بعد موجة الربيع العربي الأولى التي ابتدأت في تونس ووصلت إلى بلدان عدة، بدأنا نشهد في الآونة الأخيرة موجة ثانية.
لم تحقق الموجة الأولى أغراضها، لأنها حرقت المراحل، وعانت من القفز عن الواقع، ومن الصراع بين البنى المدنية والدينية والعسكرية في ظل غياب الرؤية والبرنامج والقيادة وأدوات التغيير، أو وقعت ضحية الرهان على الخارج واستعانت بالشيطان، غير مدركة أن من يستعن بالشيطان يصبح عبدًا له، ما أدى إلى سرقة الثورة وتغلب المؤامرة عليها.
بدأنا نشهد موجة ثانية مرت بالجزائر والسودان والأردن والعراق، واقتربت من مصر ووصلت إلى لبنان. أما في تونس، فأخذت مسارًا آخر ظهر جليًا في نتائج الانتخابات الأخيرة (الثالثة منذ ثورة الياسمين)، وها هي تصل لبنان، فهل تصل الموجة الجديدة إلى فلسطين؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال، لا بد من الانطلاق من أن البلدان العربية بحاجة إلى ربيع عربي حقيقي، يخلصها من الفساد والاستبداد والتخلف والتبعية والانقسامات المذهبية والعرقية. فيكفي ما يعانيه المواطن العربي من قمع وتهميش وفقر وبطالة وتجهيل وتجزئة، وما تعانيه المرأة من استغلال وعدم مساواة وقمع مزدوج داخل المنزل وخارجه.
يضاف إلى ذلك، إقصاء الشباب عن المشاركة لتأبيد قيادات أكل عليها الدهر وشرب، وتقف حائلًا دون التجديد والتغيير، وحتى ترفض الإصلاح، لأنها تخشى من أن يقود إلى الثورة والتغيير لإدراكها حجم التخريب الذي أحدثته على كل المستويات. فالحكم وراثي، ملكي كان أم جمهوري، والديمقراطية أغنية يرددونها من أجل منع تحقيقها في بلادهم، وخطط التنمية شعارات للاستهلاك والمباهاة، وليست للتطبيق، والمؤسسة لا وجود لها، فالسلطة التنفيذية، أو بالأحرى الملك أو الرئيس أو الأمير وحولهم بعض الأفراد يجمعون كل السلطات والصلاحيات والإمكانيات بأيديهم، ويوزعون المناصب والمكاسب والعطاءات على الأقارب وأهل الولاء والثقة. أما صندوق الانتخابات فلا يتم الاقتراب منه، وإذا عقدت الانتخابات يجب أن تكون نتائجها معروفة سلفًا، فهي يجب أن تبقي القديم على قدمه، وإذا حملت جديدًا يصرخ الناس "رزق الله على الذي كان".
وإذا كانت النخب السياسية العربية الحاكمة فاسدة ومستبدة، فإن بقية النخب إما فاسدة أو عاجزة أو كلاهما إلا من رحم ربي.
وما يزيد الطين بلة أن البلدان العربية مستباحة مثل الرجل المريض الذي يتنافس الجميع على وراثته قبل موته، وتشبه إلى حد بعيد ما كانت عليه الخلافة العثمانية في أواخر عهدها، وخصوصًا بعد هزيمة المحور في الحرب العالمية الأولى، حيث تقاسمت بريطانيا وفرنسا وغيرهما من دول الحلفاء مناطق نفوذها. أما اليوم، فيدور صراع دولي وإقليمي على الفوز بالبلدان العربية أو حصص منها، بينما الغائب الأكبر هو المشروع العربي القائد القادر على جمع العرب، أو الدولة العربية القائدة القادرة على جمع شمل العرب. فالعرب أمة عربية لا ينحصر مداها في دين أو شعب أو بلد واحد، وإنما تمتد على المنطقة العربية التي تقطنها الشعوب العربية جمعاء، ومحاولة تقزيمها بدين بعينه أو بلد أو حتى بلدان عدة فقط يساهم في بقائها نائمة.
بعد هذه المقدمة الطويلة نسبيًا، أنتقل إلى الإجابة عن سؤال المقال، بالجزم بأن موجة الربيع العربي الحالية أو التي تليها ستصل عاجلًا أم آجلًا إلى فلسطين، وذلك لأن النخبة السياسية "الحاكمة" معظمها فاسدة ومستبدة، هذا مع أخذ العذر لاستخدامنا هذه الكلمة جزافًا، لأن الحاكم الفعلي في فلسطين هو الاحتلال، وهو يستهدف فلسطين ماضيها وحاضرها ومستقبلها، ولا يميز بين فلسطيني وآخر، وهذا ينطبق كذلك على قطاع غزة، فهو لم يحرر على أهمية صموده ومقاومته، ولكن الاحتلال يأخذ هناك شكل الحصار والعدوان والتحكم بما يجري فيه، والعمل على إبقائه ما بين الموت والحياة.
