Menu

المقاومة في أدب غسان كنفاني

د. حسين حمودة

نشر في العدد 16 من مجلة الهدف الرقمية

فكرة المقاومة هي فكرة تأسيسية وملازمة لتجربة غسان كنفاني ، ظهرت خلال أعماله الأدبية كلها، وتمثلت خلال ممارساته السياسية جميعاً، وامتدت عبر مسيرته حتى استشهاده الفاجع المدوي.

في مقاربة هذا الموضوع، "المقاومة في أدب غسان كنفاني"، سوف أتحدث في ثلاث نقاط أساسية:
النقطة الأولى تتصل بالتصورات النظرية الخاصة بغسان كنفاني، أو بوعيه النظري، حول مفهوم المقاومة في الأدب.
النقطة الثانية ترتبط بتمثّلات المقاومة في إبداع غسان كنفاني، المتنوع كما نعرف جميعاً، بين الرواية والقصة القصيرة والمسرحية.
النقطة الثالثة والأخيرة ترتبط بأمثولة المقاومة التي يمكن استخلاصها من تجربة غسان كنفاني.
***

أولاً فيما يخص النقطة الأولى، المعرفة الجمالية بفكرة المقاومة، يمكن أن تلتمس أبعاداً متعددةً في هذه الوجهة خلال كتاب كنفاني المعنون (الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948-1968)  الذي تناول فيه الوضع الثقافي لعرب فلسطين المحتلة، وتوقف عند أدب المقاومة الفلسطينية، ثم قَدمّ نماذج متعددة من الشعر والأقصوصة من هذا الأدب الفلسطيني.

في مقدمة الكتاب طرح مجموعة من التصورات المهمة حول مفهوم أدب المقاومة وثقافتها، ورأى أن هذه الثقافة لا تقل قيمة ـ بعبارته ـ "عن المقاومة المسلحة ذاتها".

رأى أيضاً أن أدب المقاومة خلال الفترة التي يتناولها بعد 1948 يمثل حلقة جديدة من حلقات سابقة ارتبطت بالنصف الأول من القرن العشرين، وتصور أن دوره في هذا الكتاب هو تقديم وثيقة أخرى للأدب الفلسطيني بعد الوثيقة التي قَدمهّا في كتابه الأول: "أدب المقاومة في فلسطين المحتلة".

الكتاب الأول الذي يشير إليه، "أدب المقاومة في فلسطين المحتلة"، تناول في ثلاثة فصول أدب المقاومة بعد الكارثة، والبطل العربي في الرواية الصهيونية، ثم قَدّم نماذج متنوعةً من شعر المقاومة. وقد انطلق غسان كنفاني في هذا الكتاب من موقف واضح ومن انتماء واضح لقضيته، دون ادعاء حيادية مزعومة، أو دون لجوء إلى ما يسميه "البرود الموضوعي".

وقد سجل في الكتاب مجموعة من الملاحظات حول شعر المقاومة الفلسطينية، منها أنه ـ بعبارته ـ "ليس بكاءً وليس نواحاً ولا يأساً، ولكنه إشراق ثوري دائم وأمل يثير الإعجاب".

التقط غسان في هذا الكتاب المبكر أبعاداً مهمةً في الشعر الفلسطيني المقاوم، منها المزج العميق بين الشخص والأرض، والعلاقة الفردية والعلاقة مع الوطن، وربط أدب المقاومة بعنصرين مهمين: عمق الوعي وإيجازه الحاسم، ورأى أخيراً أن أدب المقاومة الفلسطيني يُقدم لتواريخ الأدب المقاوم في العالم نموذجاً متقدماً.

أيضاً له كتابات عن فكرة ومفهوم المقاومة على مستويات أخرى، منها المستوى السياسي، وله مقالة بعنوان "المقاومة هي الأصل"، هي نوع من الحوار مع أحمد بهاء الدين.

***

النقطة الثانية التي يمكن التوقف عندها ترتبط بتمثيلات المقاومة في إبداع غسان كنفاني الأدبي، ونحن نعرف أن له أعمالاً كثيرةً مهمةً ومتنوعةً وغزيرةً، كتبها كلها رغم قصر الحياة التي عاشها، تمثلت في رواياته المهمة ومنها "رجال في الشمس" و"أم سعد" و"ما تبقى لكم" و"من قتل ليلى الحايك" و"عائد إلى حيفا"، بالإضافة إلى مجموعاته القصصية المهمة، ومنها "أرض البرتقال الحزين"، "عالم ليس لنا"، "عن الرجال والبنادق"،  بالإضافة إلى مسرحياته: "الباب"، "القبعة والنبي" و"جسر إلى الأبد".

في كل هذه الأعمال، على تنوعها وعلى تباين الوجهات التي سارت فيها واستكشفتها، يمكن التماس معالم واضحة وثابتة مقرونة بمعنى المقاومة. من هذه المعالم ما يتصل بالتناولات الأساسية في هذه الأعمال، فكلها موصولة بتجسيد معاناة الفلسطينيين داخل فلسطين وخارجها بسبب الاحتلال الرازح. 

ومن هذه المعالم، ما يرتبط بفكرة "الامتلاء الزمني"، بمعنى أن الأعمال القصصية والروائية والمسرحية لغسان كنفاني تحيل دائماً إلى ملابسات وتفاصيل تخص فترة أو فترات تاريخية بعينها، بحيث تبدو هذه الأعمال على مستوى من المستويات وكأنها نوع من التأريخ للمعاناة الفلسطينية وتأريخ لسبل المقاومة الفلسطينية.

