Menu

مصر وفلسطين: أفكار لرأب الصدع، وإعادة بناء جسور الثقة

أحمد بهاء شعبان

الحكيم

ما أحوجنا، فى هذه المناسبة الجليلة، وفى هذه اللحظات الحرجة من عمر قضيتنا، أن نقف وقفة محاسبة مع الذات، نراجع من خلالها أحوالنا، ونتدبر أوضاعنا، وندقق مسارات حركتنا ومواقع أقدامنا!.

وبادئ ذى بدء، لا بد من الاعتراف بتراجع القضية الفلسطينية من موقع الصدارة، فى وعى ووجدان واهتمامات، لا المواطن العربى البسيط وحسب، وإنما حتى بالنسبة للنخب السياسية والثقافية، وأنا هنا لا أتحدث عن النخب "الكوزموبوليتينية"، المسايرة للمفاهيم "النيوليبرالية"، واتجاهات رياح العولمة واشتراطاتها، وإنما حتى بالنسبة للنخب المحسوبة على التيارات القومية واليسارية والعروبية، بوجهٍ عام !. ويعود هذا الموقف لأسباب، بعضها موضوعى، والبعض ذاتى. على الصعيد الموضوعى يمكن رصد ما تشهده المنطقة من تراجعات للمشروع الوطنى والقومى، وكذلك للمشروع اليسارى، بشقي هذه المشاريع: البيروقراطى (الأنظمة)، والنضالى (المنظمات).

وليس هذا التراجع بمجهول الأسباب، ولعله بدأ مع انكسار المد القومى والتحررى، عقب نكسة 1967، وماتلاها من تغيرات حادة، إن على مستوى التوجهات الاقتصادية، بانتهاج سياسات "الانفتاح الاقتصادى"، أو على مستوى الارتباطات السياسية التى جسدتها مقولة "أنور السادات": "99% من أوراق اللعبة فى يد الولايات المتحدة الأمريكية"!.

وقد تلى ذلك مرحلة انهيار "الاتحاد السوفيتى" و"المعسكر الاشتراكى"، مما كان له تداعيات، سلبية، مباشرة على كامل حركة التحرر العالمية، وترك شعوب العالم تواجه وحشية الإمبريالية الغربية، بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، دون ظهير أو نصير. وعلى المستوى المحلى والإقليمى، كانت الأنظمة الاستبدادية الفاسدة، قد انفردت بشعوبها، واعتصرت ثرواتها، وأعاقت النمو الطبيعى لمجتمعاتها، بمصادرتها لقيمة وتقاليد الممارسة الديمقراطية، وحرمانها لشعوبها من الحق الطبيعى فى المشاركة فى إدارة شؤون بلدانها، والتمتع بنصيب عادل فى خيرات أوطانها، الأمر الذى فجَّرَ مجموعة من الهبّات الشعبية، والثورات الكبيرة، لم تكن قوى الثورة مُهيئة للتعاطى الإيجابى معها، وبقيادتها لصالح تحقيق أهداف الجماهير، وأحلامها المشروعة، فى "العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية"، وهو ماكان يعنى لو تحقق، حتماً، توجهات مغايرة لما استقرت عليه الأمور فى المنطقة منذ أوائل سبعينيات القرن الماضى، خاصة فى الدولة العربية الأكبر: "مصر"، وبالذات فيما يمس العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، والمنظومة الاستراتيجية الغربية، والعدو الصهيونى.

وأكثر من ذلك، فقد انزلقت دول الهبّات الثورية العربية، فى مصر وبدرجة أقل حدّة فى تونس، إلى أتون صراعات داخلية حادة، بسبب سعى اتجاهات سياسية معينة فيها، لتغيير الطبيعة التاريخية للهوية الوطنية والقومية، واستبدالها بهوية أخرى عابرة للأوطان والقوميات، الأمر الذى أدى إلى صدامات متصاعدة، اتجهت للعنف الدموى، وتقاطعت مع مخططات أجنبية معادية، استهدفت هدم الدولة المصرية الوطنية، وتفكيك الجيش الوطنى المصرى، آخر ماتبقى من جيوش دول المنطقة، والذى يمثل الثغر الأخير من ثغورها الحامية، بعد أن نجحت المؤامرات فى تدمير دول وجيوش عربية عديدة: العراق وسوريا وليبيا واليمن، وهلمجرا!.  ويمكن القول، بموضوعية وتجرد، أن هذه الأوضاع استنزفت طاقة قطاعات واسعة من القوى الوطنية والقومية والتقدمية، على امتداد السنوات الأربع الأخيرة، واستحوزت على جل اهتماماتها، وبحيث لم تعد "القضية الفلسطينية" تلقى الاهتمام المعهود، كما كان فى السابق، وخاصةً بعد أن أنهكتها انشقاقات الوضع الفلسطينى وتجاذباته الداخلية، التى أربكت الواقع العربى، المرتبك أصلاً، وساعدت فى تراجع الاهتمام العام بالقضية.

