تهمشت القضية الفلسطينية بين أقدام الفيلة؛ أمريكا وروسيا والاتحاد الأوروبي والصين، ولم تعد تثير اهتماماتهم السياسية كثيرًا كما هو الحال في السابق، يوم كان للنظام العربي الرسمي موقفًا سياسيًا قوميًا موحدًا تجاه مركزية القضية الفلسطينية، وتجاه الموقف من وجود الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي، حيث لا مصالح سياسية واقتصادية لهذه الأقطاب الدولية من وراء التوصل إلى تسوية سياسية عادلة؛ لذلك استمر الكيان الصهيوني يواصل سياسة التعنت والصلف والعدوان والرفض لتقديم استحقاقات السلام العادل التي تكفل للشعب الفلسطيني تحقيق حريته واستقلاله الوطني مثل باقي دول العالم.
طيلة واحد وسبعين عامًا على قيام الكيان الصهيوني، وست وعشرين عامًا على توقيع اتفاقية أوسلو، انتهك فيها الكيان الصهيوني كل القوانين الدولية، من اغتصاب واحتلال واعتداءات واستيطان وتهويد وقمع دموي، والأقطاب الدولية لم تتخذ أي ضغوطات سياسية واقتصادية، وقد انعكس ذلك أيضًا على موقف الأمم المتحدة، حيث لم يتخذ مجلس الأمن الدولي أي قرار ملزم على البند السابع، كما حصل مع العراق وأفغانستان، بسبب استخدام حق النقض "الفيتو " من قبل واشنطن.
لقد كان مفهومًا ومبررًا أن لا يمارس القطب الأمريكي الأوحد أية ضغوطات على الكيان الصهيوني، بسبب التحالف الاستراتيجي الأمريكي الإسرائيلي، ولكن في ضوء حالة التعدد القطبي الموجود الآن، كان لا بد من ممارسة أنواع وأشكال من الضغوطات السياسية والمادية على حكومات الكيان حتى تتراجع عن سياسة التعنت والتوسع الاستيطاني التي كانت ترى فيه تجسيدًا للرواية اليهودية، ولكن نتنياهو يجد في الرئيس الأمريكي الأصولي المسيحي ترامب، الحليف القوي الأكثر التزامًا بالفكر الصهيوني من الصهاينة أنفسهم؛ فيعترف ب القدس الموحدة عاصمة لهم، في خطوة سياسية نوعية خطيرة، لم يقدم عليها أي رئيس أمريكي سابق، ويسعى الآن جاهدًا لشطب حق العودة، من خلال مطالبة الأمم المتحدة بصياغة تعريف جديد للاجئ الفلسطيني، في محاولة لإسقاط حق ملايين من اللاجئين بالعودة إلى ديارهم. وفي موسكو يستقبل نتنياهو قبل أيام من قبل الرئيس الروسي بوتين، في إطار تنسيق المواقف الأمنية في الأزمة السورية، بعيدًا عن مسألة المشاركة في مسعى دولي بهدف التوصل إلى تسوية للصراع العربي الصهيوني، ويأتي هذا التنسيق الأمني حتى لا تتعرض القوات الروسية لهجمات السلاح الجوي الإسرائيلي، كما تتعرض لها قوات النظام والحرس الثوري الإيراني والحشد الشعبي العراقي ومليشيات حزب الله اللبناني.
أما الاتحاد الأوروبي فلا موقف ضاغط سياسيًا واقتصاديًا يمارسه على الكيان الصهيوني، مع أنه الأقرب جغرافيا وتاريخيا إلى المنطقة العربية والشرق الأوسط، مكتفيًا بموقف سياسي لفظي تجاه المستوطنات، في حين تبحث الصين كقطب دولي آخر عن استثمارات تجارية جديدة في القارة الأفريقية، وفتح المزيد من الأسواق الاقتصادية في العالم لمنتجاتها الاستهلاكية، وذلك في إطار تنافسها مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية الصناعية الكبرى. وهذا هو الشغل الشاغل لها، دون الرغبة في الانغماس بالقضايا السياسية البعيدة عن موقعها الجغرافي الآسيوي، والأمر الملاحظ الذي يشكل حالة استثنائية هو في الموقف السياسي الصيني من مسألة تأزم العلاقة بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية.
هكذا هي القوي السياسية الدولية الكبرى في النظام العالمي الجديد، الذي جاء بعد زوال عهد القطب الأمريكي الأوحد، الذي أعقب انهيار الاتحاد السوفييتي السابق وتفكك منظومة المعسكر الاشتراكي، وهي قوى مشغولة في تحقيق مصالحها السياسية والاقتصادية، وهي تتعاطى مع القضايا الدولية بقدر ما تحقق لها هذه القضايا المصالح الحيوية، لذلك فهي في منأى في الظروف الحاضرة عن ممارسة أي ضغط على الكيان الصهيوني؛ لأن القضية الفلسطينية هي قضية سياسية مزمنة ومعقدة، وقد اعتادت عليها المحافل الدولية، وكذلك لم يعد يشكل وجودها بدون حل أزمة سياسية وأمنية ساخنة تهدد السلم والأمن الدوليين، وهذا في وقت يجد هذا الكيان الصهيوني من الدول العربية موقف القبول بوجوده؛ فتنسج بعضها علاقات التطبيع معه في وتيرة متسارعة، كان آخرها ما صرحت به وزيرة خارجية السودان بأنه ليس من المستبعد أن تقيم السودان في المستقبل علاقات مع الكيان الصهيوني. فأي تهميش إذن أصاب القضية الفلسطينية لدى الرأي العام العربي والدولي التي تثير اهتمامه القضايا السياسية الساخنة أكثر من هذا التهميش الذي أصابها، والذي يعمل الانقسام السياسي أيضًا الذي أصبح حقيقة إقليمية ودولية يتم التعاطي معه كأمر واقع على جعلها قضية لا تحتاج إلى حلول سياسية وطنية بقدر حاجتها إلى حلول إنسانية ذات طابع اقتصادي معيشي؟!