المسار الأمريكي تجاه القضية الفلسطينية، اتخذ طريقًا تتضاءل فيه إمكانية إدارته بطريقة عادلة، أو موضوعية، منذ استبعاد المستعربين
عرفت الولايات المتحدة منذ الأيام الأولى لبداية الحرب الباردة، عقب نهاية الحرب العالمية الثانية، نمطاً واضحاً لصناعة السياسة الخارجية، يشارك فيه القوى السياسية مهما اختلفت توجهاتها فيما بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، بالالتزام بقواعد مشتركة، بشأن تصعيد القوة العسكرية الأمريكية، ومفهوم الهيمنة على العالم، بحيث كان يجري استبعاد من لم يلتزم بهذا التوافق، عن المناصب في وزارتي الخارجية والدفاع، وغيرهما من المؤسسات الحكومية الأخرى.
وإن كان هذا التوجه قد أخذ يضعف منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر(أيلول) 2001، وما صاحبه من تقلص دور الكونجرس بالنسبة لهذا الاتجاه، وإتاحة مساحة أكبر من التصرف في صناعة القرار، لمسؤولين تنفيذيين في الإدارة، وإعطاء المؤسسة العسكرية سلطات أكبر في التصرف. ووصل الأمر إلى غض النظر عن أخطاء سياسية يمكن أن تقع على يد هؤلاء وكان أبرزها ما جرى من سقطات سياسية من مسؤولين كبار في الإعداد لحرب العراق، ثم ما جرى من تصرفات عقب الحرب، خلقت فوضى داخلية، وضاعفت من الوجود الإرهابي داخل العراق.
واتفقت دراسات عديدة لمراكز الفكر السياسي في الولايات المتحدة، على أن الرأي العام قد لا يتم إحاطته بكثير من الحقائق، مثل اللجوء إلى تضخيم التهديدات للأمن القومي في الخارج، تبريراً للحروب، وزيادة الإنفاق على الإنتاج العسكري، وإدارة هذه العمليات وفق سياسة إشاعة الخوف لدى المواطن الأمريكي.
كان هذا جانباً من التطورات التي لحقت بإدارة وصناعة السياسة الخارجية الأمريكية، من بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، لكن كان هناك تطور آخر في طريقة صناعة وإدارة السياسة الخارجية في الشرق الأوسط، وخاصة ما يتعلق بالنزاع العربي- «الإسرائيلي».
في البداية كان المسؤولون عن هذا الملف في وزارة الخارجية، ممن يعرفون باسم المستعربون Arabisto، وهم من الخبراء العارفين بالمنطقة، والمتخصصين في قضايا يتعاملون معها بأسلوب موضوعي. هؤلاء ظهر دورهم في فترة إدارة الرئيس هارى ترومان، والذي كان وزير خارجيته يومئذ جورج مارشال.
فحينما قرر ترومان الاعتراف بقيام دولة «إسرائيل» عام 1948، فإن جورج مارشال اتخذ موقفاً معارضاً لهذا القرار، وأيدته مجموعة المستعربين في وزارة الخارجية. وأمام إصرار ترومان على قراره، توقف مارشال عن اعتراضه. وحين سأله مساعدوه عن سبب تغيير موقفه، قال: «إن ترومان هو الرئيس الذي انتخبه الشعب الأمريكي ولست أنا».
بعدها بدأ تخفيض أعداد المستعربين بوزارة الخارجية، إلى أن بدأت الإدارات الأمريكية المتعاقبة، تستعين فيمن تعهد إليهم بملفات الشرق الأوسط، والصراع «الإسرائيلي» - الفلسطيني، بشخصيات يهودية مثل: دنيس روس، وديفيد أرون ميللر، اللذين استمرا في أداء هذا الدور مع عدد من الرؤساء. وإن كان الاثنان رغم تعاطفهما مع «إسرائيل»، إلاّ أنهما خاصة ميللر، كانت لهما مواقف تبعد أحياناً عن التحيز الكامل ل«إسرائيل»، أملاً في إيجاد تسوية للنزاع، والذي أصبح الاثنان على معرفة تامة بتفاصيله، وبالأخطاء التي يمكن أن تترتب على عدم حمله.
لكن هذا الوضع جرى له انقلاب، يدفع التحيز المطلق ل«إسرائيل» على حساب الجانب العربي، ومع تولي دونالد ترامب الرئاسة، عندما اختار من يكلفهم بهذا الملف، ممن عرفوا بالتحيز المطلق ل«إسرائيل»، ومنهم صهاينة لهم آراء معلنة من تأييد التوسع الاستيطاني، ورفض قيام الدولة الفلسطينية، بناء على حل الدولتين.
ظهر ذلك في اختياره لسفيره الجديد في «إسرائيل» ديفيد فريدمان، ومبعوثه للشرق الأوسط، جرينبلات، وتكليف صهره اليهودي جاريد كوشنر بمهام التفاوض حول النزاع مع أطرافه، والثلاثة لهم نفس المواقف المنحازة ل«إسرائيل».
معنى هذا أن المسار الأمريكي تجاه القضية الفلسطينية، قد اتخذ طريقًا تتضاءل فيه إمكانية إدارته بطريقة عادلة، أو موضوعية، منذ استبعاد المستعربين، والاستعانة بمن يبتعدون عن الحياد السياسي، وصولاً إلى وضع الملف في أيدي من هم في ارتباط مع الفكر «الإسرائيلي».