Menu

شروخ الشرعية في الجزائر

عبد الله السّناوي

نقلاً عن الخليج الاماراتية

ماذا بعد الانتخابات الرئاسية في الجزائر التي حصد نتائجها رئيس الوزراء الأسبق عبد المجيد تبون؟

هذا هو السؤال الأكثر جوهرية في حسابات السلطة الفعلية التي تمثلها قيادات الجيش منذ الاستقلال عام 1962، إثر ثورة المليون ونصف المليون شهيد، واعتبارات الحراك الشعبي الذي يتطلع إلى تغيير كامل في طبيعة نظام استهلك زمنه، لا ترميمه بوجوه جديدة، وبشيء من الإصلاح داخل بُنيته.

أية انتخابات على مثل هذه الدرجة من الأهمية، تكتسب شرعيتها من مستويات التوافق العام على قواعد اللعبة السياسية التي تجري في ظلها.

أجريت الانتخابات بلا تعديل على الدستور، أو مرور بفترة انتقالية بعد إقالة عبد العزيز بوتفليقة، كأن المشكلة تتلخص في شخصه وعدم قدرته على ممارسة صلاحياته الرئاسية، لا في طبيعة نظامه الذي سمح بتفشي الفساد وهدر المال العام، ومصادرة الحريات العامة.

بقدر الشعور بالمهانة العامة من أن البلد يحكم باسم رئيس مريض ممن أطلق عليهم «العصابة»، بدأت رياح الغضب تهب في أنحاء الجزائر، وقد كان تدخل الجيش حاسماً في إجبار بوتفليقة على الاستقالة.

على مدى عشرة أشهر تطورت أهداف ومطالب الحراك، بحيث لم يعد مقبولاً إحلال رجل مكان آخر دون تغيير طبيعة النظام نفسه. بدأ الانقسام يتسع بين الجيش والحراك في مسألة الشرعية وطبيعة نظام الحكم؛ الأول طلب حسم أزمة الشرعية عبر صناديق الاقتراع، أياً كانت المخاوف والاعتراضات، خشية الدخول في فراغ دستوري، أو أن تُفضي أية فترة انتقالية إلى ارتباك وفوضى.

كان المسكوت عنه في الامتناع الصارم عن عزل كل وجوه نظام بوتفليقة، والبدء في مرحلة انتقالية، هو الخشية من تغيير طبيعة الدور الذي يلعبه الجيش الجزائري في الحياة العامة، فالمرحلة الانتقالية تعني أن يتصدر المشهد إلغاء الدستور، وهو ما لا يريده، ويحرمه مما اعتاده في صنع الرئاسات والحكم من خلف ستار.

والثاني اعتبر أن الشرعية انتقلت إلى الشارع وأن تجاهل مطالبه في تأجيل الانتخابات الرئاسية حتى تتوفر ظروف تسمح بأن تكون تعبيراً عن الإرادة العامة، فيه عدوان على ما تمثله الاحتجاجات الشعبية وتدعو إليه.

لم يحدث أي التقاء في منتصف الطريق بين الخيارين المتناقضين: الدولة العميقة مضت في طريقها استناداً إلى «كتلة الاستقرار» وأغلبيتها من المتقدمين في السن الذين تنتابهم مخاوف المجهول، ويراهنون على أن الرئيس المنتخب أصلح من يدير أزمة الشرعية، بالتوصل إلى توافقات مع الحراك الغاضب.

الحراك من جانبه تمترس وراء مطالبه بلا استعداد للمهادنة، محكوماً بحماس الأجيال الجديدة ورغبتها في الطلاق البائن مع الماضي وكل ما يمت إليه من خيارات، فلا أمل في تغيير الجياد إذا كان المضمار نفسه محطماً.

يوم الانتخابات تبدّى حجم الانقسام الفادح، تماماً كمستوى أزمة الشرعية المتفاقمة.

بالأرقام الرسمية، لامست نسبة المشاركة 41%، على الرغم من المقاطعة الواسعة والتظاهرات الحاشدة ضدها، وأجواء الغضب التي وصلت إلى حد إغلاق مركزي اقتراع، وتحطيم صناديقهما في مناطق القبائل.

النتيجة المرتفعة نسبياً تطرح فرضيتين، الأولى: أنها صحيحة مع بعض التجاوزات المحدودة، وأنها تعبير عن تغلغل النظام القديم في بنية المجتمع، ومدى خشية قوى سياسية واجتماعية عديدة من أي فوضى محتملة وضيقها بتشدد الحراك.

والثانية: أن تزويراً قد حدث، وفق ما يقول نشطاء في الحراك، لإعادة إنتاج الشرعية في النظام السياسي المتهالك.

اللافت في الأرقام الرسمية المعلنة، أن نسبة المشاركة في الخارج بدت متدنية للغاية وبلغت أقل من 9%. ربما ساعد عاملان إضافيان على رفع نسبة المشاركة في الداخل، إذا ما استبعدنا فرضية التدخل بالتزوير.

أولهما: المناظرة بين المترشحين الخمسة للرئاسة التي بُثت عبر الشاشات إلى كل بيت، كلهم تولوا مسؤوليات تنفيذية في عهد بوتفليقة، وبينهم اثنان من رؤساء الوزراء السابقين: عبدالمجيد تبون، وعلي ابن فليس.

كانت تلك المرة الأولى التي يسمح للجزائري العادي أن يحكم بين المترشحين وبرامجهم.

وعلى الرغم من أن المناظرة خلت من الاشتباكات الفكرية والسياسية، فإنها كانت تحولاً يعتد به في البيئة العامة يرجع الفضل فيه إلى الحراك الشعبي.

ثانيهما: الملاحقة القضائية لبعض الوجوه البارزة في نظام بوتفليقة من مسؤولين متنفذين ورجال أعمال بتهم الفساد، وصدور أحكام بحقهم وُصفت بالقاسية، بينهم اثنان آخران من رؤساء الوزراء السابقين هما أحمد أويحيى، وعبد الملك سلال.

في أجواء الانقسام الحاد يطرح على الجزائر سؤالان معلقان على تدافع الحوادث:

ما مدى الغضب الذي يمكن أن يذهب إليه الحراك كقوة دافعة للتغيير وقدر تصميمه على تحقيق أهدافه؟ وما حجم الإصلاحات التي يمكن إدخالها على النظام السياسي الجزائري بإشراف الرئيس المنتخب عبد المجيد تبون، من تعديل للدستور، وإرساء لقواعد لعبة سياسية حديثة تُنهي الانقسام، وتؤسس لشرعية حقيقية تؤمّن الجزائر ومستقبلها وحقها في بناء دولة ديمقراطية حديثة؟