أعلن بنيامين نتنياهو مساء الأربعاء (13 مايو)، عن نجاحه بتشكيل حكومة وحدة لمدة 3 سنوات؛ الحكومة ستضم 34 وزيرًا (72 عضو كنيست). كان حزب الليكود نجح في إبرام اتفاق مع حزب "أزرق أبيض" (حسب استطلاع للرأي أيده 62% من الإسرائيليين).
طبقًا للاتفاق يقتصر برنامج الحكومة على مواصلة جهود مكافحة كورونا وتنفيذ مخطط ضم أجزاء من الضفة الغربية، وسوف يمتنع الكنيست عن سن قوانين إلا ما تعلق بقضايا كورونا و"صفقة القرن" وتجنيد الحريديم. الجدير هنا، أن توجيه الاتهامات لنتنياهو وبدء محاكمته في 24 مايو بتهم الاحتيال والرشوة وخيانة الأمانة لن يمنع رئاسته للحكومة وتطبيق اتفاق تقاسم السلطة (لإلغائه يجب تصويت 75 عضوًا).
هذه المقالة قراءة أولية في التغيرات المحتملة على الوضع الإسرائيلي في ظل هذه الحكومة، ولكن دعونا، قبل ذلك، نتوقف عند المكتسبات التي حققها "الساحر" بمجرد التوقيع على الاتفاق: علاوة على كسر الجمود السياسي وتفكيك "أزرق أبيض"، كرس نتنياهو زعامته وعودته للإمساك بالسلطة.
جاءت زيارة وزير الخارجية الأمريكي بومبيو (منتصف مايو) لتبارك تشكيل الحكومة، ولتضيف على أجندة التعاون بين البلدين الموضوع الإيراني، ولتمنح نتنياهو غطاءً للضم، بعد أن وافق على تأجيله قليلاً استجابة لطلب أمريكي "حكومة إسرائيل تقرر متى تضم، وما إذا كانت تريد القيام بذلك وكيف".
يرث نتنياهو من نفسه، ولكن ضمن تشكيل حكومي مختلف هذه المرة، عددًا من الأزمات، ومن المرجح أن يواجه مزيدًا منها، بالإضافة إلى التحديات الأمنيّة، هناك عجز الميزانية وتداعيات انتشار كورونا، وخصوصًا تباطؤ محتمل للاقتصاد (أو النمو السلبي)، وأيضًا تأخر إقرار خطة "تنوفا" التي وضعها كوخافي، وانشغال الجيش بالمساعدة على مكافحة كورونا، ما يقلل من لياقته واستعداده. هناك من يعتقد أن حكومة الثنائي لن تعمر طويلاً، أو أن نتنياهو لن يسمح لغانتس بتولي منصب رئيس الوزراء.
في الواقع، ورغم الأزمات الحالية والمحتملة، فإسرائيل لا زالت الرابح الأكبر؛ سواء من فشل موجات الربيع العربي المتتالية، أو من صعود اليمين الشعبوي في أكثر من بلد، وحتى من أزمة كورونا. وعليه، فإن أمام حكومة نتنياهو-غانتس فرصة تصفية حساباتها الكبرى؛ داخليًا وخارجيًا؛ إنجاز الضم، وتكريس فصل غزة، والتطبيع الواسع، وإنهاء الوجود الإيراني في سوريا، وربما تحطيم الآمال الإيرانية بالحصول على السلاح النووي.
نعم، بعد 72 عامًا على نشأتها تبدو إسرائيل "أقوى من أي وقت مضى"؛ إذ غدت قوة عسكرية كبرى، تستثمر رؤوس الأموال، وتبيع التكنولوجيا المتقدمة "الهاي تيك"، وتحقق نموًا اقتصاديًا ملحوظًا، وتعزز علاقاتها حتى مع جوارها العربي المعادي تقليديًا لوجودها، هذا وتحظى بدعم غير مسبوق من إدارة ترامب. في جزء كبير مما حدث يعود الفضل لحكم نتنياهو وحنكته السياسة وقدراته الكبيرة على المناورة لمدة 11 عامًا متواصلة (منذ 2009).
