Menu

سُنّة أمريكا وشِيعة فلسطين

حاتم استانبولي

منذ أن انتصرت الثورة الإيرانية وطردت السفير الإسرائيلي وحوّلت السفارة الإسرائيلية إلى سفارة لفلسطين، إذ سُجّلت كأول أرضٍ فلسطينية تعود إلى السيادة الوطنية الفلسطينية بالمعنى القانوني والسياسي، حدّدت الولايات المتحدة موقفها من الثورة الإيرانية، وأعلنت عليها حربًا أخذت أشكالًا وأبعادًا عدّة؛ منها العسكري والسياسي والاقتصادي، وفرضت على النُّظم التابعة لها فتحَ معركة ذات طابعٍ مذهبيّ ضد الثورة الإيرانية.

إيران شيعيّة منذ مئات السنين، وحكم الشاه كان يعتمد المذهب الشيعي، وأُمراء الخليج كانوا يحجّون إلى طهران لتقديم الولاء والطاعة للشاه ونظامه، ولم يكن لديهم أيَّ حساسيةٍ تجاه مذهبه الشيعي أو نظامه السياسي، الذي كان يعلن ولاءه لأمريكا وإسرائيل، التي كانت تُفاخِر بعلاقتها مع نظامه.

عندما تغيّر النظامُ في طهران، وحلّ محلّه نظامٌ يعادي أمريكا ويعلن أنّه مع فلسطين وشعبها، انقلبت نظم الخليج؛ وأعلنت عداءها للثورة الإيرانية وحرّضت العراق على إعلان حربٍ غير عادلة على الثورة الإيرانية وهي في مهدها.

وعندما انتهت الحرب وأُنهِكَ العراق (السُّني) بدأت نظمُ الخليج بتضييق الخناق عليه من خلال تخفيض أسعار النفط، وفجّروا صراعًا على الحقول المشتركة، في لحظةٍ كان العراق بحاجةٍ لإعادة بناء قواه التي استُنفذت في حرب ٍدُفِعَ إليها.

ونتيجة للمواقف التي كانت تُحاول أن تنال من كرامة العراق وشعبه، دُفِع لاتخاذ قرارٍ باجتياح الكويت ، وبتحريضٍ ضمنيّ أمريكي؛ هذا التحريض الذي شكل سقوطًا في الهاوية التي حُفِرت له من قِبَل نظم الخليج، التي فتحت أبوابها بحرًا وجوًا وبراً للقوات الأمريكية وموّلتها من أجل احتلال العراق وفرض شروطٍ مُذِلة، عبر حصاره جوًا وبحرًا وبرًا؛ هذا الحصار الذي ذهب ضحيته مئاتُ الآلاف من الشعب العراقي واستُنفِذت كل موارده واحتُجِز نفطُهُ وأصبح العراق تحت الوصاية الأمريكية، واستمر استنزافه طيلة 13 عامًا. وبعدها تم غزوه في معركة غير متكافئةٍ واحتُلَّ العراق، واحتفلت عواصم الخليج باحتلال بغداد وإنهاء نظام صدام حسين (النظام السّني)، الذين كانوا يختلفون معه من على أرضية خلافه مع واشنطن وحليفتها إسرائيل.

أمريكا باحتلالها العراق حلّت الجيش العراقي ومؤسسات الدولة، ما عدا وزارة النفط العراقية، التي وضعت يدها عليها ولم تسمح لأيّ طرف عراقيّ بالوصول إلى مبنى وزارة النفط.

بعد الغزو، لم تجد أمريكا إلّا الزعماء الشيعة الذين كانوا مضطهدين أيام نظام صدام لتعبئة الفراغ السياسي والعسكري، الذي أحدثه الاحتلال، وحله لمؤسسات الدولة العراقية.

وصاغت دستورًا قائمًا على التوزيع الطائفي، وخصّصت للأكراد دورًا مميزًا خارج الطوائف والمذاهبـ رغم أنهم محسوبون على الطائفة السنية.

إيران أدركت أنّ العراق بهذه التركيبة سيكون عبئًا ثقيلًا عليها لذلك عملت وبهدوء على التدخل في العراق، من على قاعدة مجابهة النفوذ الأمريكي في الطائفة الشيعية قبل السنيّة.

وعبر سنواتٍ، نجحت في قلب المعادلة الشيعية من معادلة التحالف مع أمريكا إلى تحييد الموقف، ونقل التحييد إلى حالة تعارض ثم تناقضٍ مع الاحتلال الأمريكي، وبسياسة هادئة مع حليفتها سورية والمقاوَمة العراقية بكل فصائلها أجبرَت الأمريكيَّ على الانسحاب من العراق.

هذا الانسحاب الذي لم يرُق لنظم الخليج، التي بدأت بتمويل مذهبيّ لخلق حالةٍ لتحويل الصراع مع الاحتلال إلى صراعٍ بين المذاهب ليكون الحكَم بينهم الأمريكيُّ، ولكي يعود الأمريكي وحلفاؤه من بوابة محاربة الإرهاب "السني" لداعش وأخواتها.

وتمّ نبش التاريخ ونبش قبور الصحابة والحسن والحسين ليُعيدوا إنتاجَ الصراع المذهبي، الذي لا منتصرَ فيه إلا المحتل وحلفائه.

