لا ثورة واحدة في التاريخ نجت من اتهامات التآمر والتخريب عند انقضاء فعلها وتوقف زخمها. الثورات ليست مبرّأة من الأخطاء، فالأحداث الكبرى لا تُجرى في معامل كيمياء تضبط التفاعلات وسلامتها.
لحقت ثورة «يناير» اتهامات مماثلة، حاولت أن تنفي شرعيتها، وتحيلها إلى محض مؤامرة. كانت تلك اتهامات انتقامية لا موضوعية ولا عادلة، فالثورة لم تنشأ من فراغ، وأسبابها ماثلة في انسداد القنوات السياسية والاجتماعية، وقدر الفساد المتوحش في بنية الحكم.
وقد كان أحد الأخطاء الكبرى التي ارتكبت في بدايتها، الامتناع عن المحاكمة السياسية لأركان النظام الذي هوى بإرادة شعبه.
المحاكمة السياسية قبل الجنائية، أهميتها في إجلاء الحقيقة الكاملة، حتى نعرف لماذا حدث ما حدث؟.. وأين كانت الخطايا الكبرى، حتى يجري إعادة البناء على أرضية صلبة لا تسمح بتكرارها في المستقبل؟ لم تحدث أية مساءلة سياسية، ولا خضع الرئيس الذي خلعه شعبه أو أي أحد آخر من أركان حكمه للتحقيق في الملفات التي أفضت إلى الثورة.
رغم أن دستور (2014) ألزم مجلس النواب في أول دور انعقاد له بإصدار قانون للعدالة الانتقالية، يكفل كشف الحقيقة والمحاسبة، واقتراح أطر المصالحة الوطنية، وتعويض الضحايا وفقاً للمعايير الدولية، لم نتقدم نصف خطوة على هذا الطريق اللازم لسلامة المجتمع وقدرته على النظر بموضوعية إلى تاريخه.
أنشئت وزارة باسم العدالة الانتقالية، لم يكن لها أكثر من اسمها، لم تنظر في ملف واحد حتى ألغيت.
خضع الرئيس الأسبق «حسني مبارك» لمحاكمات عديدة، لا تدخل جميعها في صلب الأسباب التي أفضت إلى الثورة على نظامه، بعضها اقتصر على حدود مسؤوليته عن إطلاق الرصاص على المتظاهرين في الثمانية عشر يوماً ما بين (25) يناير و(11) فبراير (2011)، وبعضها الآخر دانَهُ بتهمة ماسة بالشرف في قضية القصور الرئاسية.
الملف السياسي كله لم يفتح، من تدهور مكانة مصر في محيطها العربي والإفريقي والعالم الثالث، وارتهان قرارها للاستراتيجيات الأمريكية و«الإسرائيلية»، وتفشي الفساد المنهجي في بنية الحكم، بزواج السلطة والثروة إلى مشروع توريث الحكم، الذي ينفيه «مبارك»، رغم أنه استهلك عشرة أعوام أنهكت أعصاب البلد ووضعت مصيره أمام مجهول.
رغم الإثارة الإعلامية والسياسية لمثول رئيس مخلوع كشاهد لا كمتهم، فيما رئيس آخر معزول خلف القضبان يتابع دون أن يتدخل، فإن الشهادة التي أدلى بها أمام محكمة جنايات القاهرة في قضية اقتحام الحدود الشرقية أثناء ثورة (25) يناير، لم تضف جديداً إلى العلم العام.
كما أن الصورة التي بدا عليها، رغم أثر السنين في ملامح وجهه، خضعت لتصميم آخر، حاول إزالة الأثر السلبي لظهوره أثناء المحاكمات السابقة نائماً على سرير طبي مغمض العينين، لا يدافع عن نفسه أمام شعبه الذي يتابع المحاكمات.. الصورة اختلفت هذه المرة من حيث المظهر والأداء.
في صلب الشهادة المصممة، لم يجب عن أي سؤال جوهري قد يُحَمِّله مسؤولية التقصير في حماية الحدود، وهي في صدارة مهام موقع رئيس الجمهورية.
أخطر الأسئلة التي لم يجب عنها: لماذا لم يقبض على أي أحد من الذين اقتحموا الحدود، وعددهم حوالي (800) حسبما أبلغه رئيس المخابرات الراحل اللواء «عمر سليمان».. وكيف اقتحمت السجون دون أن تكون هناك حراسة كافية تصد وتحمي هيبة الدولة؟
الاتهام المرسل لا يؤسس لرواية متماسكة، ومصر في حاجة إلى أن تستجلي الحقيقة، حتى تعرف على وجه اليقين من أطلق الرصاص من فوق البنايات على المتظاهرين السلميين.
إحدى الفرضيات التي لا يمكن استبعادها، أنه ليس لديه ما يقوله عن هذه الأيام، حيث كان نظامه على وشك السقوط، والجهاز الأمني في أوضاع تشبه الانهيار، وتدفق المعلومات متقطع ومرتبك.
اللافت، أنه تجنب وصف أحداث «يناير» بالمؤامرة، وقال إن الحكم للتاريخ، كما تجنب أي حديث حول طبيعة العلاقة التي جمعت نظامه بجماعة الإخوان المسلمين، ولا أبدى رأياً فيما إذا كان هناك اتفاق بين الإخوان والتنظيم الدولي لإحداث الفوضى والاستيلاء على الحكم ونقل فلسطينيين من غزة إلى سيناء بمشاركة تركية.. قال نصاً: «لم أسمع عن هذا المخطط؟»
أي مؤامرة تستدعي مخططاً لها وأطرافاً يثبت بحقهم التواطؤ.
قد يكون شيئاً من ذلك قد حدث، لكنه لم يقدم دليلاً عليه. «كانت نظرة الدولة للإخوان أنهم مواطنون، وطالما يمارسون نشاطاً تجارياً في نطاق القانون فلا مانع».
لا تعكس هذه العبارة حقيقة القصة، ولا مغزى الصفقات الانتخابية التي أجريت مع الجماعة عام (2005)، ولا اعترافاً بمسؤوليته عن مغبة التلاعب بالدستور، والتضييق على القوى المدنية بمثل هذه الصفقات.
بالتزوير الفادح لانتخابات (2010)، أغلقت كل القنوات السياسية في البلد وبدا التغيير وشيكاً.
كانت جماعة الإخوان المسلمين آخر من دخل ميدان التحرير، وأول من خرج منه، كما كتبت نصاً في حينه. اختطفوا الثورة ولم يصونوا أهدافها، وجرى ما جرى من صدامات ومآسٍ.
المصدر "التجديد العربي"