Menu

قطاع غزة وتاريخ العلاقة مع نظام الحكم

محمّد جبر الريفي

شكل قطاع غزة منذ النكبة وقيام الكيان الصهيوني القلعة الأساسية للوطنية الفلسطينية، حيث بقي متمسكًا بصفته الوطنية، يحمل اسم فلسطين بينما باقي الشعب الفلسطيني فقد توزعت تجمعاته بين الحصول على الجنسية الإسرائيلية، ولكن ضمن سياسة التمييز العنصري، أو اكتساب الجنسية الأردنية بعد ضم الضفة الغربية للمملكة الهاشمية، أو إقامتهم في مخيمات الشتات في الدول المضيفة لهم كلاجئين. هذا الوضع السياسي المتميز للقطاع جعله أكثر حساسية سياسية وأمنية في علاقته بنظام الحكم في وقت تم التركيز به على خصوصية الحالة المعيشية الفلسطينية، بسبب حالة الاقتلاع والإجلاء، حيث أضحى بعد النكبة أكبر مستودع بشري للاجئين الذين نزحوا إليه من المدن والبلدات والقرى التي احتلتها قوات العصابات الصهيونية.

في أعقاب النكبة مباشرة خضع القطاع لرقابة القوات المصرية الضاربة، كما كانت توصف من قبل الإعلام الحربي المصري في ذلك الوقت مما أشاع الأمن في ربوع القطاع الذي تولت الإدارة المصرية الإشراف عليه، وفي عهدها الذي استمر من عام 1948 إلى عام 1967، بقي الوضع السياسي الداخلي مستقرًا، بحيث يستطيع الإنسان أن يعيش بدون معاناة كبيرة تذكر.

صحيح أنه كانت توجد حالة فقر، ولكن الأصح أيضًا إنه على مستوى الحياة الاجتماعية لم يكن يوجد هذا الفارق الطبقي الكبير بين فئة حاكمة منتفعة، وفئة محكومة تعيش على المنح والكوبونات. لقد وفرت الإدارة المصرية كل متطلبات الحياة المعيشية التي يمكن لأي مواطن الحصول عليها بدون عناء، من: غذاء، ودواء، وصحة، وتعليم، وعلى مستوى الخريجين الذين تم استيعابهم كمدرسين في المحافظات المصرية. وهكذا لم يشهد قطاع غزة في عهد إشراف الإدارة المصرية أي نوع من المعارضة السياسية للحكم، ولم يجر أي نقاش داخل الأحزاب السياسية الموجودة بكافة تلاوينها القومية والإسلامية واليسارية عن ضرورة إنهاء الحكم المصري العسكري، بل إن جماهير القطاع بعد انسحاب القوات الإسرائيلية في 7 مارس 1957، طالبت بعودة الإدارة المصرية ثانية إليه رافضة بشدة عبر مسيرات حاشدة مشروع التدويل الذي كان مطروحًا في الأمم المتحدة.

كان من الطبيعي أيضًا أن تبدأ الانتفاضة الأولى في الأراضي المحتلة عام 1967 من القطاع، وذلك بسبب التناقض الرئيسي مع الاحتلال على الرغم من عدم وجود ضائقة معيشية بين أغلب سكانه، حيث أغلب عمال القطاع كانوا يمارسون أعمالهم المهنية ضمن عجلة الاقتصاد الإسرائيلي. أما بعد اتفاقية أوسلو وقدوم السلطة الفلسطينية، فقد شعر سكان القطاع لأول مرة بترجمة المشاعر الوطنية في التحرر إلى حقيقة سياسية وأمنية؛ فواقعيًا فقد غابت سياسة الوصاية العربية عنه، وقد تم انسحاب القوات الإسرائيلية منه، وأصبح يشكل في الواقع المقر الرئيسي لكيان سياسي ذاتي في حال التطور نحو الاستقلال، وهكذا نعم القطاع باستقرار سياسي في عهد السلطة، فلم يشعر الغزيين بأي غلاء معيشي، أو بطالة خريجين، أو أزمة كهرباء؛ لكن بعض مظاهر الفساد الإداري التي ظهرت على بعض المسئولين قد ألحق نوعًا من الاستياء بين صفوف الشعب؛ فشيوع الرشوة والمحسوبية وبروز النزعة العائلية والفلتان الأمني وسطوة بعض الأجهزة الأمنية، خاصة جهاز الأمن الوقائي الذي شكل ما يسمى (فرقة الموت). كل هذه المظاهر كانت وراء خسارة حركة فتح في الانتخابات التشريعية وفوز حركة حماس التي تطرح نفسها منذ نشأتها في الانتفاضة الكبرى كبديل لمنظمة التحرير الفلسطينية.

 الانقسام السياسي البغيض كان الصدمة الكبرى التي أبرزت على نحو فاقع ومأساوي شكل الصراع على السلطة، فانقلاب حركة حماس على شرعية السلطة وبغطاء مشروع المقاومة في مواجهة مشروع المفاوضات الذي لم يحقق أي تقدم ملموس على صعيد التسوية. حوّل هذا الانقلاب قطاع غزة إلى إقليم محاصر، مما جعله أشبه بسجن كبير يصعب الخروج منه والدخول إليه من خلال معبر رفح الوحيد، وهكذا خلال اثني عشر عامًا من الانقسام ازدادت الأوضاع المعيشية الصعبة فيه سوءًا؛ فلم تفلح الاتفاقيات التي وقعت في إنهائه وإجراءات الضغط التي مورست من قبل السلطة في رام الله والمتعلقة بخصومات رواتب الموظفين الحكوميين قد ساهمت هي الأخري في وصول القطاع إلى أحوال كارثية لينفجر الحراك الشعبي أخيرًا رافعًا شعار: (بدنا نعيش)، أو كما يوصف في بعض وسائل الإعلام بثورة الجياع في مواجهة حكومة الأمر الواقع التي قابلته أجهزتها بوسائل القمع المختلفة التي أدانتها مختلف الفصائل الوطنية الفلسطينية.

 لم يكن الأسلوب الذي يجري الآن في القطاع من حراك شعبي وطني مطلبي؛ إلا ذاك الأسلوب الذي درج عليه القطاع في علاقته السياسية مع نظام الحكم على مختلف أشكاله، سواء أكان في عهد الإدارة المصرية، أو عهد الاحتلال، أو في عهد كل من السلطة الفلسطينية وحكومة الأمر الواقع التي تديرها حماس؛ فبقدر ما يلبي نظام الحكم احتياجات الجماهير الشعبية بقدر ما تلتف حوله وتنعدم المعارضة، وفي كلتا الحالتين: التفاف الجماهير أو نشوء المعارضة، يبقى القطاع قلعة أساسية من قلاع الوطنية الفلسطينية.