الحكماء في الجانبين الإيراني والعراقي المقاوم أدركوا أنّ إعادة اللُّحمة والبوصلة لن تكون إلّا عبر التأكيد على المعيار الجامع الذي يكشف كل العورات، وهو معيارُ الموقف من القضية الفلسطينية المركزية لكل الوطنيين.

وهنا، حدثت إعادةٌ للاصطفاف على أساس الموقف السياسي الوطني، وبهذا الصدد كان هنالك دورٌ بارزٌ لكلٍّ من الإمام خامنَئي والجنرال قاسمي والسيد حسن نصر الله والرئيس السوري بشار الأسد، اللّذين ساهموا مساهمةً كبيرة في دعم هذا الخيار السياسي، الذي نقل معظم مُحصّلة موقف القوى الشيعية وحواضنها في العراق من موقف المؤيد لواشنطن- لبعضهم- والمتحالف معها- للبعض الآخر- إلى موقف المتعارض والذي وصل إلى المتناقض مع المشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة؛ وتحوّل هذا الموقف إلى موقف متعارضٍ مع صفقة القرن وشرورها، في حين أن القوى السنية التي حطم الاحتلال الأمريكي مصالحَها بإسقاط نظام صدام حسين تجد أكثريتها مصطفةً مع الاحتلال الأمريكي.

أمّا القوى الكرديّة التي كان سلوكها انتهازيًا في كل مراحلِ مخاضِ العراق، كانت بوصلتها دائمًا مع الأمريكي وخياراته، من أجل إيجاد الفرصة التاريخية لإعلان الانفصال عن العراق ومكوناته.

السؤال: ما هي الصورة اليوم؟

الواقع يقول إنّ المنطقة منقسمة سياسيًا بغلاف مذهبي وطائفي متداخل، ناظمُه الموقفُ من القضية الفلسطينية، هو المعيار والمقياس للموقف الوطني التحرري الذي يعكس سمة المرحلة التي عنوانها "مرحلة التحرر الوطني"، التي لم تكتمل منذ مائة عامٍ، بل شهد فيها الاستعمارُ انحسارًا أحيانًا وتقدمًا في مراحل أخرى، وأشكالًا مباشرة عبر غزواتٍ وحروبٍ بالوكالة من خلال أدواته الإرهابية، وأحيانًا عبر هيمنةٍ اقتصادية من خلال أدواته المالية والاقتصادية.

إنّ أزمة نظم سايكس بيكو هي أزمة ملازمة لبنيتها منذ تفصيلها عمل الاستعمار البريطاني-الفرنسي عن وعي لتقسيم وتمزيق البنى الاجتماعية ووضعها في صراع بين مكوناتها من جهة وبين نظمها ومجتمعاتها.

هذه النّظم التي كان يعلم الاستعمار على أنّها لا يمكنها تامين حاجيات مجتمعاتها إلا من خلاله.

لقد عمل على مدار مائة عام على سياسة تقوم على أساس التفرقة ان كانت طائفية أو قومية او مذهبية وكان لإنشاء الكيان الاستعماري الإحلالي وتشريعه في المنطقة عاملا رئيسيا في رسم سياسته اتجاه مجتمعات ونظم المنطقة التي كان يشكل حماية لها ومعياره للحماية جوهر موقفها من قضية الشعب الفلسطيني ومساهمتها في دمج المستعمر الاستيطاني الإحلالي في منظومة نظم المنطقة.

الواقع يقول أنّ الخطر العدواني الوحيد في المنطقة هو الخطر الاستعماري منذ مائة عام، الذي أخذ أشكالًا وأبعادًا متعددة ومتغيرة ولكن دائمًا كانت تحكمه المصلحة الإسرائيلية أولًا.

بحصيلة آخر اليوم نرى أنّ الصراع في الجوهر سياسيٌ، وإذا كان سيقيَّم على أساس العمائم بشكلٍ عام، فإننا نستطيع أن نُحدّد أن عمائم الأنظمة السُّنّية هي أمريكيّة والعمائم السنّية الشعبيّة وكذلك الشيعيّة هي تحرّرية بمعيارِ الموقف من قضية التحرر الوطني التي معيارُها التحرر من المستعمر بأشكاله الاحتلالية المباشرة للعراق وأجزاء من سورية والإحلالية في فلسطين.

إنّ تحويل موقف معظم القوى الشيعية في العراق من محايدة للاحتلال الأمريكي إلى متناقضة معه في المعيار السياسي يسجّل لصالح إيران، وموقفها المعادي للإمبريالية الأمريكية وحلفائها المحليّين، وهذا العمل يجب أن تشكر عليه إيران ولهذا تمت تصفية علنيّة وواضحة للجنرال قاسمي ومهندس الحشد الشعبي، هذا الاغتيال الذي عبر عن مدى وعمق الإنجاز الذي حققاه في مجابهة خصومهم الأمريكيين والإسرائيليين.

وما أشبه اليوم بالبارحة؛ نظم الخليج وحلفاؤها فتحوا أرضهم وأجواءهم وبحرهم لغزو العراق السّني المعادي لعدوانية الولايات المتحدة وإسرائيل، واليوم لذات الأسباب تدعم الاحتلال الأمريكي لمجابهة العراق الشيعي المعادي للولايات المتحدة وإسرائيل.

هذا يؤكد أن موقف هذه النظم بعمائمها السنية بالجوهر سياسيّ بامتياز مع الولايات الأمريكية وحليفتها إسرائيل، وليس له أيَّ دخلٍ بالإسلام وجوهره.