قبل "72 عاماً" من الآن حلّ يوم 15 أيار حاملاً معه إرث تاريخ طويل من الصراع على أرض فلسطين, ومن أجلها صراع بين مشروعين:
- الأول: فلسطيني يتمثل باستقلال فلسطين في إطار حدودها التي كانت قائمة في عهد الانتداب البريطاني.
- الثاني: صهيوني يتمثل بإقامة "الدولة اليهودية" على أرض فلسطين التاريخية, وتجميع يهود العالم فيها!
قبل عام 1948 كان الصراع متقطعاً نسبياً, حيث ظل محصوراً في إطار توازنات القوى والمصالح, ميدانه اللعبة السياسية غالباً, ولم يأخذ صفة الشمولية إلا باستثناءات محددة – الثورة الفلسطينية الكبرى 1936 / 1939 – غير أن عام 1948 اكتسب طابع الحرب العسكرية التقليدية لأول مرة. فما أن أعلنت بريطانيا عن نيّتها إنهاء الانتداب, حتى أخذت الدول العربية والحركة الصهيونية تستعد للحصول على التركة الإنكليزية, ودخلت الحرب سبعة جيوش عربية, ونتيجة لارتباط هذه الدول آنذاك بالغرب على شكل معاهدات واتفاقيات, وخضوعها تسليحياً له, وأيضاً لتفوّق العدد والعتاد الصهيوني, وخيانة عدد من الحكام العرب والضغوط الاستعمارية.. إلخ, حُسمت الحرب لصالح "الكيان الصهيوني الوليد" واصطلح على تسمية الهزيمة "بالنكبة "، حيث برع العرب بإطلاق التسميات على هزائمهم, وحملت النكبة كغيرها من الهزائم نتائجها الكارثية التي عمّت المنطقة العربية بأسرها متمركزة بفلسطين.
ولعل من أخطر نتائج النكبة وانعكاساتها على أرض الواقع الفلسطيني هو استيلاء الكيان الصهيوني على نحو 78% من أرض فلسطين التاريخية، متجاوزاً بذلك قرار التقسيم رقم "181" الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947, علاوة على اقتلاع وتهجير سكان الأرض الأصليين, حيث غادر فلسطين أثناء الحرب وبعدها زهاء "940" ألف لاجئ فلسطيني من أصل مجموع السكان البالغ حينها مليون ومائة ألف مواطن، وترتب على ذلك صدور القرار رقم "194" عن الجمعية العامة للأمم المتحدة والمتضمن: "وجوب السماح بالعودة في أقرب وقت ممكن للاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم, ووجوب دفع تعويضات عن ممتلكات أولئك الذين تضرروا من التهجير, وعن كل مفقود أو مصاب بأذىً, عندما يكون الواجب وفقاً لمبادئ القانون الدولي والإنصاف, أن يعوض عن ذلك الفقدان أو الضرر من قبل الحكومات أو السلطات المسؤولة".
رغم ما يحمله هذا القرار في تعامله مع قضية اللاجئين من وجهة نظر إنسانية معزولة عن إطارها السياسي والقانوني والأخلاقي, غير أن ايجابية القرار تكمن في كونه ضمن – دولياً - حق العودة للاجئين – لاحظ ليس " أو" بل والتعويض – وهو إذاً حافظ على الحد الأدنى من الاعتراف العالمي بوجوب حل عادل للقضية الفلسطينية عامة, وقضية اللاجئين خاصة.. هذه القضية التي تأثر بها الشعب الفلسطيني والشعوب العربية كثيراً, وتشابكت خيوطها, وتداخلت أطرافها, واحتلت مكاناً متميزاً في سلسلة الإشكاليات التي استتبعت مأساتها، حتى أن المؤرخ البريطاني "أرنولد توينبي" رهن مستقبل "إسرائيل" بحل هذه القضية أولاً حين قال: "إن مأساة التاريخ اليهودي الحديث, هي أنها بدلاً من أن يتعلم اليهود من مصائبهم وآلامهم, قد صنعوا بغيرهم الفلسطينيين ما صنعه بهم الآخرون؛ أي النازيون"..
