تمر الذكرى ال72 للنكبة والقضية الفلسطينية في أسوأ مراحلها محلياً و دولياً، مما خلق الفرصة المواتية للإدارة الأمريكية، بإيعاز إسرئيلي، لطرح ما اتفق على تسميته "بصفقة القرن"، والتي تجسد الضربة القاضية للحد الأدنى من تطلعات الشعب الفلسطيني بكل مكوناته: 67 و 48 و شتات.
باختصار شديد، لم يكن الإعلان عن بنود الصفقة التصفوية في البيت الأبيض ليتم دون موافقة عربية وشبه انهيار فلسطيني تمثل في؛ تشتت الرؤية وانقسام أفقي وعمودي، خلق كيانات سياسية غريبة على حركات تحرر تناضل ضد استعمار استيطاني وأبارثهيد عنصري. ولم يكن بالإمكان الإعلان عن الصفقة، بل البدء بتنفيذها على الأرض دون أي اعتبار لرد الفعل العربي والفلسطيني، لولا العملية التراكمية بدءاً بكامب ديفيد (1978)، مروراً بأوسلو (1993)، ووادي عربة (1994)، وصولاً إلى الهجمة التطبيعية الأخيرة التي تقوم بها كل دول مجلس التعاون الخليجي, عدا دولة الكويت .
إذاً الصفقة لا تمثل قطيعة مع الماضي، بل هي امتداد للسياسات الرسمية العربية في العقود الخمس الأخيرة؛ من حيث القبول بوجود إسرائيل على 78% من أرض فلسطين التاريخية، والاكتفاء ب22% يستطيع الفلسطيني أن يعتبرها دولته المستقلة، وصولاً إلى القبول باحتلال ما تبقى والقضاء على ما اتفق الفلسطينيون بأطيافهم السياسية المختلفة على تسميته "الحلم الفلسطيني!" فلسطينياً، تحول النضال، من أجل التحرير إلى "حلم الاستقلال" الما-بعد-كولونيالي لثلث الشعب القابع تحت احتلال عسكري مباشر في الضفة الغربية وقطاع غزة، ولكن في ظل وجود و سيطرة الاستعمار الاستيطاني! و هذه مفارقة كولونيالية غير مسبوقة؛ إلا فيما كان يطلق عليه "الأوطان المستقلة" لسكان جنوب إفريقيا الأصلانيين؛ إبان نظام الأبارثهيد العنصري.
من الناحية الأخرى يوجد عزل لدولة الاحتلال والأبارثهيد على الصعيد الشعبي والمدني، وتراكم للإنجازات التي حققتها حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض عقوبات على إسرائيل. وتأتي هذه الإنجازات استجابة للنداء الذي أطلقه المجتمع المدني الفلسطيني عام 2005، والذي يدعو من خلاله المجتمع الدولي إلى مقاطعة إسرائيل حتى تستجيب للشرعية الدولية. وقد أصبح واضحاً للعيان أنه في هذه اللحظة التاريخية الفاصلة مطلوب تصعيد التضامن الأممي؛ من خلال هذه الأداة الكفاحية التي أصبحت تشكل نافذة أمل في مواجهة الصفقة التصفوية، وليس من الغريب إذاً أن تقرر إسرائيل تخصيص حقيبة في وزارة الشؤون الاستراتيجية للتعامل مع ما أسمته "الخطر الوجودي" على الدولة.
ما يهمنا في هذا السياق هو الركيزة الأساسية التي تعتمد عليها الصفقة، أي إعادة صياغة الوعي العربي العام من خلال ممارسات تطبيعية بعضها فج، كما حصل في الفترة الأخيرة من أنظمة البترودولار، والبعض الآخر يتلفع "بالمصلحة الوطنية والقومية!، فمن الملاحظ في هذا السياق أن المبررات التي كانت تساق لتمرير الموجة الأولى من التطبيع من أنه كان "ضرورة قومية ووطنية" ستؤدي إلى السلام والرخاء الاقتصادي لشعوب المنطقة في السبعينيات (كامب ديفيد)، والتسعينيات (أوسلو ووادي عربة)؛ تطورت إلى العداء السافر للشعب الفلسطيني، وكل أشكال المقاومة التي يمارسها في مواجهة نظام الاحتلال والاستعمار الاستيطاني، وهذا بالتالي يتطلب وضوحاً و مبدئية أكثر في مواجهتها.