من المتوقع أن تواصل حكومة الطوارئ المراكمة على النجاحات، غير إنها من جانب آخر سوف تفاقم التناقضات وتزيد من حدة التوترات على أكثر من جبهة وصعيد. بعض العوامل التي تساعد على ذلك: الموقف الأمريكي في حال فوز مرشح ديموقراطي أو إعادة انتخاب ترامب؛ انشغال الجميع في المنطقة بأزمة كورونا التي يمكن أن تتحول إلى أزمة إنسانية (مشكلة اللاجئين)، معاناة إيران من سلسلة من الأزمات، وصعوبة إدارتها، وبالتالي ردود أفعالها المحتملة.
بالنسبة لنتنياهو الذي يؤمن بشعار "وحده القوي ينجو"، وتجمعه مع أقطاب "الشعبوية اليمينية" في العالم علاقات متينة؛ إيران تزعزع الاستقرار في المنطقة وتثير التوترات الطائفية، وبالتالي يجب منعها من امتلاك السلاح النووي، يجب طردها من سوريا، يجب تقليم أظافر حلفاءها، وبالطبع "الفلسطينيون خارج جدول الأعمال". وأبرز الدروس التي يستلهمها في سياسته أولاً، التاريخ لا يحبذ المسيح على جنكيز خان (تفضيل القوة)، عند نقطة معينة، تتغلب قوة الثقافة والقيادة أحيانًا على قيود الجغرافيا، وإسرائيل مثال على كيفية التغلب على احتمالات التاريخ. نتنياهو، اليميني المحافظ، يتقاطع في سلوكه السياسي عاملان: الأيديولوجيا والمصالح الذاتية.
أزمة كورونا: هناك من يقول إن حكومة الطوارئ جاءت بفضل أزمة كورونا وأن مستقبلها مرهون إلى حد كبير بتداعيات هذه الأزمة. كانت الحكومة الإسرائيلية اتخذت إجراءات الإغلاق وتقييد الحركة بصورة مبكرة ما جعلها تحد من انتشار الفيروس، واليوم تسمح بمعاودة النشاط الاقتصادي، بينما امتدح ثلثا الإسرائيليين طريقة نتنياهو في إدارة الأزمة؛ إلا أن التكلفة الاقتصادية المتزايدة (يقدرها البعض بحوالي 25 مليار دولار)، واحتمال خروج كورونا عن السيطرة والتداعيات الصحية، قد تؤدي إلى انهيار الخدمات العامة، وبالتالي فقدان الثقة في حكومة الطوارئ.
مخطط الضم: تضمنت "المبادئ التوجيهية الأساسية" لحكومة الطوارئ؛ 14 بندًا، منها خمسة تتعلق بأزمة كورونا. لم يرد نص بخصوص مخطط الضم، وأعطيت الأولوية الثانية للخروج من الأزمة الاقتصادية، كما ستولى قضايا السلام والأمن والازدهار ووحدة المجتمع الإسرائيلي أهمية كبيرة. كان نتنياهو أعلن في حملته الانتخابية عن نيته ضم غور الأردن والمستوطنات إلى إسرائيل، وقد اقنع دونالد ترامب أن تتضمن صفقته ذلك وقد فعل، وبالرغم من التراجع الشكلي، يبدو نتنياهو عازمًا على تنفيذ مخطط الضم مستفيدًا من وجود ترامب في البيت الأبيض قبيل الانتخابات الأمريكية (نوفمبر 2020)، الذي أعلن أن الولايات المتحدة سوف تعترف بالسيادة الإسرائيلية على بعض أجزاء في الضفة الغربية. وبينما يواجه مخطط الضم معارضة كبيرة داخل إسرائيل وخارجها (أطراف من المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، الجامعة العربية، الاتحاد الأوروبي، الأمم المتحدة، الديموقراطيين الأمريكيين، وبالطبع الفلسطينيين)؛ إلا إنها لن تمنع نتنياهو من أن يمضي قدمًا في مخططه.
هناك من يقول إن نتنياهو لن يضم الضفة الغربية كلها حاليًا، وسيبقي على مساحة صغيرة ومقننة لسلطة فلسطينية عاجزة ومكبلة، ومع ذلك فمن المتوقع أن يتزعزع استقرار المنطقة والحدود مع الأردن ويمس بهوية إسرائيل على المدى البعيد؛ إذ يؤسس الضم لدولة واحدة واندلاع موجات من العنف ويضع نهاية لحل الدولتين.
