عادة ما تنتظر القيادة الفلسطينية إلى حين وقوع الفأس بالرأس، ويبدأ بعد ذلك الشجب والإدانة، ومطالبة الشعب والأشقاء والأصدقاء بالتحرك، وذلك انعكاسًا لإستراتيجية الانتظار المعتمدة: إستراتيجية رد الفعل، بدلًا من الأخذ بإستراتيجية المبادرة والفعل. والأدلة على ذلك لا تحصى، كان آخرها اتخاذ قرار بوقف العمل بالاتفاقيات الموقّعة (مع الاحتلال الإسرائيلي) كردة فعل على مجزرة هدم عشرات المنازل في وادي الحمص، الذي كان عامًّا يفتقر إلى التحديد الملموس، وترافق مع الدعوة إلى تشكيل لجنة لتنفيذه، عقدت أول اجتماع لها بعد أسبوع من اتخاذه.
وضمّت اللجنة أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وأعضاء فيها، ورئيس الحكومة ووزراء، وأعضاء في اللجنة المركزية لحركة فتح، ومدير المخابرات، ومستشار الرئيس للشؤون الديبلوماسية، ونائب الأمين العام للجبهة الديمقراطية، من دون أن تضم أي أحد من الخبراء أو الشخصيات الاعتبارية المستقلة أو الفصائل التي قاطعت أو لم تدع للمجلس الوطني.
وصرح أحد أعضاء اللجنة بأن الاجتماع الأول لم يتخذ قرارات، بل اقتصر على تحديد المرجعيات وخطوط العمل وكأنها ستبدأ من الصفر، من دون الإشارة إلى ما انتهت إليه اللجان الثماني التي شكلت في السنوات الأربع السابقة، وسبق أن تحدّث أمين سر اللجنة التنفيذية وغيره من أعضائها من أنها درست وفحصت كيفية تنفيذ القرارات، وحددت الإجراءات والخطط التي يجب تطبيقها بالتدريج، ودرست كيفية التعامل مع ردود الأفعال المحتملة.
يعكس البدء بالبحث والدراسة مجددًا استمرار وجود التردّد من عواقب تنفيذ القرارات السابقة، واستمرار الرهان على حدوث تطور أو تغيّر يسمح باستئناف المفاوضات وما سميت "عملية السلام"، خصوصًا إذا ما خسر اليمين المتطرف الانتخابات الإسرائيلية، وربح اليمين والوسط وبقايا اليسار، مع أن هذا مستبعد، إذ تشير الاستطلاعات حتى الآن إلى نوع من التوازن، وعجز كل من "الليكود" وحزب "كاحول لافان" عن تشكيل الحكومة وحدهما من دون انضمام حزب "يسرائيل بيتينو" برئاسة أفيغدور ليبرمان إلى أحدهما، ما يفتح الطريق لتشكيل حكومة وحدة وطنية، لن تقدر على تغيير الخطوط العامة للحكومة الحالية، وقد لا تمرر اتخاذ خطوات أكثر تطرفًا، ولكنها لن تقدر على تغيير جوهري لما هو قائم، لأن معظم أعضاء الكنيست القادم يغلب عليهم التطرف والتنافس على من هو الأكثر تطرفًا، والفروق الجوهرية بين معظمهم بين من يريد الضم الآن ويرفض إقامة الدولة الفلسطينية، وبين من يريد استمرار السيطرة الإسرائيلية على الضفة الغربية وكل فلسطين والاكتفاء بضم الكتل الاستيطانية، ويرفض قيام الدولة الفلسطينية.
أقترح في هذا المقال على الفلسطينيين تجريب طريقة أخرى، من خلال إعداد العدّة لإحباط احتمال إقدام الحكومة الإسرائيلية القادمة، خصوصًا إذا كانت مُشكّلة من اليمين المتطرف الديني والسياسي، على ضم أجزاء من الضفة، مثل المستوطنات وغور الأردن، وتعميق أسرلة القدس وتهويدها.
لقد مهّدت الحكومات الإسرائيلية، وخصوصًا الأخيرة، الطريق سياسيًا وقانونيًا لضم أجزاء من الضفة. كما أن إدارة دونالد ترامب تبدو متحمسة لهذه الخطوة كما يظهر من تصريح، السفير الأميركي في تل أبيب، ديفيد فريدمان، حول حق إسرائيل بضم أجزاء من الضفة، وتعليق جيسون غرينبلات على ذلك بأنه يوافق على روح ما قاله زميله في فريق "السلام" الأميركي.
وتشجّع إسرائيل على الإقدام على ضم أجزاء من الضفة حالة الضعف التي يعاني منها الفلسطينيون في ظل استمرار الانقسام وتعمّقه أفقيًا وعموديًا، وعدم اعتماد إستراتيجية فاعلة لا بشكل موحد ولا بشكل انفرادي. فالسلطتان في الضفة وقطاع غزة مشغولتان إلى حد كبير بالبقاء والحفاظ على وجودهما. كما أن الوضع العربي مناسب لتمرير قرار الضم، فهو منقسم بين فريق يعاني من صراعات داخلية وخارجية وجودية، وآخر يريد الاستعانة بـ"الشيطان" الأميركي الإسرائيلي لحمايته مما يتصور أنه الخطر الإيراني، لذلك نراه مدفوعًا نحو التطبيع والتمهيد لتمرير "صفقة ترامب" كعربون لتدشين تحالفه الجديد.