كما أن بقية النخبة الفلسطينية، إلا ما ندر، فاسدة أو عاجزة أو كلاهما، بدليل أنها تأخذ حصتها من كعكة السلطة والقطاع الخاص والمنظمات الأهلية، أو تكتفي بتسجيل موقف للتاريخ، وإلقاء اللوم على الآخرين، والتحسر لفقدان الإمكانيات والدعم القادم عبر الحدود، وهذا كله يؤكد الحاجة إلى التغيير قبل فوات الأوان.
وأخيرًا، نذكّر إن نفعت الذكرى، بأن موجة الربيع الأولى أدت في العام 2011 وخلال أشهر قليلة إلى إرهاصات مبشرة في مختلف تجمعات الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات، عبّرت عن نفسها بالمظاهرات ونصب الخيام في ميادين المدن على غرار ميدان التحرير، وتشكيل عشرات المجموعات الشبابية، التي اندثرت أو تراجع دورها وفعلها ليس لعدم الحاجة إلى التغيير، وإنما جراء غياب الفكرة الواحدة والهدف الواحد والقيادة الواحدة والنموذج، فلا يكفي شعار إنهاء الانقسام ولا إسقاط أوسلو والدعوة إلى المقاومة، ولا رفع هدف التحرير والدولة الواحدة وإعادة بناء المنظمة، وإنما هناك حاجة ملحة لبرنامج يلبي حاجات الناس المباشرة والبعيدة، المعيشية والحقوقية، الوطنية والديمقراطية، وأخذ الدروس والعبر من التجارب الماضية، ضمن رؤية شاملة تنبثق عنها إستراتيجيات عمل تناسب المرحلة، ومن دون إهمال واحدة من القضايا المهمة بحجة أولوية الأخرى.
وتظهر تجارب كفاح الشعب الفلسطيني حاجته المتعاظمة إلى الربط بين الوطني والديمقراطي والمعيشي، كما ظهر في الموجات الانتفاضية المتتالية في معركة بوابات المسجد الأقصى في القدس ، وفي مختلف المدن، وفي وقفات الدعم للأسرى والأسيرات والمقاومة الشعبية ضد الإستعمار الاستيطاني، ومختلف أشكال الصمود والمقاومة، ومسيرات الانتصار لقطاع غزة ضد العدوان الإسرائيلي، أو فرض العقوبات عليه من السلطة، وكذلك في حراكات المعلمين المطلبية، والحراك المناهض لقانون الضمان الاجتماعي، ومسيرات العودة الكبرى، في القطاع، ومؤتمرات العودة الكبرى في القطاع، والحراكات المطلبية في قطاع غزة على غرار حراك "بدنا نعيش"، وحراك اللاجئين الفلسطينيين في لبنان على خلفية قانون العمل، والحراك الشعبي ضد الجريمة والعنف والتمييز العنصري في الداخل الفلسطيني، ونشاطات حركة المقاطعة لإسرائيل.
إن هذه الإرهاصات تدلل على خطأ من يعتقد أن فلسطين محصنة وقيادتها محصنة ورئيسها محصن من امتداد الربيع العربي لأنها تحت الاحتلال، الذي لا يقدم ضمانة لعدم تعرضها إلى انتفاضات أو تحركات شعبية بحكم أنه عدو مشترك، فهذا قد يؤخر أو يعجل، فالمأزق العام الذي تعانيه القضية الفلسطينية الآن، والكارثة التي نعيشها مع استمرار وتعمق الانقسام؛ تبرر الثورة على النخب الحاكمة، بسبب فشل كل الإستراتيجيات المتبعة بغض النظر عن تفاوت المسؤوليات، والوصول إلى وضع طغى فيه الصراع على السلطة رغم أنها تحت الاحتلال على أي شيء آخر. فإما التغيير من خلال الإصلاح ومشاركة الشعب في عملية صناعة القرار، أو من خلال الثورة وموجات غضب الجماهير .
إن استخدام فزاعة الفوضى والأجندات الخارجية رغم مفعولها الكبير لن تنفع إلى الأبد.
ما جرى في المنطقة العربية في الماضي القريب والبعيد، وما يجري حاليًا، بمنزلة جرس إنذار سيبقى يدق إلى أن يحصل التغيير، ومن لا يعتبر لا يلوم إلا نفسه، وسيندم حين لا ينفع الندم.