إمعاناً في إذلال المتهاونين وتسفيهاً للمستبدين والفاسدين.. كشف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن تفاصيل "صفقة العصر" يوم 28/1/2020 من واشنطن وبحضور زعيم حزب الليكود الصهيوني بنيامين نتنياهو. دلالة هذا الإعلان المتغطرس, هي انكشاف استهتار الإدارة الأمريكية بالنظام الرسمي العربي وبضمنه السلطة الفلسطينية من جهة, ومدى التماهي الذي وصل إليه اليمين الشعبوي الأمريكي في تورطه مع اليمين القومي الديني الصهيوني الذي يتصرف وكأن فرصته لابتلاع فلسطين التاريخية بأسرها وإعلان فرض نظام "الأبارتهايد " عليها, قد أزفت بفضل الانهيار الشامل الذي تعيشه المنطقة العربية من جهة أخرى..!
من الواضح أن اليمين الأمريكي الشعبوي والإسرائيلي العنصري يسعيان لتأبيد الاحتلال وابتلاع كل فلسطين التاريخية, تحت ضجيج ما يسمى "صفقة العصر" الترامبية!
تقف فلسطين وشعبها اليوم أمام امتحان كبير, فنحن في مواجهة كارثة وطنية وقومية تأتي نتيجة مباشرة لتهافت الوضع العربي والفلسطيني الرسمي إضافة لقانون القومية الإسرائيلي الذي أجازه الكنيست في ثلاثة قراءات متتالية, وبذلك تتم قوننة نظام " الأبارتهايد " في فلسطين كلها.
فالمشروع الأمريكي – الصهيوني لا لبس فيه, وهو قائم على التمييز العنصري الذي يعني أن وضع فلسطينيي أراضي الـ 48 الدوني سيرسّم قانونياً, وسيتم بناء "دولة إسرائيل الكبرى " بثلاثة أنظمة: نظام لليهود سواء كانوا داخل "الخط الأخضر" أم في الضفة الغربية بصفتهم مستوطنين ومواطنين درجة أولى, ونظام للضفة الغربية أطلقت عليه "صفقة العصر" اسم "دولة فلسطينية"، لكنها تابعة ومكبلة بقيود الاحتلال, ومنتَهَكة السيادة بشكل مطلق, ونظام ثالث لقطاع غزة يبقيه سجناً، بل أكبر سجن في الهواء الطلق.
يعتقد الرئيس ترامب وصديقه نتنياهو أن الوقت قد حان للقيام بمراسيم دفن القضية الفلسطينية.. ضاربين عرض الحائط بالقانون الدولي, وبحق اللاجئين بالعودة إلى ديارهم وممتلكاتهم, وبحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره على أرض وطنه, ومتجاهلين الأهمية الاستثنائية لمدينة القدس ومكانتها التاريخية والدينية لدى المسلمين والمسيحيين, وهي إلى ذلك كله عاصمة فلسطين ومحور اجتذاب واستقطاب لكثير من الأمم والشعوب, وهي كمدينة محتلة تخضع للقانون الدولي الذي جرّم الاجراءات الإسرائيلية, ونقض إعلان الرئيس ترامب الأخير الذي اعتبر "القدس الموحدة عاصمة لإسرائيل"!
- من هنا إلى أين؟!
مثلما عايشنا تجليات إطار أوسلو وتطبيقاته المدمرة وكذلك الممارسات الإسرائيلية الكولونيالية في كل فلسطين, عايشنا أيضاً منظومة المواقف العنصرية المشجعة على ممارسة العنف في المجتمع الفلسطيني, وانعكاساتها في القوننة والأيديولوجيا والمؤسسات السياسية والأمنية الصهيونية, فكل ذلك متلازم مع أوج القوة والغطرسة الإسرائيلية, في الوقت نفسه تجاوز وتعدى تأثير السلطة الفلسطينية ونخبها من كونها غير فاعلة أو قادرة أو حتى ليست ذات جدوى, إلى كونها أداة مساهمة في ديمومة الاحتلال وفي مشروع التقسيم الكولونيالي الاستيطاني الذي يجسد جوهر الصهيونية, كما قدمته وحددت محاوره "صفقة العصر" الأمريكية.
