Menu

احتكار "المقاطعة"

خاص بوابة الهدف

لم يأتِ اصطلاح "تطبيع"، الذي يُطلَق على الأنشطة التي تخرق المقاطعة العربية للكيان الصهيوني، صدفةً؛ فالمنطلقات الأساسية لاشتقاق مثل هذا الاصطلاح جاءت من طبيعة الموقف العربي من الكيان الصهيوني، بوصفه وجودًا غريبًا معتدِيًا على المنطقة وأهلها، يتم العمل على لفظه والتخلص منه؛ أيّ أن هذا الكيان ليس جزءًا من مركبات هذه المنطقة التي تطورت فيها بشكل طبيعي.

وبالتالي جرى توصيف كل محاولة لنقل العلاقة أو التعامل مع هذا الكيان أو توصيفه كما لو كان فعلًا عاديًا يماثل المعتاد والطبيعي بين الدول أو بين الشعوب والدول، جرى توصيفه بكونه فعلًا تطبيعيًا، أيّ فعلًا يسعى للقبول بهذا الكيان وتطبيع وعينا مع وجوده وسياساته وأنشطته. وفي هذا الإطار يمكن فهم المسافة بين التعامل مع الجمهور العربي الذي التزم لسنواتٍ طويلة بالمقاطعة التامة مع الكيان الصهيوني، والتعامل ضمن محاولات حشد المواقف خارج العالم العربي في كيانات ودول ومجتمعات اعتادت مناصرة الكيان الصهيوني والتواصل معه ودعمه.

النشاط الكبير في الساحة العالمية لحركات المقاطعة وفرض العقوبات على الكيان الصهيوني خلق سياقًا من التفكير، يتمركز حول معايير وآليات عمل المقاطعة في هذا الحيّز. لم يضع المساهمون فيه في اعتباراتهم الأولى طبيعة الوضع العربي المتقدم نسبيًا على الحيز العالمي والأوروبي في مقاطعة الكيان، بل وطبيعة التوصيف السياسي للشعوب العربية كمتضررٍ مباشر من الوجود الصهيوني، وكتلةٍ بشريةٍ ذات استعدادية أعلى شعوريًا وسياسيًا لمجابهة هذا الكيان.

لا لوم على حركات المقاطعة حين تضع معاييَر لما خبرته جيدًا في المشهد الغربي والأوروبي، ولكن الإشكال يأتي من محاولة فرض ذات المعايير كمرجعية عليا تحكم خطابنا تجاه الجمهور العربي، ذلك الجمهور الذي تبدي أغلبيته موقفًا واضحًا يعادي المشروع والكيان الصهيوني، وتبدي نسبة معتبرة منه مواقف أكثر تقدمًا واستعداديةً للانضمام إلى الفلسطيني في مقاومته لهذا الكيان. فمن تطالبه بالكف عن دعم الكيان في العالم الغربي بالتأكيد ليس هو المواطن العربي الذي قاتل أبوه وأخوه إسرائيلَ لسنوات طويلة، وتربى على مركزية القضية الفلسطينية، وضرورة التخلص من المشروع الصهيوني وتصفيته، فلا يمكن تخيل أن وظيفة أيّ جسم نضالي فلسطيني مطالبة الناس بالرجوع إلى الوراء عن موقعهم في الصراع وقربهم من خندق المواجهة وخطها الأول.

ما يعيد فتح هذا النقاش مؤخرًا بين الفينة والأخرى، هو ذلك الإصرار على تعميم معايير عامة للمقاطعة، كما لو كانت نصًا مقدسًا، بل والانجرار إلى منازعة حول شرعية تمثيل المشاركين الفلسطينيين في هذا الجانب، بما يتناقض مع الطبيعة الشعبية التشاركية لجهود المقاطعة، بل ويتنافى مع الطبيعة السياسية لأيّة مطالبات أو ادّعاءات بالتمثيل الحصري.

في مواجهة الكيان الصهيوني والمشروع الاستعماري هناك مساحة واسعة من خيارات المواجهة، والمنطق يقول أن واجبنا كمنتمين إلى هذه القضية، السعيُ إلى تصعيد درجات المقاطعة ضد هذا الكيان، كلّما أمكن، بل وأكثر من ذلك، السعيُ لتحويل هذه المقاطعة إلى أنماط أكثر تقدمًا من الإسهام في المواجهة ضد الكيان الصهيوني.

هذا يقود إلى موقف المطالبة الواضحة بالعمل على منع أيِّ مظهرٍ من مظاهر التطبيع الكلّي أو الجزئي، يسهم في خرق جدران المقاطعة العربية للكيان الصهيوني، فمساحة العمل على حصار الكيان لا تتطلب إهدار الجهود في محاولات "الاحتكار" وإقصاء الآراء الأخرى، أو التشبث بالتجارب الذاتية، ولكن الانفتاح على كلّ تلك التجارب والآراء المعمّدة بإرث آلافٍ من الشهداء، وسنوات من التضحيات.