ما تبقى لنا في زمن الصفقة والتطبيع هو المقاطعة بكل أشكالها: اقتصادية، أكاديمية، ثقافية، رياضية، عسكرية، سياسية؛ فالمقاطعة خيار مقاوم أثبت نجاعته تاريخياً، فتجربة النضال ضد نظام الأبارثهيد في جنوب أفريقيا ما زالت حيةً، ومعظم من كان له شرف المشاركة في هذه الثورة العالمية ما زال حياً وجاهزاً للنضال ضد آخر نظام أبارثهيد.
لن تساعدنا رسائل الودّ والتزامنا بحل الدولتين لدونالد ترامب، ولن تسعفنا المفاوضات العبثية المباشرة منها أو غير المباشرة، أو تبني برامج "جديدة" تقبل بمبدأ دولة على حدود 1967؛ دولة أصبحت جثة هامدة حتى قبل ولادتها، و لكن يبدو أنه يتوجب على القابضين على الجمر إعادة وتكرار الأبجديات والعودة إلى البدايات؛ من خلال التذكير أنه من المهم لأي شخص يرغب في الاشتراك في حوار جاد في فلسطين أن يكون واعياً بأن أبجديات ما يسمى "بالصّراع"، هو بالأحرى اضطهاد يمارسه الاحتلال ونظام الفصل العنصري الاسرائيلي على سكان الأرض الأصليين.
إن نداء مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها؛ يتضمن المطالب الآتية: يجب على إسرائيل أن تنهى احتلال واستعمار الأراضى العربية، وأن تزيل جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية، الذي اعتبر غير شرعي وفق قرار محكمة العدل الدولية الصادر عام 2004، وأن تعترف إسرائيل بالحقوق الأساسية للسّكان العرب الفلسطينيين في إسرائيل، وأن تعاملهم بمساواة تامة، وأن تطبق قرار الأمم المتحدة 194، الذي ينص صراحة على حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم. ما هذه المطالب إلا الحد الأدنى من الحقوق الأساسية التي كفلتها الشرعية الدولية, وما المطالبة بأقل من ذلك إلا تطبيع للاضطهاد والظلم إن لم يكن استسلاماً واضحاً.
إن كل اللقاءات والمشاريع التي تجمع ما بين العرب والإسرائيليين يجب أن يتم وضعها في السياق الصحيح لمناهضة الاحتلال والأشكال الأخرى من الاضطهاد الإسرائيلي لكل مكونات الشعب الفلسطيني، والأهم أن تكون هذه اللقاءات مناصرة للمقاطعة حسب التوجيهات التي أصدرتها اللجنة الوطنية للمقاطعة. ولا يقتصر الأمر على معاناة الفلسطينيين الذين يقطنون في أراضي الـ48 و الـ67، بل ويجب أن يؤخذ بعين الاعتبار أن إسرائيل تحتجز الآلاف من المعتقلين الفلسطينيين؛ ومن ضمنهم العديد من الأطفال، بينما يعيش الملايين من الفلسطينيين المشردين تحت ظروف من الحرمان والبؤس في مخيمات اللجوء سواء في الضفة الغربية أو قطاع غزة أو لبنان أو سوريا أو الأردن أو مصر، وبالتالي فإنّ الدعوة للحوار مع دولة الاستعمار الاستيطاني والأبارثهيد مرفوضة؛ إلاّ إذا أخذت بعين الاعتبار الظّلم التاريخي الذي مارسته على سكان الأرض الأصليين، وتطرّقت لأنجع الطرق التي تؤدي إلى إنهاء الاحتلال والاستعمار والأبارثهيد، والمقاطعة ترينا ذلك الطريق.
إن أهمية حركة المقاطعة في هذه الأوقات الحرجة، و بعد 72 عاماً من النكبة، تكمن في أنها تمثل رأس الحربة التي تتصدى للمشروع الأمريكي الهادف لفرض التطبيع العربي الكامل مع إسرائيل مقابل تصفية القضية الفلسطينية، لذلك تشعر إسرائيل هذه الأيام, مع تسابق بعض الأعراب على التطبيع معها, بسعادة بالغة، فعلى مدار العقد الماضي كانت قد فشلت فشلاً ذريعاً في التصدي للمد الهائل للمقاطعة عالمياً، وها هي تستنجد بالإدارة الأمريكية لغزو العالم العربي وتحقيق ما عجزت عن إنجازه منذ نشأتها على أنقاض فلسطين.