تراجع هدف تحرير فلسطين، ولم يعد يذكر الآن في الخطاب السياسي العربي المتعلق بالقضية الفلسطينية، وذلك بسبب نهج التسوية السياسية الذي بدأ بعد هزيمة يونيو حزيران 67، وتم تعميقه بشكل أكبر بعد حرب أكتوبر عام 73، بالمراهنة على الدور السياسي الأمريكي في حل قضية أصبحت تعرف في وسط الإعلام العربي والدولي في تلك الفترة بمشكلة الشرق الأوسط) 99% من الحل بيد امريكا)، وقد استبدل هدف تحرير فلسطين عند ذلك بشعار سياسي طرحته الشقيقة مصر، وهو إزالة آثار العدوان الذي نتج عن حرب الأيام الستة باحتلال الكيان الصهيوني الأراضي العربية في سيناء والضفة الغربية وقطاع غزة والجولان، وعلى أرضية هذا الشعار تم إقرار البرنامج المرحلي من قبل المجلس الوطني الفلسطيني في دورته التي عقدها في القاهرة عام 73، على أساس إقامة سلطة فلسطينية على أي أرض فلسطينية يجري تحريرها، والذي بقي يتدحرج إلى أن بات معروفًا باسم حل الدولتين، الذي ما زال يحظى بإجماع دولي، لكنه وصل الآن إلى تعثر دائم، رغم مضي أعوام طويلة على إبرام اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة الكيان الصهيوني. ويرجع سبب هذا التعثر بشكل أساسي إلى تعنت الكيان الصهيوني وعدم استعداده لدفع استحقاقات السلام العادل، وكذلك الانحياز الأمريكي المتواصل، الذي وصل أخيرًا إلى درجة التخلي عنه من قبل إدارة ترامب، وقد تم تطبيق ذلك عمليًا بالاعتراف ب القدس عاصمة موحدة للكيان الصهيوني، ونقل السفارة الأمريكية إليها؛ وكذلك في موضوع اللاجئين، مطالبة واشنطن الأمم المتحدة، بصياغة تعريف جديد للاجئ الفلسطيني، في محاولة تآمرية لإسقاط حق العودة عن ملايين من الذين شردوا من ديارهم بسبب الاعتداءات والجرائم البشعة التي ارتكبتها العصابات الصهيونية المسلحة عام 1948 .
هكذا، لم يعد خيارًا للشعب الفلسطيني سوى إعادة الاعتبار لهدف تحرير فلسطين من البحر إلى النهر، بالقضاء على دولة الكيان الصهيوني العنصري التي قامت على أنقاض شعبنا الفلسطيني، وهي الدولة العنصرية الوحيدة في الشرق الأوسط، بل وفي القارة الآسيوية، وهي دولة شبيهة بنظام الأبرتهايد العنصري، الذي كان سائدًا في دولة جنوب أفريقيا، قبل أن يستطيع حزب المؤتمر الوطني الأفريقي بقيادة نيلسون مانديلا من القضاء عليه.
هدف تحرير فلسطين الذي كانت مفرداته سائدة في الخطاب السياسي العربي في فترة المد القومي في الخمسينيات والستينيات، والذي كان له التفافه الجماهيري العربي العريض، بل كان يشكل مجرد التصريح بالخروج عنه جريمة وطنية وقومية تقابل باستهجان وبسخط النخب السياسية والثقافية العربية كلها، وهو الشيء الذي حدث للرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة، حين دعا في زيارة له للأردن قبل احتلال الضفة الغربية إلى الاعتراف بقرار التقسيم الصادر عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة والتخلي عن شعار تحرير فلسطين.
هدف تحرير فلسطين هذا الذي تراجع بسبب مراهنة العقلية العربية على التسوية الأمريكية التي بدأت باتفاقية كامب ديفيد، عليه، يعود الآن في أوساط الحياة السياسية العربية، خاصة في أجهزة الإعلام العربية الوطنية والقومية والتقدمية بشكل عام، لأن غيابه عن هذه الأجهزة التي لها تأثيرها على مزاجية الجماهير، قد أباح لقوى الرجعية العربية العميلة، بأن تجاهر في إجراءاتها التطبيعية مع الكيان الصهيوني الغاصب، بعد أن كانت تمارس هذه الإجراءات بشكل سري؛ خشية من رفض الشعوب العربية التي ما زالت ثابته في مواقفها السياسية من عدم الاعتراف بالكيان الصهيوني.
هدف تحرير فلسطين من البحر إلى النهر سيبقى هو الهدف الصحيح الناظم الذي يجب إعادة الاعتبار إليه والتمسك به، رغم الصعوبات التي تعوقه بسبب التأثير الذي أحدثه تيار الواقعية السياسية في العقلية السياسية العربية، والذي جعله يبرر التنازل في التعاطي مع قضايا الصراع العربي الصهيوني؛ بحجة الخلل الحاصل في موازين القوى بين الكيان الصهيوني التي تربطه بالإمبريالية الأمريكية تحالف استراتيجي، وبين قوى الحركة الوطنية الفلسطينية وقوى التحرر العربية؛ أنظمة سياسية وأحزاب وحركات وطنية تقدمية. وهكذا أيضًا فإن هدف تحرير فلسطين، هو الأسلوب الوحيد الذي سيبقى دومًا محركًا للنضال الوطني الفلسطيني في سعيه لتحقيق مطلب الاستقلال الوطني؛ لأن كل التسويات المطروحة الآن للقضية الفلسطينية باستثناء الحل الديموقراطي القائم على أساس مشروع الدولة الواحدة، سوف لن تعيد الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني؛ لأنها تسويات ناقصة لن تفلح في حل القضايا الجوهرية للصراع العربي الصهيوني، كقضيتي اللاجئين والقدس، ولن تستطيع أيضًا أن تحل المسألة اليهودية التي صدَّرها الغرب الاستعماري للوطن العربي بهدف التخلص منها.