Menu

في مواجهة احتلال الضفة .. البندقية أم الدبلوماسية؟!

محمّد جبر الريفي

ما يحدث في واقعنا الفلسطيني من انقسام سياسي بغيض، يتعمق كل يوم، وقمع للحريات، وتشرذم فصائلي، وتهدئة مع العدو وتغليب المصالح على المبادئ، وتحول الفعل النضالي إلى مطلب معيشي، هو شيء مغاير لتجارب الشعوب التي وقعت تحت نير الاستعمار، فكلها انتصرت في النهاية رغم قسوة المستعمر وجبروته وطغيانه والخلل في موازين القوى، وحققت لبلدانها هدف الاستقلال الوطني. بينما ثورتنا الفلسطينية المعاصرة التي نحتفل كل عام بانطلاقتها المظفرة، في الأول من يناير، لم تحقق ما يصبو إليه شعبنا من أهدافه الوطنية في الحرية والاستقلال رغم مرور هذه الأعوام الطويلة.

أبرمت منظمة التحرير الفلسطينية اتفاقية أوسلو مع الكيان الصهيوني العنصري بعد أن أضحى نهج التسوية السياسية، هو مطلب النظام العربي الرسمي، مسايرة للمساعي الأمريكية التي نشطت بعد حرب أكتوبر عام 73، حيث لم يعد محصورا فقط في اتفاقية كامب ديفيد التي تم التوصل إليها بين مصر والكيان، وكان إقدام المنظمة على تلك الخطوة، على أمل أن تشكل هذه الاتفاقية مكسبا سياسيا بفضل الانتفاضة الكبرى (انتفاضة الحجارة) التي أعادت الشعب الفلسطيني بقوة إلى موقعة السياسي على خارطة الشرق الأوسط، وذلك باعتبار أنها مرحلة حكم ذاتي مؤقتة على طريق قيام الدولة الوطنية المستقلة بعاصمتها القدس الشرقيه، تطبيقا للبرنامج المرحلي الذي أقره المجلس الوطني الفلسطيني في عام 73، والمعروف ببرنامج النقاط العشر. وإذ بهذه الاتفاقية التي تم التوصل إليها برعاية الولايات المتحدة الأمريكية التي احتكرت التفرد في موضوع "الوساطة" في الصراع العربي الصهيوني يتمخض عنها احتلال آخر غير الاحتلال العسكري التقليدي المعروف عنه دوليا، والذي لا يمكن الخلاص منه بعملية الانسحاب في حال التوصل إلى اتفاق سياسي، مما جعل هذا المكسب السياسي المأمول يتحول إلى عملية استدراج قامت به حكومة رابين للطرف الفلسطيني، كي تحقق مخطط المشروع الصهيوني القائم على التوسع والاستيطان والتهويد.

هذا الاحتلال الذي جاءت به اتفاقية أوسلو هو الاحتلال الاستيطاني العنصري، والفرق كبير وشاسع بين الاحتلال الأول، الذي حدث أثر هزيمة يونيو حزيران 67، والاحتلال الثاني الذي جاء بعد اتفاقية أوسلو . الاحتلال العسكري الأول أداته القمع بكل أشكاله، بينما الاحتلال الاستيطاني الثاني، وظيفته الإجلاء، والتطهير العرقي، من خلال نهب الأرض، واقتلاع السكان. هكذا هي طبيعة الصراع في الضفة الغربية الآن، بين المشروع الوطني، والمشروع الصهيوني. صراع على الأرض مع المستوطنين الذين أقامت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة خاصة اليمينية منها المستوطنات فوقها والتي أصبح البعض منها مدنا تقطع أوصال الضفة الغربية، وتعيق إقامة دولة فلسطينية مستقلة مترابطة جغرافيا، وهو صراع في الواقع أكثر خطورة من الصراع ضد جيش الاحتلال وجنوده.

الضفة الغربية اليوم هي مركز الصراع الرئيسي الفلسطيني الإسرائيلي في مواجهة نموذجين من الاحتلال: احتلال عسكري يمارس الإعدام يوميا على الحواجز والطرقات، كما يمارس الأسر والاعتقال الإداري، وهدم البيوت، واحتلال استيطاني يمارس التطهير العرقي، والإجلاء وحرق البشر والشجر، والسؤال أمام هذه الحالة المأساوية الكارثية بكل وقائعها النازية والفاشية البشعة التي تكاد أن تكون الفريدة من نوعها في الحركة الاستعمارية الأوروبية التي اجتاحت بلدان العالم الثالث بعد الحرب العالمية الأولي، حيث كان يشابهها فقط نظام الابرتهايد العنصري في جنوب أفريقيا، الذي أسقطه نضال حزب المؤتمر الوطني الأفريقي بقيادة نيلسون مانديلا .

السؤال: كيف يمكن للنضال الوطني الفلسطيني أن يواجه هذين النموذجين من السيطرة الاستعمارية الكولونيالية الوحيدة المتبقية في العالم الآن، وكل منهما يحمل خصائصه العدوانية والواقع السياسي الفلسطيني غارق في مستنقع الانقسام السياسي البغيض، الذي يعمل على تفكيك عنصر الصمود والمقاومة بما يوفره من مزايدات إعلامية ومناكفات سياسية على أي من الطريقين أجدى في مواجهة الاحتلال والاستيطان: البندقية أم الدبلوماسية؟