وهو في مقدمتهم، غير أنه استحال إلى حب قاسٍ اشتكى من وطأته حتى إنه طلب الرحمة.

عندما غادر بإرادته الأرض المحتلة ثارت تساؤلات: هل من حقه مثل هذه المغادرة؟ أم أنها حضور في العالم بإلهام الشعر؟

مال الاتجاه الغالب إلى شيء من الإدانة بفوائض حب قاسٍ غير أنه الآن يمكن القول بثقة إن القضية الفلسطينية اكتسبت بحضوره المباشر في الأوساط الثقافية العربية والدولية صوتاً مسموعاً وسفيراً مصدقاً.

في ظروف مختلفة تماماً من حيث طبيعتها وموضوعها يتعرض اللاعب الدولي المصري «محمد صلاح» إلى مثل هذا النوع من الحب القاسي، الذي يحمله فوق طاقته ونوعية أدواره.

بوقت واحد هو مطالب أن يواصل تألقه المدهش في فنون كرة القدم، يصحح صورة العرب والمسلمين في الغرب، يخفف أزمة الشباب الذين يبحثون عن أمل، وينهي معاناة أصحاب ذوي الحاجة الذين يتوافدون على قريته بأعداد زادت عن كل حد كأنه مؤسسة تنفي مسؤولية كل المؤسسات، أو بديل سحري يحل كل الأزمات.

هذا ضغط زائد قد يفقده تركيزه.

إذا ما فقد التركيز فسوف تكون خسارتنا فيه فادحة. ما يحتاجه الاحتضان بالدعم لا التشتيت بالمبالغة.

لا يولد كل يوم لاعب كرة قدم يحوز شعبية تتجاوز بلده إلى عالمه، فهو محط اهتمام دولي وظاهرته تحت الرصد والمتابعة بأدق التفاصيل، صوره على أغلفة الصحف والمجلات الدولية، والولع به وصل إلى معدلات قياسية.

دون اصطناع فإنه قوة ناعمة مصرية تنفذ بالإلهام إلى كل مكان، فلكرة القدم سحرها وهو ساحرها الجديد. ما هو طبيعي يعطي للأثر حقه دون ادعاء، بينما ما هو مصطنع يحمل الظاهرة بأكثر مما تحتمل، أو يسيسها بغير استحقاق.

ظاهرته قد تساعد على حلحلة بعض الملفات المستعصية، أو تحسين بعض الصور المتراجعة، لكن دون مبالغة فيما يستطيع أن يفعله.

بأثر موهبته تغنى جمهور فريقه الإنجليزي «ليفربول» باسمه، مستعداً أن يذهب معه إلى المسجد إذا ما استمر في إحراز الأهداف، وبدأ الأطفال الصغار يقلدونه في سجداته بعد إحراز أهدافه، ويرفعون أصابعهم إلى السماء كما يفعل.

أي استنتاج متعجل، كأن نتصور أنه تراجع ل«الإسلاموفوبيا» والعداء للمهاجرين الأجانب، يضر ولا يفيد في أن ندرك مسؤولية السياسات عن تحسين الصور.

ما يحدث بالضبط ولع بموهبته وافتتان بسلوكه الإنساني والرياضي، لكنه أثبت عملياً أن صورة الإرهابي الذي يقتل ويروع لا تعبر عن حقيقة التوجهات السائدة في ذلك الجزء من العالم حيث هناك من يبدع ويمتع ويبني ويعمر ويكد.

ما يساعد على ترميم شروخ الصور مستويات التقدم العلمي والاقتصادي ومدى جودة الحياة وتجديد الخطاب الديني والإسهام في صناعة الحضارة الحديثة. هذه ليست من مهام لاعب كرة قدم بل هي مسؤولية سياسات عامة قادرة على احتضان الأجيال الجديدة لا فرض الوصاية عليها بتوفير بيئات صحية تشجع كل موهبة وإبداع.

قوة نموذج «صلاح» تلهم الامتناع عن المخدرات كما يدعو في شريط دعائي، أو اتخاذه قدوة لإمكانية النجاح رغم قساوة الظروف التي عاناها، لكن تظل سلامة البيئة العامة مناط الأمل في المستقبل، حيث الرهان على تصويب السياسات بما يتفق مع العصر واحتياجاته.

استدعى من تجربته في الملاعب الأوروبية أفضل ما فيها مثل التبرع لأعمال الخير وهذه قيمة يدأب عليها كبار اللاعبين، فضلاً عن أنه بتكوينه الريفي يميل إلى هذا النوع من الأعمال.

ساعد بقدر ما يستطيع في النهوض بقريته وأنشأ مؤسسة خيرية لهذا الغرض، لكن لكل شيء حدوداً، فهو ليس بنكاً لأعمال البر، ولا ملجأ طبيعياً لأصحاب الحاجات. هذه مسؤولية سياسات اجتماعية لا مسؤولية رجل واحد.

كأي مصدر للقوة الناعمة الحفاظ عليه شأن عام.

أول متطلبات ذلك الحفاظ تركه لشأنه، يلعب بلا ضغط، يستمتع ويمتع. أرجو أن نتذكر أن النجاح الاستثنائي في موسم واحد لا يكفي حتى تتأكد مكانته وتستقر، وأن تطوير قدراته في مواسم متتالية مسألة حاسمة في تقرير مستقبله.

الرياضة منظومة حديثة تحكمها قواعد وأصول والفضل الأول يعود إليها في تطوير أدائه وتقدمه إلى المستوى الذي وصل إليه.

هذا ما يجب أن نستوعبه، وإلا فإن العشوائية سوف تجرف كل رهان على تحسين مستوى الرياضة بما يليق ببلد في حجم مصر.

أزمة محمد صلاح مع اتحاد كرة القدم المصري كانت كاشفة للفارق بين عقليتين، واحدة حديثة تحترم عقود الرعاية، والأخرى عشوائية تكاد لا تعرف شيئاً عن أية قواعد قانونية.

هناك من تصور أن من حقه الاستثمار التجاري في «صلاح» دون موافقته، أو التعاقد دون رغبته مع شركة منافسة لشركة الرعاية التي وقع معها عقداً ملزماً اختراقه يكلفه غرامة باهظة، فضلاً عن سمعته.

الأسوأ أنه كان مستعداً لدخول معركة مفتوحة تستخدم فيها كل الأسلحة، المشروعة وغير المشروعة، ضد اللاعب بالتشكيك في نواياه وتوجهاته أو التلويح بمنعه من اللعب باسم مصر في مباريات كأس العالم.

كان ذلك جنوناً كاملاً لا يعرف أحد عواقبه، ولولا التضامن الشعبي الهائل مع اللاعب الدولي على شبكة التواصل الاجتماعي وتدخل سلطات أعلى لدخل البلد في أزمة كبرى لا لزوم لها ولا منطق فيها.

لم يكن ذلك حباً قاسياً بقدر ما كان استثماراً متوحشاً خارج كل القواعد.