محطات تاريخية تتجرجر ولا تنتهي:
في وعد بلفور عام 1917 لم يذكر الشعب الفلسطيني كشعب يمتلك كل المقومات, وكان ذلك مقدمة لحذفه من خريطة المكان, وعشية حرب النكبة استبدلت فلسطين باسم "أرض إسرائيل"، وكان ذلك إعلاناً ببداية كارثة الاقتلاع والتهجير الكبير, وبعد تأسيس "الدولة العبرية" بذل الصهاينة جهداً كبيراً من أجل استبدال أسماء الأماكن والمعالم الفلسطينية بأسماء عبرية وتوراتية, وبعد هزيمة 1967 أطلق الصهاينة اسم "يهودا والسامرة" على الضفة الفلسطينية المحتلة.. وبعد الهيمنة الشاملة لليمين القومي الديني على "إسرائيل"؛ نكتشف أن ما بدا مجرد هوس توراتي دفع القوميين المتدينين لابتكار اسم "يهودا والسامرة"، الذي تحول إلى سياسة رسمية إسرائيلية مترافقاً مع التغول الاستيطاني، الذي أصبح عنوان "إسرائيل" الذي يقوم برسم حدودها الجديدة على أطلال ما تبقى من أرض فلسطين.
العنوان, الاسم, الهوية, في هذا الصراع الوجودي الطويل في فلسطين, ليس قناعاً، بل مرآة النوايا والتوجهات, لذلك علينا أن نتعامل مع المصطلحات بجدية؛ فالمصطلح لا يعبر عن الحاضر فحسب, وإنما يشير إلى احتمالاته المستقبلية أيضاً.
بعد اليقظة من السكرة – الصدمة والغياب, اتخذ المسار الفلسطيني أشكالاً متنوعة, وتبلور في أربع محطات تاريخية سنحاول بتواضع رسم ملامحها العامة, بهدف دراسة تفصيلاتها واستخلاص دروسها وعبرها:
- المحطة الأولى هي الوطن المعنوي فـي "منظمة التحرير الفلسطينية" التي أسسها النظام الرسمي العربي في أواسط ستينيات القرن الماضي, بقيادة الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر, سرعان ما تحولت رمزيتها التي حملت مضمون استعادة الاسم الفلسطيني, إلى عنوان وحّد الشعب الفلسطيني في الوطن المحتل والشتات وأطره في حركة المقاومة المسلحة, وكان ذلك رداً على الهزيمة المروّعة التي منيت بها الجيوش العربية في حزيران 1967, فأصبحت "م.ت.ف" بقيادة الفصائل الفدائية إطاراً كفاحياً ووطناً معنوياً في آن معاً, وشكّلت عنوان الحضور الفلسطيني بعد تغييب دام نحو عشرين عاماً.
خاض هذا الوطن المعنوي؛ "م.ت.ف" نضاله الأساسي من خارج الأرض المحتلة, ودخل في مواجهات وحروب أثخنته بالجراح, من أيلول الأسود عام 1970 في الأردن, إلى الحرب الأهلية المدمرة في لبنان منذ عام 1976, وكانت جراح هذه المواجهات وخيباتها مدخلاً إلى الحرب الإسرائيلية – الفلسطينية الأولى التي جرت عام 1982, خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان, وانتهت بتأكيد مكانة المنظمة وتمسكها بعنوانها السياسي وقدرتها كممثل شرعي وحيد – على الرغم من مجزرة صبرا وشاتيلا – للشعب الفلسطيني الذي صان بيته المعنوي.
- المحطة الثانية هي الانتفاضة الكبرى عام 1987- 1993 التي شملت وعمّت جميع أنحاء الأراضي الفلسطينية التي احتلت منذ عام 1967, وجاءت بعد "حرب المخيمات" الإجرامية في لبنان عام 1985؛ لتعلن أن المقاومة الباسلة التي دارت في محيط فلسطين وجدت أرضها وبيئتها المناسبة داخل فلسطين, وأضيف مصطلح الانتفاضة إلى القاموس العالمي بعد مصطلحي النكبة والفدائي.. فهل كان مهندسو اتفاق "أوسلو" يدركون أن هذه المصطلحات الثلاثة لم تولد من عدم, وإنما جاءت من رحم الألم والتضحيات والدماء الزكية؟ وإذا كانوا يدركون ذلك: لماذا استهانوا بالمصطلحات واستعجلوا توقيع اتفاق مذل أفرغ القاموس الفلسطيني من معانيه؟!