وفيما يخص العلاقات المصرية الفلسطينية، فلعل تاريخ علاقتى بها، والمكانة المحورية لها فى وعيى ووجدانى، يسمح لى بمناقشة أزمتها، بصراحة، ودون حرج، وهى الأزمة التى تدهورت بمعدلات كبيرة، منذ 30 يونيو 2013، الذى شهد خروجاً كبيراً، شاركت فيه ملايين غفيرة، رفضاً لممارسات حكم جماعة "الإخوان المسلمون"، وانحاز الجيش لهذا الخيار، وترتب عليه ما لا يحتاج لمزيد من الإيضاح.

وإذا كان من الطبيعى أن تتأذى بعض الأطراف الفلسطينية من مغادرة جماعة "الإخوان" للسلطة فى مصر، فقد كان من مصلحة القضية الفلسطينية، أن يتم السيطرة على الانفعالات السلبية لهذه الأطراف، تجاه التطورات الوضع المصرى، حرصاً على مصلحة القضية والاحتياجات الحيوية للشعب الفلسطينى، وهو ما لم يحدث للأسف، وبدت هذه الانفعالات أحياناً فى انفلاتات إعلامية، وأحيانا أخرى فى مسلكيات عملية لا تصب فى صالح حماية الأمن القومى المصرى، وبالذات مع اتساع نطاق الأعمال الإجرامية، لعناصر تخريبية سعت لاستنزاف الجيش المصرى، فى سيناء وخارجها، بل ووصل عدوانها على الشعب المصرى، إلى عمليات تخريب منهجى، شبه يومية، فى كل محافظات مصر، بل وفى العاصمة، لا تنكر جماعة "الإخوان" المصرية، التحريض عليها، والمشاركة فيها، بمساعدة دول وأجهزة استخبارات وجهات معادية خارجية، ودفع الشعب المصرى ثمنها الباهظ، من دمه واستقراره، ومن قوت يومه ومصالحه.

وفى المقابل، فقد أدى هذا الوضع إلى تضخيم كرة الثلج المندفعة، يوماً بعد آخر، ومنح قوى معادية للتوجهات العروبية، داخل مصر، فرصة الحركة باتجاه توسيع شقة الخلاف حتى تكتمل القطيعة، وهوـ بالتأكيد ـ مالا يخدم المصالح المشتركة للشعبين، ويضر ضرراً كبيراً بالمصالح الوطنية والقومية المصرية، لكنه يضر، بصورة بالغة الخطورة، بالمصالح الوطنية الفلسطينية، فى لحظة شديدة الحرج، ويترك الشعب الفلسطينى وحده يواجه غول الإمبريالية والصهيونية، بلا ظهر يحميه، فسوريا تواجه أوضاعاً مأساوية، والعراق حاله ليس أفضل، وباقى الدول العربية تواجه تحديات وتهديدات على درجة هائلة من الخطورة، بلا أفق للحل!.

ومن هنا، فإن واجب كل المخلصين للقضية، العمل بسرعة لإيقاف التدهور المستمر فى العلاقة بين البلدين، على الأسس التالية :

أولاً: الإقرار بالأهمية الاستثنائية لموقع "القضية الفلسطينية" المحورى، فى البناء الاستراتيجى للشعبين، وللدولة المصرية، التى تدرك القيمة الموضوعية لفلسطين، فى حماية أمن مصر الوكنى ومصالحها العليا.

ثانياً: الإقرار بحق كل طرف فى تحديد خياراته الاستراتيجية، دون تدخل من الأطراف الأخرى، وإلا لو كان من حق طرف فلسطينى التدخل فى الشأن المصرى، لنصرة حلفاء مصريين، فهو فى ذات الوقت، يعطى مصر الحق المباشر فى التدخل فى الساحة الفلسطينية، للانتصار لحلفائها، وهو أمر لن يصب، فى النهاية، إلا فى اتجاه المزيد من الاستقطاب والتمزق، الوطنى والقومى.

ثالثاً: الإيقاف الفورى لكل تصعيد يُزيد من توتير الأوضاع، ويؤدى إلى تدهورها أكثر مما هى متدهورة.

رابعاً: هناك ضرورة للعمل على ألا تؤدى هذه التطورات السلبية إلى الإضرار باحتياجات الشعب الفلسطينى الحياتية، التى تمثل مصر منفذا حيوياً لها، لا غنى عنه أبداً، مع ضرورة الإقرار بأن استقرار مصر، ورخائها، أمران ضروريان لمستقبل شعب فلسطين، ومعركة وجوده التى تواجه تحديات جسيمة، لا قبل له وحده بمواجهتها والانتصارعليها.

