في جيش الاحتلال هناك يتحدثون عن "تعاظُم العمليات الإدراكية كمكمّلٍ للعمليات القتالية"، وفي المؤسسات السياسية والثقافية والإعلامية يعتبرون أن جبهة التطبيع مع العرب هي الجدار الاخير أمامهم، ولذلك تخوض "إسرائيل" حربًا إعلامية وثقافية شرسة متواصلة ضد الوعي الفلسطيني والعربي في هذه المسألة، وتوظف كل لوبياتها وعلاقاتها من أجل التأثير على الأنظمة والمؤسسات العربية المختلفة لإجبارهم أو جرهم الى التطبيع الشامل معها، وقد حققت اختراقات كبيرة على هذا الصعيد، ولذلك أيضًا واصلت وتواصل لعبتها في المماطلة والتأجيل والتجزيء والتهميش لكافة عناوين الصراع وأصرت وتصر على نحو حصري على ربط قصة المفاوضات والتسوية والدولة الفلسطينية، بعملية التطبيع الشامل ما بينها وبين العالم العربي، أي أن تكون التسوية إقليمية أولًا بأن يطبع العالم العربي كله معها، وبعد ذلك يجري تسوية القضية الفلسطينية والإقليمية؛ هنا تعني أن يفتح العرب أبواب التطبيع الشامل على مصاريعها قبل تسوية القضية الفلسطينية.. فها هم أقطاب "إسرائيل" من بيريز إلى باراك وشارون واولمرت وليفني ثم إلى نتنياهو، واصلوا لاءاتهم واشتراطاتهم المتعلقة بالتطبيع، بحيث تستكمل "إسرائيل" على ما يبدو تطبيع العرب وتدجينهم على نحو يسبق التسوية (التي لن تحدث أبدًا برأيي) مع الفلسطينيين، التي بات واضحًا أنها لن تتمخض عن شيء حقيقي للفلسطينيين والعرب؛ فالاحتلال مستمر والاستيطان يتغول ويتوسع كالسرطان، والاجتياحات والاغتيالات والحملات الحربية لا تتوقف أبدًا، ناهيكم عن الحصارات والأطواق والحواجز والجدران.
وهنا يطرح السؤال الكبير: لماذا يصر قادة الدولة الصهيونية وأقطاب الإدارة الأمريكية على إنهاء كافة أشكال المقاطعة العربية من جهة، وتحقيق التطبيع الشامل مع الدول والأمة العربية من جهة أخرى…؟!!
يحمل مصطلح التطبيع في الرؤية الاسرائيلية معنى الإجبار والقسر والإكراه والابتزاز لفرض نمط علاقة غير طبيعية، أما أشكال ومضامين التطبيع المطلوب في الفلسفة الإسرائيلية، فهي:
التطبيع السياسي والاعتراف الدبلوماسي والقانوني من قبل جميع الدول العربية؛ التطبيع الاقتصادي، أي إنهاء المقاطعة الاقتصادية تماماً وبناء علاقات اقتصادية في مختلف المجالات: زراعة.. صناعة.. خبرات.. أيدي عاملة.. استثمارات..، ثم التطبيع النفسي، أي تكريس وتطبيع وجود "إسرائيل" والقبول بها عربياً رسمياً وشعبياً والتعامل والتعايش معها بكل ما ينطوي على ذلك من انفتاح شامل على تلك الدولة بوصفها دولة طبيعية مشروعة في المنطقة؛ فالتطبيع الثقافي، وهذا يعني إلغاء منظومة كاملة من المعتقدات والأفكار والمفاهيم التي نشأت عليها أجيال وأجيال فلسطينية وعربية، مع كل ما يتطلبه ذلك من تغيير في المناهج التعليمية والمطبوعات الفكرية والسياسية والثقافية والتاريخية والوسائل والخطابات الإعلامية والأنشطة الفنية.. الخ.
وما بين هذه الاستراتيجية الصهيونية-الامريكية المشتركة التي كانت تحت التطبيق على مدى العقود والسنوات الاخيرة، وما بين الراهن اليوم، نشهد تساقطاً عربياً رسمياً متتابعاً من بعض العرب الأعراب، وفي هذا السياق كثرت التحليلات والتنبؤات حول النظام العربي التالي على سلم التطبيع، فتحدث البعض عن البحرين، وتحدث البعض الآخر عن عمان، وكذلك عن السعودية، وتحدث آخرون عن السودان ، وغيرهم عن المغرب... الخ.
