أي فجيعة هذه! أي حزن وألم مروع هذا...! كيف وصلنا لذلك!؟
في عام الرماد التسعين، نهضت في بيت من طين في مخيم في غزة امرأة ساطعة كالدهر. صاح الدِّيك صيحته الأولى لم تنكر تلك المرأة رايتها، صاح الديك صيحته الثانية فامتشقت عودَ دالية لم يورق بعد، فصاح الديك صيحته الثالثة، حملت صرّة خبز من قمح بعليٍّ وما تيسر من حب وقالت: سأصل إليهم في "نفحة" في "النقب" في "عسقلان" .. سأصل إليهم حتى لو كانوا في آخر سجن في الكون ، لن أنكر أبنائي ولن ينكروني، حتى لو صاح الديك مئة عام قبل الفجر وبقي يصيح.
مضت المرأة وهي تتكئ على قلبها وحدسها، راحت تجوب السجون والمعتقلات ومراكز التوقيف ، مشت على الدروب المنسيّة، خاضت في البحر وفي الرمال اللاهبة، في الحر وفي البرد، نزفت أقدامها، غسلها العرق الشريف، مضت بين الأشواق وبين الأشواك البريّة، بقيت ناهضة في عينيها أحلامٌ موغلة في القِدَمِ، سارت قمرين. من بيارات غزة هبت أزهار الليمون فأنتعش القلب.
رفَّ القلب حنينا، اقترب القلب من القلب فجاء الهمس:
- "يمّا أنا ابنك هنا ... كلنا هنا ... كل أبنائك هنا"
ابتسمت كالشمس، وضعت صرّتها، مسحت جبينها، عدلت منديلها الأبيض كغيمة. بحثت بين شجيرات العُلِّيق وثنايا الأرض، فطار الفَراشُ، ومن بين أغصان الشوك والعلّيق البريِّ بدا وجهٌ أليفٌ كأيقونة مريم، فأشرق وجهها:
- "كيفَكو يمّا"؟.
- جائعون قليلا. لكننا بخير. فما دمت يمّا بخير فنحن بخير.
- هذا خبز من قمحٍ بعليّ وفي الأرض تجدون الباقي. "ديروا بالكو يمّا، وعدتني يا ولدي أن تزرع هذا العود في عكا، فهل لا زلت تذكر وعدك؟".
- وكيف أنسى وعدا أعطيته لأمي! سيكون ذلك حتى لو لاحقنا كل لصوص الأرض وقراصنة البحر، فهذي الأشواك والشجيرات وعيونك تحمينا.
ابتسمت، أرسلت نحو شمال الشمال بعضا من شوق، فلاحت صفد في الأفق المتلألئ. همست: أقرئي من غزة عكا السلام.
استدارت نحو الأشواك وقالت:
- يمّا انتبه كي لا تخطئ، هناك في الجنوب لي ولد يحمل بارودة خالك ويأبى إلا أن يجوب الشاطئ والبحر، فتذكر هو أخوك لا تنس ذلك، فلا تخطئ.
قالت ذلك واستدارت عائدة مشبعة برائحة الأرض ورائحة الشوك البريّ ووعد سيحين حين تكتمل الأسطورة.