لم يكن تجاهل السلطة الفلسطينية وعدم دعوتها لحضور حفل إعلان "صفقة العصر" مصادفة, فالنقاش بشأن مستقبل فلسطين وشعبها كان على الدوام نقاشاً داخلياً بين الحكومات الإسرائيلية والإدارة الأمريكية لا مكان فيه لوجهة نظر الفلسطيني.. فمستقبل الفلسطينيين في المشروع القومي – الديني – اليميني الصهيوني يتراوح بين ثلاثة خيارات:
- الأول: انتظار أو اختلاق ظروف حرب متلازمة مع الظروف الدولية والعربية الحالية تقود إلى طرد سكاني ولو جزئي يسهل عملية ضم أراضي الضفة الغربية إلى الدولة الصهيونية دون السكان.
- الثاني: يحظى بتأييد قوى اليمين القومي المتشدد, ويدعم سياسة الضم الكامل للضفة الغربية, مع إعطاء السكان الفلسطينيين حقوقاً مدنية فردية – مثل فلسطينيي الـ 48, لكنها ليست حقوقاً قومية أو حقوقاً متساوية في دولة لكل مواطنيها.
- الثالث: كما عبّرت عنه "صفقة العصر"، هو تقسيم جديد لفلسطين بين دولة "يهودية نقية" وكيان فلسطيني هزيل، هو نسخة عن البانتوستان الأسود في جنوب أفريقيا قبل الاستقلال, أو محمية للسكان الأصليين في شمال أمريكا, وهذه الصيغة قد تكون على شكل "أقل من دولة" كما سماها نتنياهو.
لقد بدأت ملامح وحدود هذا التقسيم تظهر من خلال الخريطة التي قدمها الرئيس ترامب, كذلك خريطتي الاستيطان وأوسلو - "منطقة C "- التي تشمل أكثر من 60% من الضفة الغربية, والمستعمرات الكبرى التي تحاصر هذا الكيان وتحرمه من السيادة والصلاحيات والمؤسسات الوطنية، فإسرائيل تتحكم بالأمن الخارجي والداخلي وتحوّطه من جميع الجهات, ويستطيع هذا الكيان أن يسمي نفسه دولة وأن يعطي لنفسه جميع شكليات الدولة بحيث تتمكن النخب المتنفذة من التنافس على المناصب والوزارات والسفارات, تماماً مثلما تفعل اليوم, وربما يحصل على اعتراف وتعاطف عالميين.. هذا التقسيم مفروض من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل, ومرفوضاً من الشعب الفلسطيني برمته, بمختلف أماكن تواجده ومكوناته.
إن سياسة السلطة ونخبها حتى اللحظة تساعد على المضي قدماً في هذا المشروع - من حيث لا تدري - وذلك في ظل غياب مشروع تحرري وطني فلسطيني جامع, فالسلطة تلعب على حبل "تبادل الأراضي" وسياسة التقسيم الكولونيالي, علاوة على أن الأفكار السياسية الرئيسية التي قدمها الرئيس محمود عباس يوم 29/1/2020 أمام اللجنة التنفيذية ل"م.ت.ف" والمركزية لحركة "فتح" في رام الله لا تسقط أو تعطّل مشروع "الصفقة", فاعتمد أبو مازن "نظرية التراكم" والعمل التراكمي من أجل الوصول إلى " الدولة " في وقت تتزامن فيه العملية التراكمية – حسب المنطق الفلسطيني النافذ – مع عملية تراجع خطير في الواقع السياسي والوطني تحت الاحتلال, بل تراجع إمكان "حل الدولتين" حسب أكثر المتحمسين له مثل الخارجية الفرنسية ومراكز الأبحاث الأمريكية!