ومن هذه المعالم، ما يخص التقاط تفاصيل كثيرة جداً، وغزيرة ومتنوعة ودقيقة في الوقت نفسه، لسبل الحياة التي عاشها الفلسطينيون بأشكالٍ متعددةٍ، بما يتمثل نوعاً من الحفاظ على الذاكرة الفلسطينية، وهذا أيضاً شكل من أشكال المقاومة. 
ومن هذه المعالم، تلك القدرة المذهلة على بث روح المقاومة خلال التقاط شخصيات بعينها وتجارب بعينها، وتجسيدها بإبداع فني دونما رفع شعارات رنانة، ودونما اللجوء إلى أساليب خطابية زاعقة.

أيضاً من هذه المعالم، القدرة على تمثيل وتقديم موقف واضح وراسخ ثابت من مظالم الاحتلال وجرائمه، وعدم الوقوف على حياد مزعوم، وعدم التقنع بتلك الموضوعية الباردة، بالتعبير الذي ساقه غسان كنفاني في كتابه وأشرت إليه.

أيضاً من هذه المعالم، التي تمثل أبعاد المقاومة في أعمال غسان كنفاني، ما يرتبط باستخدام أساليب وطرق فنية بسيطة وعميقة في رواياته وقصصه ومسرحه، بما يجعل أعماله جميعاً تنطلق من قدرة واضحة على الوصول لمتلقييه ببساطة دونما تعقيد.

أيضاً من هذه المعالم، ما يخص تناول طرائق المقاومة وتجسيدها بأشكال أدبية جديدة وغير تقليدية وغير سطحية؛ مثلاً على مستوى شخصيات أعمال غسان كنفاني، يمكن ملاحظة أن بعض هذه الشخصيات يقترب إلى حد ما من مفهوم "البطل الايجابي" الذي تم الترويج له وإشاعته في فترة من الفترات، ولكن غسان يجسد هذا المعنى للبطل الايجابي دون اللجوء للتوصيفات الجاهزة التي أحاطت بهذا المفهوم في الكتابات الدعائية.. أبطال غسان كنفاني الايجابيون وبطلاته الايجابيات يشيرون ويشرن إلى مستقبل مشرق، ويتسمون ويتسمن بقدرة على الصبر والامتلاء بالأمل المفتوح على مستقبل قادم، لكن دونما لجوء إلى الصيغ التقليدية التي أحاطت بهذه المعاني، لدى شخصيات نمطية، في كتابات أخرى كثيرة.

مثال لهذا المعنى يمكن أن نجده في شخصية "أم سعد" في الرواية التي وهبتها هذه الشخصية عنوانهاً. "أم سعد" ليست امرأة واحدة في العبارة الواضحة في الرواية، ويمكن أن نتوقف عند مجموعة من القيم المهمة التي اتسمت بها هذه الشخصية: الشرف والصلابة والصبر والصمود واحترام العمل والبساطة والحكمة والنطق بلسان شعبي جماعي، والوعي البسيط العميق..  كلها قيم وصفات مرتبطة بهذه الشخصية التي يمكن أن نشم فيها بعبارة الرواية "رائحة الريف العميق".

أيضاً من هذه المعالم، أن أعمال غسان كنفاني كلها تراهن، وتنجح في رهاناتها، على تأثير ممتد لها فيما بعد الانتهاء من قراءتها، بما يعني أن تأثير هذه الأعمال ليس وقفاً على فترة بعينها، ولا على زمن قراءتها، وإنما يمتد هذا التأثير بعد الانتهاء من قراءتها، كما يمتد لأزمنة أخرى بعيدة تالية... الصيحة الأخيرة المفجعة التي سمعناها في نهاية رواية "رجال في الشمس": "لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟".. هذه الصيحة ظلت تتردد لدى كل من قرأوا وقرأن هذه الرواية بعد قراءتها، وظلت تتردد أخرى تالية بعد قراءتها.

***

 النقطة الأخرى الثالثة والأخيرة التي يمكن أن أتوقف عندها، فيما يخص تجربة غسان كنفاني المقرونة بالمقاومة، تتمثل في  تجسيده معنى الأمثولة للمقاومة، أو معنى "درس المقاومة".. هذه الإطلالة التي أطللت خلالها على بعض تصوراته حول معنى المقاومة، وحول تمثيلات المقاومة في أعماله، كلها لا تنفصل عن الممارسات التي مارسها غسان في حياته. ليست هناك مسافة على أي مستوى من المستويات بين تجربة غسان كنفاني في حياته وتجربة غسان في كتاباته. ليس هناك انفصال بين الفرد والجماعة، وليست هناك أية مزاعم على أي مستوى من المستويات.. هو قام بدوره الذي تصوره بنبل وشرف. قام بدوره هذا في كتاباته، وقام بدوره هذا في ممارساته، وقام بدوره هذا في النصوص الإبداعية وفي الكتابات السياسية التي كتبها، وقد ظل ملتزماً بهذا الدور حتى استشهاده الأخير، بل إن استشهاده يمكن أن يكون تتويجا لهذه الأمثولة التي جسدها غسان كنفاني ببلاغة وبيسر وببساطة وبوضوح ناصع.. أعتقد أن غسان كنفاني كان ولا يزال وسوف يظل تجسيداً لهذه الأمثولة الخاصة بالمقاومة.