خامساً: هناك ضرورة قصوى لتلمس موقف الشعب المصرى، بعيداً عن موقف الجهات الرسمية، والتعامل معه بأعلى درجات الوعى والمسئولية، وهو موقف ـ بكل الحسابات ـ ينبغى مراعاته، والحرص عليه، خاصةً أنه، بسبب عمليات التخريب والإرهاب، ودور جماعة "الإخوان" المصرية المعلن فيها، أصبح شديد الحساسية تجاه أى طرف يلمس فى مواقفه شبهة الانحياز لمن يقتله، ويُخرِّب حياته، ويُدمِّر استقرار بلده. ومن نافل القول الإشارة إلى أن فقدان تعاطف الشعب المصرى، خسارته، بالنسبة لفلسطين، لا تعوض، وتحتاج إلى سنوات من الجهد الشاق لترميم شروخه!.

سادساً: وكوطنى مصرى، وعروبى، ويسارى، اعتبر نفسى إبناً للشعب الفلسطينى، اتمنى أن يكون انحياز الأطراف الفلسطينية، جميعها، للمصلحة الوطنية الفلسطينية، هو الأساس، ومُقدماً عن أية انحيازات عقدية أو أيديولوجية، ذلك أن القضية الفلسطينية، فى مسارها الحرج الراهن، وبما تواجهه من تحديات وتهديدات خطيرة، لا تملك ترف لاخسارة مصر وشعبها، بل هى أحوج ماتكون لهما الآن، ولن تجد بديلاً عن مصر: شعباً وحكماً، أياً كانت الأوضاع والتقلبات.

سابعاً: مهما كانت صعوبات الظروف المصرية الحالية، فإن شعب مصر سينتصر فى النهاية، والإرهاب سيُهزم، مهما كانت التكلفة. ولا يجب بناء الخطط المستقبلية لأى طرف فلسطينى، على ماتشيعه الأوساط المعادية والمُغرضة، من أوهام وتمنيات ذاتية، تروِّجُ إلى أن النظام المصرى سيسقط، وسيعود هذا الطرف أو ذاك لحكم مصر مجدداً. هذا أمر محسوم، ولا يُفيد بناء الحسابات على أساسه، لسبب واحد بسيط، هو أن الشعب المصرى، قبل الحكم وبعده، قد أسقط مشروع الأطراف التى تتصور ذلك من جدول أعماله!. ولابد لنا، إذا أردنا علاج الأزمة فى العلاقات مع مصر، وضع هذا الأمر فى بؤرة الإدراك. لقد اختارت مصر فى 30 يناير 2013 طريقها، بعد أن حددت فى 25 يناير 2011 هدفها، وقد يتعثر الطريق حيناً، ويضيع الهدف من مرمى البصر مرات، لكن الخبرة التاريخية، بمصر وشعبها، تشير إلى أنهما، فى النهاية، سيواصلان مسيرتهما وسيحققان مبتغاهما.

ثامناً: من الواجب الآن، وقد وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه من تدهور، التوقف تماماً عن أى تصعيد، مهما كانت مُغرياته، أو دواعيه. ولابد من استئناف المسارات الدبلوماسية، والتواصل مع القيادات الرسمية للدولة المصرية، والاستماع إلى ملاحظاتها ومخاوفها، وهى حقيقية حتى وإن بدت للبعض مُغالياً فى بعض أركانها، ولابد من العمل المخلص على مساعدة الشعب المصرى فى الخروج من اللحظة الحرجة التى يحياها، على كل المستويات، ذلك أن كل اهتزاز لاستقرار مصر، شعباً ودولةً، سيعنى المزيد من المشكلات للشعب الفلسطينى، وقد ينتهى بتحميل الشعب الفلسطينى مالا طاقة له باحتماله، وهو أمرلا يجب أن يحدث مهما كانت الدوافع.

تاسعاً: من واجب القوى الوطنية، المصرية والفلسطينية، العمل سويةً من أجل تدارك الأمر، والمساعدة على محاصرة أثاره السلبية، فى أسرع وقت، وهى مسئولية جسيمة لا يجب التهاون فى إنجازها، وخاصة فى مواجهة الأثر السلبى لها على الواقع الشعبى المصرى. هذه بعض الملاحظات التى كتبتها، بإخلاص، حرصاً على مصلحة شعبينا: الفلسطينى والمصرى، التى أثق فى أنها مصلحة واحدة بالأساس، وآمل أن تُفيد فى جهود المخلصين كافة لرأب الصدع، وإعادة بناء جسور الثقة بين البلدين الشقيقين.