ليس هنالك وضع قائم ثابت, وإنما هناك تراجع مرعب على أرض الواقع, ولا فائدة مرجوة من "نظرية التراكم"، إن لم ترتبط بمشروع تحرري وطني شامل وانتفاضة شعبية شاملة.. ولا مانع مرحلياً أن يكون المشروع الوطني هو مشروع دولة سيادية في حدود الرابع من حزيران لعام 1967, لكن على أصحاب هذا المشروع أن يشرحوا لنا كيف سنصل عبر التفاوض المستمر فقط إلى "دولة" في ظل حالة التراجع الذي نشهده, ونشاهد أيضاً الاستيطان والضم الزاحف الذي ابتلع أكثر من " 60% " من مساحة الضفة الغربية, علاوة على مدينة القدس بكاملها.. يبدو أن السلطة الفلسطينية غالت في الاعتبارات البراغماتية ولزوم ما يلزم, ويبدو أن هذه السلطة تعبّر عن موقف يرى أن المشروع الصهيوني قد أكمل فصوله الأخيرة بنجاح, حتى لو لم تعلن ذلك جهاراً !..
- مسار الرد الفلسطيني:
يتطلب إفشال المخطط الأمريكي – الإسرائيلي و "صفقة العصر" القائمة على إنهاء وتبديد حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وإقامة دولته المستقلة السيادية بداية, ورفض تفتيت وتقسيم الضفة الغربية إلى معازل "باستونتانات" يراد ضمها إسرائيلياً والتخلص منها إقليمياً, وهي إجراءات تحوّل "بقايا الأرض الفلسطينية" إلى أقل من نصف مساحة الضفة الغربية.. فإما أن يكون إنهاء الاحتلال كاملاً, وإما أن يصبح الضم كاملاً.. لن يتمكن الشعب الفلسطيني عن تنظيم مواجهة فاعلة وناجحة للتحدي المصيري القادم إلا بإحداث تغيير جوهري بأوضاعه وفي قواعد ارتكاز كفاحه.. وأول محاور الاهتمام يقتضي إنقاذ الوضع الذاتي المتهافت حالياً, والذي إن استمر سيودي ببقايا المشروع الوطني الفلسطيني, ولذلك على شابات وشباب فلسطين المتحفزين لمواكبة الانتفاضة الجديدة التي بدأت بواكيرها في أكثر من مدينة وقرية ومخيم, التركيز على إعادة بناء الحركة الوطنية التي شاخت وتكلست وتكسّبت المنافع والمكاسب من "إطار أوسلو"!.. الأمر الذي أدخلها في صراع المصالح الذاتية والفئوية على السلطة المتداعية, مما أدى إلى إضعاف المصلحة الوطنية والقومية الجامعة.
يتطلع جيل الشباب الفلسطيني نحو إنهاء الانقسام المزمن الذي صب ولا يزال في طاحونة الأهداف الإسرائيلية والأمريكية, وبالتالي تقديم نموذج إيجابي وجديد في تنظيم الحياة المجتمعية والسياسية, تقوم على ضرورة المساءلة والمحاسبة والشفافية, فالدعم والإسناد الأممي لن يتحقق ويكون فاعلاً إلا عندما تتوفر القناعة لدى حركات التضامن العالمية بأحقية الشعب الفلسطيني بتقرير المصير وحقه بالعودة والاستقلال الناجز.. فإذا لم نساعد أنفسنا لن يساعدنا أحد من العالم.
تصارع الحركة الصهيونية من أجل تجسيد جوهرها الكولونيالي العنصري على كامل فلسطين التاريخية, والمفارقة العجيبة أن السلوك السياسي الفلسطيني الرسمي المتمثل بالسلطة لا يزال يتساوق مع المشروع القومي الديني اليميني الصهيوني في ظل الانحطاط الأخلاقي والقيمي لهذا المشروع الذي لا مقاومة جادة له حتى اللحظة.
يبقى أمام الشعب الفلسطيني ما كان أمامه على الدوام, جيل جديد, وفكر جديد, ومشروع لفلسطين جديدة يفتح لها آفاق التحرر من النظام الكولونيالي الاستيطاني الأخير في العالم, وبما يمكّنها من استبداله بنظام ديمقراطي تعددي مدني عادل دون تمييز عنصري واضطهاد عرقي وإثني أو ديني أو طبقي.