Menu

نكبة ١٩٤٨ وتشكيل نواة العمل القومي (2)

سيف دعنا

الحكيم.

نقلاً عن الاخبار اللبنانية

في الذكرى الحادية عشرة لرحيل المناضل والقائد الفلسطيني والعربي جورج حبش (26 كانون الثاني/ يناير 2008)، أحد أبرز مؤسسي حركة القوميين العرب، والأمين العام المؤسس للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، يُصدر «مركز دراسات الوحدة العربية»، مذكّرات جورج حبش في كتاب بعنوان «صفحات من مسيرتي النضالية»، في تغطية لأبرز محطات تجربته النضالية. خصّ المركز «الأخبار» ببعض فصول الكتاب، تولّى تقديمها ومراجعتها الكاتب سيف دعنا وستُنشر تباعاً في حلقات.

بعد تجربتي في التدريس في يافا انتقلتُ إلى متابعة دراستي في الجامعة الأميركية في بيروت، حيث اخترت دراسة الطب. بدأت دراستي هناك عام 1944 وانتهت عام 1951. ذهبت من يافا إلى رأس الناقورة مروراً بحيفا، ومن ثم إلى بيروت، بالسيارة. بانتقالي إلى بيروت للدراسة، شعرتُ أنني أنتقل إلى جو جديد مختلف تماماً. التقيت هناك بطلاب من جنسيات عربية مختلفة، وكنّا نقضي معظم الوقت داخل الحرم الجامعي. ما زلت أذكر مطعم ومقهى «فيصل» الشهير الذي كان ملتقى الطلاب، حيث أصبح علامة بارزة في الحياة الجامعية وقد بقي هذا المطعم شهيراً ومعروفاً حتى سنوات الحرب اللبنانية، وكم أسفتُ لإغلاقه في ما بعد بسبب ظروف الحرب. من ضمن الدراسة الجامعية كان هناك مجموعة من المواد الاختيارية المطروحة خارج مجال التخصص، وكان علينا أن ننتقي من هذه المواد بحسب رغبتنا وميولنا، فما كان لي إلا أن اخترت مادة الفلسفة. هنا أذكر أستاذي في هذه المادة البروفسور شارل مالك.

ما زلت أذكر كيف كان يتهكّم على فكرة العروبة والقومية العربية، وهو ما كان يشعرني بالألم، لكن علاقتي به كانت ودية رغم الاختلاف في وجهات النظر. وقد أحببت مادة الفلسفة كثيراً حين قمت بدراستها.

ومن أصدقائي المقربين في الجامعة الأميركية كان الدكتور منير شماعة والدكتور منصور أرملي، كما أذكر الدكتور إبراهيم داغر والدكتور زهير ملحس وسعد المعشر والدكتور جمال الشاعر وآخرين كُثراً في مجال الطب، والدكتورة سعاد الأزهري التي كانت الطبيبة الوحيدة التي تخرجت معنا في هذه الدفعة. أما وديع حداد وأحمد الخطيب، فكانا في الدفعة التالية. كما أذكر من أصدقائي القريبين خارج كلية الطب الصديق العزيز علي منكو، رحمه الله، وكذلك نزار جردانة وموسى وحسن حمدان. وأذكر أن أحبّ الأنشطة إلى قلبي كانت الرياضة والسباحة والقراءة وسماع الموسيقى العربية، محمد عبد الوهاب بوجه خاص، وكذلك الموسيقى الكلاسيكية، والمشاركة في عدد من الأنشطة الطلابية. عام 1947، في 29 تشرين الثاني/نوفمبر، اتخذت هيئة الأمم قراراً بتقسيم فلسطين، وما زلت أذكر تأثير ذلك القرار لا في الطلاب الفلسطينيين فحسب بل في الطلاب العرب كافة. وأصبح هذا الموضوع، الموضوع السياسي والوطني والقومي، موضع اهتمام الجميع وشغلهم الشاغل ليل نهار. قبل ذلك التاريخ لا أذكر أنه كان لي اهتمامات سياسية، وبخاصة أني كنت طالباً جيداً تنحصر أحلامي في أن أصبح طبيباً نموذجياً. وكذلك كنت أمارس في قسم من الوقت السباحة والرياضة كما كنت منخرطاً في الجو الاجتماعي الذي كان الطلاب يعيشونه آنذاك، أقصد بذلك الأنشطة الشبابية والاجتماعية التي يعرفها كل من كان في الجامعة الأميركية في بيروت في ذلك الوقت ومحاضرات ثقافية قيّمة لأهم المفكرين وأساتذة الجامعة. أما بعد قرار التقسيم وسخونة الوضع السياسي الذي ولّده ذلك القرار، فقد تغير كل شيء بالنسبة إلي. في هذه الحقبة كان طلاب الجامعة وطلاب الثانويات في بيروت ولبنان بوجه عام ينطلقون بتظاهرات ضد مشروع التقسيم وينادون بالجهاد، فكانت تلك السنة الدراسية سنة تظاهرات وإضرابات واعتصامات وشتى أنواع الأنشطة الوطنية. أذكر أننا اعتصمنا يوماً في قاعة «West Hall» في الجامعة الأميركية، مطالبين الحكومات العربية بأن تقوم بتدريبنا وإرسالنا إلى جبهات القتال.