ولكن في الوعي والأدبيات الصهيونية تحتل السودان الأولوية والأهمية الكبرى لما لها وقع إعلامي ومعنوي على كل الأطراف، وخاصة على الرأي العام الصهيوني فهي في وعيهم تبقى"عاصمة اللاءات الناصرية الثلاثة" التي كان أعلنها الراحل الخالد عبد الناصر. فقد "بدأت وسائل الإعلام العبرية بضخ أخبار حول إقدام دول عربية جديدة إلى قطار التطبيع، وبدأت بعض تلك الوسائل إضافة لتصريحات بعض مسؤولي الاحتلال بالترويج إلى أن السودان هو البلد الذي سيوقع اتفاقا للتطبيع مع الاحتلال، وما زاد الطين بلة هو تصريح الناطق باسم الخارجية السودانية؛ أن بلاده ستقيم علاقاتٍ مع "إسرائيل"، قبل أن يُقال بقرار من وزير الخارجية الذي نفى أن تكون قضية التطبيع، قد نوقشت في أروقة الوزارة"، فيما اعتبر مغردون سودانيون التطبيع مع "إسرائيل" خيانة للفلسطينيين ونضالهم من أجل الحرية وإنهاء الاحتلال، وذكروا أن التطبيع مع "إسرائيل" لن يساهم في حل الأزمة الاقتصادية في السودان، كما يتوقع البعض. وتعرف الخرطوم بـ"عاصمة اللاءات الثلاث"، وهي: لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف بإسرائيل.
فالسودان إذن في الوعي والأدبيات الصهيونية هو الاهم بالنسبة لهم، وهم يعملون على مدار الساعة كي يسقط السودان في الفخ التطبيعي الصهيوني، والإدارة الامريكية تضغط وتمارس نفوذها أيضًا في هذا الاتجاه، وهناك طبعًا مؤشرات كثيرة على أن النظام الجديد في السودان يتساوق مع المخطط الصهيوني. فها هي صحيفة "معاريف" العبرية تشير نقلاً عن مصادر مطّلعة أنّ "الاتفاق مع السودان هو الهدف السياسي التالي، ونحن نعمل عليه بقوة"، ولفتت الصحيفة إلى أنّ "المصادر لم تذكر الموعد الذي يقدرون فيه تنفيذ ذلك، بل أشاروا فقط إلى أن الأمر يتعلق بهدف مهم-_ وكالات- الأحد 23 اغسطس 2020". أمّا موقع “إينتلي تايمز” الإسرائيليّ، فقال إنّ كل المؤشرات تدعم إمكانية الإعلان عن اتفاق تطبيع مع السودان، مشيرًا في الوقت ذاته إلى أنّ الرزمة المقدمة إلى السودانيين تتضمن إغراءات سياسية من الجانب الأمريكي، وذلك كطريق لإلغاء العقوبات والانفتاح على استثمارات خليجية- رأي اليوم ”- 2020-8-24-من زهير أندراوس".
وكان رئيس مجلس السيادة الانتقالي في السودان الفريق أول عبد الفتاح البرهان، قال إن لقاءه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في أوغندا، في الثالث من شهر فبراير 2020، أتي "في إطار بحث السودان عن مصالحه الوطنية والأمنية"، مشيراً إلى أن "الاتصالات لن تنقطع، في ظل وجود ترحيب كبير وتوافق كبير داخل السودان- وكالات- الجمعة 14 فبراير 2020"، ليتبين لنا هنا أن القرار السوداني التطبيعي جاهز وهو على الأرجح في الجارور بانتظار أن يسحب في التوقيت المناسب لهم.
