Menu

ثلاث محطات (لحظات سياسية) على الطريق: كامب ديفيد (1979)، أوسلو (1993)، فك الارتباط (2005)! أو: من الفصل والتقييد إلى الإجهاز والتبديد!

م. تيسير محيسن

نُشر هذا المقال في العدد 18 من مجلة الهدف الإلكترونية

بمرور الأعوام على أحداث معينة، تصبح تاريخًا. اعتدنا نحن الفلسطينيون، كل عام، أن نقوم بجردة حساب لمحطات في هذا التاريخ. للأسف، قلما ترتقي هذه الجردات إلى مستوى المراجعة النقدية الشاملة؛ بل إنها في الغالب تعيد إنتاج ذات المواقف التي رافقت الحدث منذ البداية. فمن كان مؤيدًا، على سبيل المثال، لأوسلو يوظف تطور الأحداث وتبدلها في تأكيد صحة موقفه وكذلك يفعل المعارضون.

وأغرب الأشياء في صناعتنا للمواقف السياسية والترويج لها والدفاع عنها، ما تنطوي عليه من محمول عاطفي شكلًا ومضمونًا، ثم إن لنا قدرة عجيبة على تلوين الحقائق وليّها، ولا أقول تزييفها؛ يمكن أن يسوق أحدنا هزيمة ما بوصفها نصرًا مؤزرًا!

في الإعداد لهذا المقال، راجعت دراسات وأبحاث صادرة عن مراكز إسرائيلية، فهالني ما قرأت من حيث اللغة وعمق التحليل، ومن حيث طرح قضايا، نهملها غالبا أو نتجنب البحث فيها وحولها؛ كحرص دولة الاحتلال على الظهور بصورة الضحية، بينما نحن الضحايا الفعليون نخجل منها. وربما، كنوع من التعويض، نبالغ في استخدام التعبيرات الفخمة والخالية من المعني من قبيل "توازن الرعب" أو "الردع المتبادل".

في هذه المقالة أفترض أن ما آل إليه حالنا اليوم يعود إلى ثلاث محطات/لحظات انعطافية. أما الأولى فهي كامب ديفيد 1979، والثانية بدأت بمدريد وانتهت بأوسلو (1993)، والثالثة بدأت مع خطة الفصل (2005)؛ ثمة مشتركات بين هذه اللحظات:

 

فلسطينيًا، واكبت أحداثًا ظهرنا فيها وبسببها متعبين أو مخذولين؛ فاللحظة الأولى أعقبت حربًا دامية استنزفت قوى الثورة، وسبقت حربًا أجهزت على ما تبقى منها وأبعدتنا إلى الصحراء. الثانية توافقت مع النهايات المفجعة لانتفاضة (1987). بدأ "الفصل" مع نهاية الانتفاضة الثانية في شرم الشيخ، وقبيل أطول وأسوأ شرخ يصيب جسد الفلسطينيين وروحهم.

عربيًا، شكلت كامب ديفيد الخطوة الأساسية في رحلة التيه العربي، حتى جاءت أوسلو ومسيرة التسوية نتاج نكبة الخليج ودخول العرب مرحلة الاقتتال الذاتي واستغوال القوى الإقليمية (إسرائيل، تركيا ، إيران، وأثيوبيا) على حوضهم وثرواتهم. وكانت سياسة شارون نتيجة طبيعية للتيه واحتلال بغداد؛ فلجأوا، في عاصمة المقاومة، إلى استجداء شارون وبوش بمبادرة لم تزدهما إلا صلفًا، وما أضافت إلى رصيد العرب إلا الهوان. كل لحظة ارتبطت بمبادرة هابطة على لسان ولي عهد سعودي قبل أن يتوج ملكًا!

إسرائيليًا، تعكس اللحظات الثلاثة تطور الجدل الداخلي في إسرائيل حول هويتها وطبيعتها بينما هي تواصل بناء قوتها على الصعد كافة. مع أول مؤشرات صعود اليمين (1977)، كانت كامب ديفيد، ومع توازن التيارين اليميني واليساري ساهم "أوسلو" ومقتل رابين في صعود اليمين القومي-الديني وتسّيده؛ أجهزت حكومة اليمين على الانتفاضة ونفذت "الفصل" وحصلت على وعد بوش (بلفور 2). مع "التنازلات" المزعومة عن "أراض" في المحطات الثلاثة، اندلعت داخل إسرائيل أزمة هوية وأزمة شرعية، حسمت لصالح اليمين المتطرف وبرنامجه (من التسوية إلى التصفية).