حين بدأت أفواج اللاجئين تصل إلى لبنان من مناطق شمال فلسطين، كان يجن جنوننا ونتابع الخروج بالتظاهرات مطالبين بدخول الجيوش العربية إلى فلسطين. أذكر أنني انضممت إلى مجموعة كانت تقوم بزيارة أماكن اللاجئين لمعرفة حاجاتهم وللاضطلاع عن قرب على أوضاعهم لتوفير بعض المستلزمات والحاجات الرئيسية لهم، إذ إن أهلنا كانوا قد تركوا مدنهم وقراهم من دون أن يتمكنوا من حمل أي شيء معهم نتيجة الإرهاب الصهيوني ونتيجة الطرد الإجباري وسياسة الاقتلاع التي مورست ضدهم. كم كان يهمني في ذلك الوقت أن أسمع قصصهم وأحاول الدخوٍل إلى نفسياتهم. لم يكن يخطر ببالي صراحة أن يتمكن اليهود بأي شكل من الأشكال من ربح المعركة ضدنا، فهذه الأرض أرضنا والبلد بلدنا وقد نشأنا ونحن ننظر إلى اليهود كجبناء لا يمكن أن يصمدوا أمام العرب. وكان العربي في مخيلتي ذلك الفارس الشجاع المقدام الذي لا يُهزم. لذلك كانت تلك الأحداث بالنسبة إليّ لا تصدق وكأنني في كابوس. كنت عاطفياً جداً وأصبحت أمتلك القدرة على الحديث والنقاش والمواجهة، كما كنت أشعر أنني أريد ترك الدراسة فوراً والذهاب إلى ساحات القتال لأقوم بواجبي بأي شكل.

في تلك الفترة اتصل بي زميل جامعي من كلية الآداب اسمه معتوق الأسمر، وحيّا اندفاعي وإخلاصي، وقال لي: «إن العمل بالعاطفة وحدها لا يكفي؛ علينا أن ننظّم أنفسنا، فالعدو يعتمد على العلم والتنظيم ولا يمكن أن نتغلّب عليه إلا بالعلم والتنظيم». بدأنا في النقاش، فاقترح علي الانضمام إلى تنظيم سري عربي من حيث الشمول وليس فلسطينياً فقط. وقال لي إنه لا يعرف قيادة هذا التنظيم ولكنّه يعرف فقط المسؤول الذي يتصل به. وقال رداً على أسئلتي الكثيرة إن ما يستطيع فعله هو أن يصلني بهذا المسؤول لأحاول أن أفهم منه كل شيء. لقد عرفنّي إلى المسؤول الذي كان طالباً في الجامعة أيضاً وهو لبناني الأصل اسمه رامز شحادة، وهو كان رئيس النادي الثقافي العربي في رأس بيروت في ذلك الوقت. قال لي ذلك المسؤول: «إننا سننظّم مجموعة محاضرات يقدمها الأستاذ قسطنطين زريق، وإن هذه المحاضرات هي أقرب إلى الاجتماعات السرية أو على الأقل غير المعلَنة». كانت تعقد تلك الاجتماعات في النادي الثقافي العربي القريب من الجامعة الأميركية في رأس بيروت، وما زلت أذكر الأستاذ قسطنطين زريق وهو يلقي علينا بعض المحاضرات. كان يحضر ومعه رؤوس أقلام، وكانت المحاضرات تتمحور في ذلك الوقت حول القومية العربية وكيف أنها تمثّل الطريق لمواجهة خطر المشروع الصهيوني والنهوض بالأمة العربية كلها واستعادة وتجديد الحضارة العربية المجيدة. ومع أني كنت أواظب على حضور تلك المحاضرات التي كانت تُعقد حسبما أذكر مرة في الأسبوع، إلا أنني كنت مشدوداً للتطوع وإعداد نفسي للقتال، وكنت أسأل معتوق ورامز باستمرار «متى سيعدّ لنا التنظيم فرصة التدرُّب والالتحاق بالثوار؟ وكنت أتمزق حين أجد أن العام الدراسي، 1948، يكاد ينتهي من دون أن نلتحق بالقتال. وحين أتت العطلة الصيفية ـــــ وأعتقد أن إدارة الجامعة اختصرت فترة الدراسة بسبب الظروف السياسية الملتهبة آنذاك ـــــ حينها وجدت نفسي غير قادر على البقاء في بيروت وأنني ما لم أتمكن من الالتحاق بالقتال عن طريق التنظيم فسأذهب إلى فلسطين مباشرة إلى أهلي، وهناك أحاول أن أرى ما أستطيع فعله. أذكر أنني أثناء حضوري الندوات المصغرة التي كان يلقيها علينا الأستاذ قسطنطين زريق تعرفت إلى الرفيق هاني الهندي الذي كان يدرس في كلية الآداب في الجامعة الأميركية في ذلك الوقت. وقبل انتهاء العام الدراسي، أي عام 1948، أُجريت انتخابات الهيئة الإدارية لجمعية العروة الوثقى، وكان معتوق ورامز وآخرون من الشبان العرب الذين هم أقدم مني في الجامعة الذين تهيأوا لانتخابات العروة الوثقى وقدموني كنائب رئيس لها، فنجحت قائمتنا وقررنا المباشرة بنشاطنا في العام الدراسي الجديد. كان الرئيسَ المرشحَ لجمعية العروة الوثقى في ذلك الحين شابٌ سوري اسمه إدمون الباوي (كان من ضمن قائمتنا).