بين الدين والعلمانية: تمتد الجذور التاريخية لهذا الصراع إلى ما قبل قيام الدولة، وأيضًا بعد نشأتها سواء في طبيعة الصهيونية، أو في اعتماد قوانين الأحوال الشخصية التركية والبريطانية أو في وثيقة الاستقلال. وصل الصراع مع نهاية التسعينيات من القرن 20 إلى الفصل المكاني، والتقارب السياسي بين المعسكر الديني والمعسكر العلماني على قاعدة تأييد الاستيطان وصعود الصهيونية الدينية (اليمين الديني-القومي). إن ما يحدث هو محاولة لإدارة الصراع على شكل الدولة والهوية.
ثمة احتمالان: الأول، تدشن الحكومة الجديدة بداية عملية تصالح تاريخية بين الاتجاهين، وخاصة في ضوء ازدياد ثقة المتدينين في أنفسهم؛ وإيمانهم بصحة معتقداتهم التي -حسبهم- لا تتناقض مع القيم الغربية، وأيضًا ميل الكثير من الإسرائيليين العلمانيين نحو تغيير مواقفهم تجاه "التقاليد" الدينية، والتصالح معها وتكريس الخيار أو المسار القومي-الديني. الاحتمال الثاني أن تدفع الأمور نحو مزيد من التطرف والاستقطاب، وبالتالي العنف والانفجار.
هذا ويعتبر التناقض بين الطابع الديمقراطي للدولة ويهوديتها الوجه الآخر للصراع بين الدين والعلمانية، وتعود أسباب التناقض إلى الاختلاف حول مصدر السلطة، واستحالة التوفيق بين القيم الديمقراطية والقيم الدينية. بالطبع الإدعاء بأن اليهودية تقبل الديمقراطية وتنسجم مع قيمها ومبادئها تفنده الممارسة ويدحضه الواقع: تمييز ضد مواطني إسرائيل من العرب (25% من السكان)، الاحتلال العسكري، مجتمع تخترقه تشققات هوياتية (جبهات متعددة طبقية/دينية/عرقية).
تقويض أسس الديموقراطية: صحيح أن إسرائيل لا تزال لديها انتخابات تنافسية وصحافة حرة، لكن سنوات حكم نتنياهو (11 سنة) فرضت ضغوطًا على المؤسسات الديمقراطية؛ مورس التمييز والتهميش ضد مواطنيها العرب (سن القوانين الفاشية والعنصرية)، ومن المحتمل أن يتفاقم الأمر مع حكومة الوحدة. في استطلاع عام 2019 أفاد 54% من الإسرائيليين بأن ديمقراطيتهم "في خطر شديد". استهدف نتنياهو نظام المحاكم، والمحكمة العليا، رافضًا تغليب البعد الديمقراطي على الطابع اليهودي لقراراتها، فعمل على إعادة تشكيل النظام للحد من الرقابة على التشريعات غير الليبرالية، وإزالة القيود المفروضة على نمو المستوطنات في الضفة الغربية.
حكومة الوحدة تعني ذروة انتصار اليمين واستقراره في السلطة منذ 1999؛ إذ انتهى حكم ما يسمى باليسار (الصهيوني العلماني والاشتراكي)، وتعزز تحالف اليمين الديني والقومي.
من المتوقع أن تضع هذه الحكومة (وهي انتقالية بكل معنى الكلمة) أسس نظام جديد: مزيد من القوانين العنصرية والفاشية، مزيد من التحالفات مع الحكومات الرجعية والشعبوية في العالم، تعزيز الطابع الديني للمجتمع، مزيد من تهميش العرب الفلسطينيين واعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية (وربما حتى طردهم أو التخلص منهم)، مزيد من تقويض المؤسسات الديمقراطية، تطبيع الاحتلال العسكري، مزيد من كبح الإعلام وتقييد حرية التعبير.
*نُشر هذا المقال في العدد 14 من مجلة الهدف