أمريكيًا؛ من كارتر إلى ترامب: كانت اللحظات الثلاثة جزءًا من الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة ونتاج جهد أمريكي مثابر ومنحرف ومتعاطف إلى أبعد الحدود مع المواقف الإسرائيلية. شكل الحزبان الديموقراطي والجمهوري، المحافظون الجدد، الإنجيليون الصهاينة واستراتيجيون يهود أمريكيون كثر، منهم بريجنسكي، بيرنارد لويس، كيسنجر، مارتن اندك، وآخرون، روافع ودوافع رئيسة! 

ولكن، كيف أطلقت هذه اللحظات ديناميات التقويض الذاتي وسوغت وسهلت تطبيق سياسة الفصل؟ وكيف أثرت فيما آلت إليه أحوالنا اليوم؟ مما لا شك فيه أن الوجود الفلسطيني على الأرض هو المستهدف بوصفه "خطرًا ديموغرافيًا":

(1) صياغة وإعادة صياغة مرجعيات ومعايير "التسوية" ورهنها بإرادة إسرائيل، والموقف الأمريكي؛ من التحرير إلى الدولة؛ من مدريد إلى طابا؛ من قرار التقسيم إلى 242؛ من الشرعية الدولية إلى "الصفقة"! وألزمنا أنفسنا بعهود واتفاقيات!

 

(2) تشجيع الانشقاق والانقسام، في أوساط العرب والفلسطينيين، بين الدول والمحاور والطوائف، وداخل التنظيمات السياسية، وإطلاق دينامية "الضد" على أساس أيديولوجي وديني وطائفي!  

(3) أوسلو (وما تلاها) لم تضع حدًا للاحتلال الإسرائيلي، بل كرسته وخفضت من تكلفته وأطلقت شهوته التوسعية؛ توسع الاستيطان، وتعمقت التجزئة الجغرافية. عدم تكافؤ القوة أدى إلى التنازل المتتالي من الجانب الفلسطيني لتجنب المزيد من التهميش؛ تغير الطابع الانتقالي للاتفاق وللسلطة؛ فشلت تجربة الجمع بين السلطة والمقاومة واستباحنا الاحتلال!

(4) دينامية الاتكال والاعتماد المالي على الخارج جعلت من السلام الاقتصادي ومقايضة الحقوق السياسية بالمزايا الاقتصادية مسارًا سياسيًا بديلًا. وقع الجميع في مصيدة المال السياسي من حيث التحكم في استقلالية القرار؛ كبح أي عمليات تغيير ثورية، ما أورث القيادة مرونة ورخاوة، وولّد طبقات ومراكز قوة ومنتفعين جدد، من بعض رجال أعمال ومناضلين قدامى ومثقفين ونشطاء مدنيين.  

(5) اشتملت أوسلو على اختلالات بنيوية منذ البداية، ظهرت أثناء التطبيق؛ إبرامها شكل مشكلة وكذلك فشلها؛ بسبب فجوة القوة وانحياز الراعي "الوسيط"، أيضًا انعدام الإرادة للوصول إلى تسوية حقيقية؛ تجييش الرأي العام، ليس لكسبه؛ وإنما ضد العملية؛ لم تبذل جهود كافية لمحو الصورة النمطية والأحكام المسبقة التي ترسخت خلال عقود من العداء، بل إن الاحتلال زاد من عداءه وشيطنة الفلسطيني وواصل قضم الأرض وانتهاك الحقوق والتنصل من التزاماته، وأصاب الناس يأس عظيم، وازداد عدد المعارضين للتسوية. وبدلًا من أن تذهب القيادة إلى إعادة النظر، زادت الخطب العنترية، والمراوحة في المكان، ما سهل للطامعين الانقضاض والتوظيف والاستغلال!

هذا وأطلقت خطة الفصل ديناميات أخرى، بنى عليها نتنياهو سياسته الحالية؛ التجزئة وتقويض مجتمع الصمود؛ الانقسام وعجز النظام؛ افقاد الفلسطيني ثقته في نفسه وجدارته أمام العالم؛ لفت الانتباه عما يجري في الضفة؛ الاجهاز عل الكيانية وتسهيل ضرب الوجود والتخلص من معضلة غزة؛ التأثير في مجريات الحدث في الإقليم والاستفادة منها (تعميم اللجوء، تطييف الكيانات، تطبيع وتحالفات).