- أما المحطة الثالثة التي امتدت من بداية تطبيق اتفاق " أوسلو عام 1993" إلى تراجع وانكفاء الانتفاضة الثانية عام 2003، فطغى عليها الالتباس والتأويل وعدم وضوح الرؤية والبرنامج، فتنازلات "أوسلو"؛ حوّلت الثورة إلى جهاز سلطة لا تتمتع بالحد الأدنى من صفات السلطات, والوطن المعنوي الذي كرسته "م.ت.ف" بدأ بالتلاشي, وأصبح اللاجئون في الشتات عبئاً على السلطة ينبغي التخفيف من حضورهم لمصلحة "مشروع سلام" غامض وغير محدد الملامح.. وفعلاً ظهرت مثالب وثغرات أوسلو جميعها خلال الانتفاضة الثانية التي التبست فيها الوسائل, وكانت الكارثة التي جسدتها أحداث 11/9/2001 في الولايات المتحدة الأمريكية, المناسبة الذهبية التي سمحت بسحق الانتفاضة الثانية وتصفية رموزها الواحد تلو الآخر , وصولاً إلى الحصار الذي فرضته "إسرائيل" عسكرياً وفرضه النظام الدولي والعربي سياسياً على "مقر المقاطعة" في رام الله, تمهيداً لاغتيال الرئيس ياسر عرفات.
جاء تراجع وانكفاء الانتفاضة الثانية استكمالاً لوأد الانتفاضة الكبرى – الأولى تحت بنود اتفاق "أوسلو"، الذي أبرم كمحاولة قام بها الوطن المعنوي – "م.ت.ف" لإنقاذ نفسه من الاندثار تحت ضغط نظام عالمي جديد انبثق بعد "عاصفة الصحراء" الأمريكية - العربية عام 1991, وبدا أنه يؤسس لعالم أحادي القطبية ينتهي معه "التاريخ والأيديولوجيا" حسب منظّري تلك الحقبة.. وقد تمت محاولة "الإنقاذ" هذه؛ عبر حيازة الوطن المعنوي لما تبقى من أرض الوطن الفعلي, في تصوّر وهمي لدى "أهل أوسلو" بأن عودة الجهاز البيروقراطي وعدد من الكادر السياسي إلى جزءٍ من أرض الوطن تعني عودة الوطن!
- نحن الآن في المحطة الرابعة التي بدأت بالوهم ورست على الوهن.. في هذه المحطة تم تهميش الوطن المعنوي "م.ت.ف" وشل مؤسساته لمصلحة "سلطة لا سلطة لها"، وصفّيت المقاومة المسلحة في الضفة الغربية تحت سقف التنسيق الأمني, وتحول العنوان الفلسطيني الذي ربما كان الإنجاز المتبقي لمحطة ما بعد "اتفاق أوسلو" إلى عنوانين بسبب الانقسام المدمر، الذي أوصلنا إلى سلطتين معزولتين ومحاصرتين.. وبدأت الرياح تتلاعب بسفينة موشكة على الغرق!
حمل إلينا عالم اليوم "صفقة العصر" الترامبية، وملامح جديدة يتصدرها يمين شعبوي في الغرب والشرق, ويمين قومي ديني في "إسرائيل" تهرول نحوه بعض الأنظمة العربية طلباً للتطبيع والحماية، ناهيك بالعجز الفلسطيني الرسمي عن بلورة رد واضح على الضم الزاحف. ففلسطين التي يفترسها انهيار القرار السياسي الموحّد, وغياب الاستراتيجية المشتركة, أضحت اليوم في خضم التجاذبات, وصارت ساحة للصراعات الإقليمية, وملعباً يسمح للعنصرية الصهيونية بالعمل على تحقيق شهوتها بإلغاء فلسطين من المكان!
إنها محطات وحلقات مترابطة في مرحلة متكاملة تتجرجر ولا تخبو على أرض التاريخ الفلسطيني.. فلسطين لن تموت ولن تذوي حروف اسمها المجبول بالتضحيات ومئات الآلاف من الشهداء والمكلومين والثكالى.. فهناك دائماً من سيأتي ليقرع "جدران الخزان"؛ معلناً أن "سيدة الأرض" لا تزال في مكانها تحت الشمس.