ولمزيد من الضوء، مفيد هنا أيضًا أن نستحضر "السودان فى الوثائق والرؤية الصهيونية"، كما وثقها ونشرها محمد سيف الدولة (الخميس، 6 فبراير 2020)، حيث جاء في الوثيقة:
"فى شهر سبتمبر من عام 2008 ألقى "آفى ديختر" وزير الأمن الداخلى الصهيونى الأسبق، محاضرة فى معهد أبحاث الأمن القومى الاسرائيلى، عن الاستراتيجية الإسرائيلية فى المنطقة، تناول فيها سبعة ساحات هى فلسطين ولبنان وسوريا والعراق وإيران و مصر والسودان. نشرتها الصحف العبرية. وفى الجزء الخاص بالسودان، كانت أهم المحاور كما يلى:
· أن اضعاف الدول العربية الرئيسية بشكل عام، واستنزاف طاقاتها وقدرتها هو واجب وضرورة من أجل تعظيم قوة إسرائيل وإعلاء منعتها فى مواجهة الأعداء، وهو ما يحتم عليها استخدام الحديد والنار تارة، والدبلوماسية ووسائل الحرب الخفية تارة اخرى.
· والسودان بموارده ومساحته الشاسعة، كان من الممكن أن يصبح دولة إقليمية قوية منافسة لدول مثل مصر والعراق والسعودية.
· كما أنه يشكل عمقاً استراتيجيا لمصر، وهو ما تجسد بعد حرب 1967 عندما تحول إلى قواعد تدريب وإيواء لسلاح الجو المصرى وللقوات الليبية، كما أنه أرسل قوات مساندة لمصر فى حرب الاستنزاف عام 1968.
· وعليه فانه لا يجب أن يسمح لهذا البلد أن يصبح قوة مضافة إلى قوة العالم العربى.
· ولا بد من العمل على إضعافه وانتزاع المبادرة منه لبناء دولة قوية موحدة.
· فسودان ضعيف ومجزأ وهش أفضل من سودان قوى وموحد وفاعل.
· وهو ما يمثل من المنظور الاستراتيجى ضرورة من ضرورات الأمن القومى الإسرائيلى.
ولقد تبنى كل الزعماء الصهاينة من بن جوريون وليفى اشكول وجولدا مائير واسحاق رابين ومناحم بيجين وشامير وشارون واولمرت خطاً استراتيجياً واحداً فى التعامل مع السودان هو: العمل على تفجير أزمات مزمنة ومستعصية فى الجنوب ثم دارفور وفي مختلف المناطق السودانية.
وفي ضوء كل ذلك نتساءل كما يتساءل ويتوقع الكثيرون: هل تسقط السودان إذن في الفخ ودائرة الاستهداف التطبيعي الصهيوني؟! هل تسقط يا ترى عاصمة اللاءات الناصرية العروبية أم تصمد في وجه عاصفة التطبيع؟!
يبدو أنه في ظل المشهد العربي الراهن، لم يعد هناك من شيء مستبعد، فيكاد لا يمر يوم في هذه المرحلة السيئة؛ إلا ونسمع أو نقرأ عن خطوة عربية تطبيعية؛ وفود اقتصادية وسياسية ورياضية وثقافية وفنية وغيرها إلى الكيان، أو من الكيان إلى بعض العواصم العربية، وبعض الكتاب الجهلة أو المرتزقة يروجون للتطبيع على نحو وقح جداً، لدرجة أن كاتباً سعودياً يطالب مثلاً بسفارة صهيونية في الرياض والعكس..!
فما الذي جرى للعرب؟ أم أن هؤلاء كانوا يدعون العروبة وهم في الخندق الآخر؟ هكذا يبيعون فلسطين وشعبها وتاريخها ومقدساتها.
واضح أن السياسات الرسمية العربية في معظمها أسقطت اللاءات العربية الناصرية، وتبنت النعمات للتطبيع والانفتاح، بل وللتحالف مع الكيان، بل ذهب بعض العرب الأعراب أبعد من ذلك بمطالبتهم بالاعتراف التاريخي بأن فلسطين لليهود، وأنه يمكن تجميع الفلسطينيين في جزيرة في عرض البحر..!
نعتقد آن الأوان ولم يفت، فمن الممكن استدراك الموقف وإنقاذ السودان من الفخ التطبيعي الصهيوني، لو تحركت كافة القوى الحية-العروبية في السودان ومعها كافة القوى العروبية في العالم العربي.