(1) حافظ شارون على غموض نسبي فيما يتعلق بأهداف خطته؛ أعلنت الحكومة الإسرائيلية غرضًا مبهمًا "الوصول إلى واقع أمني وسياسي واقتصادي وديموغرافي أفضل". ثمة دوافع فعلية للخطة، لم يفصح عنها شارون لغاية في نفسه؛ جوهر الخطة التخلص من عقدة غزة وتكريس انفصالها. وقع الفلسطينيون ضحية قراءتهم الخاطئة حين اعتبروا "الفصل" فشلًا عسكريًا إسرائيليًا وهروبًا من "المقاومة". الخطة كما تبين لاحقًا، أوقعتنا جميعًا في الوهم والاقتتال ومن ثم الانقسام والفشل في اختبار الجدارة. إسرائيل تكاد تجهز على الكيانية السياسية في الضفة، وتحارب الديموغرافيا في غزة، وتضعف الهوية الفلسطينية في أوساط مواطنيها ممن تطلق عليهم "العرب".

(2) لم يحدث فك الارتباط شرخًا سياسيًا وأيديولوجيًا إسرائيليا كما يزعم البعض، إنما حسم الصراع على طبيعة الدولة والموقف من الفلسطينيين لصالح اليمين الاستيطاني والعنصري. جمع "بيرس" في أوسلو بين الاعتبارات الاستراتيجية والدبلوماسية في عالم متغير، وزاوج "شارون" بين الاعتبارات الأمنية والأيديولوجية في خطته!  

أما وقد وصلنا إلى هنا، فإسرائيل اليمينية المتطرفة ذاهبة إلى الحد الأقصى (الاجهاز والتبديد: ضم الضفة، التخلص من غزة، التهجير)، مع تحقيق مكاسب إقليمية أخرى!

بعد سنوات من حروب الإقليم، وحينما نضجت الظروف لقطف الثمار، مارست إسرائيل أكبر عملية خداع: فتحت نيرانها السياسية والعسكرية على كل الجبهات دفعة واحدة، حصلت على مكاسب هائلة من إدارة ترامب، عدا عن نجاحاتها في ميادين أخرى وهي تعلن أن نظامها السياسي يمر في أزمة، حتى أنها اضطرت لإجراء انتخابات 3 مرات، وأن قضايا الفساد والتحايل تلاحق رئيس وزراءها الساحر. في الواقع، إسرائيل بذلك كانت تدفع عنها أي احتمال لإلزامها بتسديد الفاتورة ودفع الثمن.

بالطبع، الاستراتيجيتان (الفصل والإجهاز) جاءتا ردًا على مكتسـبات شـعبنا منذ النكبـة؛ انبعاث شـخصيته الوطنية وتعبيرهـا الكيانـي م.ت.ف؛ اعتـراف العـرب والعالـم به وبحقوقه الوطنيـة، وأخيـرًا بقـاء نصـف هذا الشعب تقريبًا على أرض فلسطين التاريخية.

شكل صعود اليمين الشعبوي على مستوى العالم فرصة سانحة (من بين فرص أخرى) لتحقيق ما فشلت فيه دولة الاحتلال حتى الآن. ثمة 3 قضايا تقلق يمينها الحاكم: الديموغرافيا في مواجهة يهودية الدولة؛ معضلة غزة؛ حسم مصير الضفة الغربية! وهي تروم تصفية الحسابات النهائية! يأتي هذا الأمر في سياق إعادة تعريفها لذاتها، وبالعلاقة مع جوارها ومع العالم. فهل تنجح؟ ذلك رهين بثلاث قضايا: (أ) قدرتنا على إعادة صياغة وصيانة إرادتنا الجماعية وتحقيق انبعاثنا الوطني الثاني (الشرعية والوحدة). (ب) تبني برنامج للصمود والمواجهة الشعبية وتطبيقه. (ج) تعميق تناقضات إسرائيل، مع ذاتها (اليهودية)، مع جوارها (التوسع)، مع العالم (العنصرية).