الأمر الوحيد الذي يمكن أن يحبط أي قرار إسرائيلي بضم أجزاء من الضفة هو نشوء وضع يقنع إسرائيل بأن هذه الخطوة ستُخسّرها كثيرًا وأكثر مما يمكن أن تربحه منها، وهذا يكون من خلال الاستعداد الفلسطيني لردة فعل تتناسب مع خطورة هذه الخطوة، مثل إطلاق مقاومة فاعلة، يمكن أن تترافق أو تصل إلى انتفاضة شعبية.
وحتى يتحقق ذلك، لا بدّ أولًا من التصميم على إحباط الضم مهما كلف الأمر، وتوفير متطلبات تحقيقه. ويمكن البدء بالتسخين فورًا من خلال الشروع في عمل بروفات من موجات المقاومة الشعبية، التي يجب ألا تقتصر على بعض المجموعات قليلة العدد، التي تتحرك بشكل نمطي ومؤقت وموسميّ وفي بعض الأماكن، وإنما تنتشر وتعمّ مختلف المناطق، وتتوفر لها الإمكانات، والأهم الدعم السياسي والمادي على أعلى المستويات، بما فيها الالتزام بضمان المشاركين وأهلهم في حالة تعرضوا لأي أضرار أو اعتقالات.
وثانيًا، من خلال إظهار الجدية إزاء إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، وفيما يتعلق بتطبيق القرارات السابقة بخصوص سحب الاعتراف بإسرائيل، والتقدم على طريق إنهاء التبعية الاقتصادية، ووقف التنسيق الأمني، وتغيير وظائف السلطة وعلاقتها بالمنظمة والدولة على أساس أنّ الدولة قائمة وليست قضية متفاوضًا عليها، والمطلوب النضال لتحريرها وإنجاز الاستقلال الوطني والسيادة.
وفي هذا السياق، يمكن اتخاذ الخطوات الآتية:
أولًا: إصدار قانون بخصوص منع العمالة والتعامل والاستثمار في المستوطنات، يتضمن فرض عقوبة السجن لمن لا يلتزم، خصوصًا من المستثمرين والتجار، وبالترافق مع ذلك العمل على إنشاء أو إحياء "صندوق الكرامة" (الذي سحب من التداول من دون تفسير) الهادف إلى توفير فرص عمل بديلة للعمال الذين يضطرون للعمل في المستوطنات لسد رمق عائلاتهم، ومطالبة مصر والأردن وأوروبا وكل الدول التي ترتبط بعلاقات مع إسرائيل بعدم استيراد بضائع من المستوطنات أو إقامة أي نوع من العلاقات معها، ومطالبة رعاياها الذين يحملون جنسيات مزدوجة بمغادرة المستوطنات ووقف التعامل معها، وإذا رفضوا منعهم من الدخول إلى بلادهم.
ثانيًا: تبني حركة مقاطعة إسرائيل ودعمها حتى تصل إلى كل بيت، ويمكن أن تبدأ الحملة الجديدة بمقاطعة أي بضاعة إسرائيلية في الضفة وقطاع غزة إذا توفر لها بديل محلي أو عربي أو أجنبي.
ثالثًا: تعزيز صمود المواطنين في مناطق (ج)، من خلال تعزيز الاستثمار في القطاع الزراعي ودعم المزارعين، وإعادة النظر في الخطط التنموية والموازنة العامة، إضافة إلى تحدي منظمة السيطرة الإسرائيلية على الموارد الطبيعية في تلك المنطقة، وخاصة المياه.
رابعًا: نقل المهمات السياسية من السلطة إلى المنظمة، بحيث يتبع العمل الديبلوماسي إلى المنظمة مثلما كان في السابق عند بداية تشكيل السلطة.
خامسًا: حل جهاز أمني واحد على الأقل، وتوزيع عناصره على وزارات وقطاعات أخرى، ويمكن البدء بالأمن الوطني، على أن تتبع ذلك أجهزة أمنية أخرى بالتدريج ضمن تصوّر شامل لإعادة بناء الهيكل الوظيفي المدني والأمني للسلطة ليلبي الاحتياجات والأولويات والمصالح الفلسطينية، مع تقوية جهازي الشرطة والدفاع المدني.
سادسًا: تفعيل اتفاقيات التبادل التجاري مع الأردن ومصر حتى الحد الأقصى، وخصوصًا أن معاهدتي السلام بينهما وبين إسرائيل تتيحان ذلك.
سابعًا: إعلان فصائل المقاومة في قطاع غزة أنها لن تقف مكتوفة الأيدي إذا قامت إسرائيل بخطوات ضم، فإذا كان العدوان على غزة يستوجب الرد، فالعدوان على الضفة، وخصوصًا على القدس والمقدسات، يستوجب ذلك أيضًا.
ثامنًا: بناء جبهة عالمية واسعة للدفاع عن الحقوق والمصالح الفلسطينية المهددة من "صفقة ترامب" ومخططات إسرائيل بالضم والتهجير، تستهدف فرض حل يستجيب للقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة التي تحقق الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية.
ما سبق مجرد نموذج قابل للتطوير والتعميم، ويساعد على الانتقال من سياسة محكومة بردة الفعل إلى سياسة فاعلة تحدث التراكم وقادرة على تحقيق النصر. وهنا من المفيد التذكير أن التهديدات الجسيمة التي تهدد القضية الفلسطينية يمكن تحويلها إلى فرص في ظل الأزمات التي تعيشها إسرائيل والمستجدات والمتغيرات الإقليمية والدولية. فإسرائيل ليست اللاعب الوحيد في المنطقة، فهناك لاعبون ينافسونها بشدة، كما لم يعد العالم أحادي القطبية، ويقترب أكثر إلى عالم متعدد القطبية لن تكون فيه الولاياتُ المتحدة الدولةَ العظمى المهيمنةَ على المنطقة والعالم.