شهد العالم في بداية العقد الحالي من القرن مجموعة من المتغيرات السياسية التي أبرزت على نحو غير مسبوق بروز تأثير قوى سياسية في الصراعات الدولية، لم يكن لها دورًا كبيرًا في الحقب السياسية الماضية سواء أكان ذلك أيام فترة القطبية الثنائية بين الاتحاد السوفييتي السابق والولايات المتحدة الأمريكية أو بعد فترة القطب الأوحد بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك المعسكر الاشتراكي.. في هذا العقد الذي يوشك على الانتهاء شهدت المنطقة العربية اندلاع حالات احتجاجات شعبية؛ سميت في وسائل الإعلام وقتها بثورات الربيع العربي، وكانت بهدف تعميم الديموقراطية والقضاء على ظاهرة الاستبداد السياسي، وقد أطاحت برؤساء عرب، لكنها تحولت بعد ذلك إلى فوضى سياسية وأمنية؛ بسبب حرفها عن بوصلة اتجاهها، وما صاحب ذلك من بروز الدور الإقليمي بشكل فاعل في الشرق الأوسط والمنطقة العربية لكل من إيران الجمهورية الإسلامية الشيعية ذات النزعة القومية الفارسية التي تجعل من دورها السياسي في المنطقة أو ما يطلق عليه بعبارة "التمدد الإيراني"؛ حالة توجس في الوطن العربي الذي تدين الأكثرية من شعوبه بالمذهب السني، خاصة دول الخليج العربية التي أصبح مطلوبًا أن ترى في نظام إيران السياسي الإسلامي "الثوري" العدو الرئيسي بدلًا من العدو الصهيوني، في ذات الوقت، الإندراج في إجراءات التطبيع معه، والتي كان آخرها الاتفاق البحريني الإسرائيلي.. أما الدولة الثانية التي أصبح لها دورًا إقليميًا فاعلًا لم يكن لها قبل ذلك مثل هذا التأثير الظاهر الآن في الأحداث الجارية، هي تركيا السنية "دولة الخلافة العثمانية" التي استمرت زهاء أربعة قرون ذات النزعة القومية الطورانيه، وهما دولتان تتنافسان في الظروف الحاضرة على قيادة العالم الإسلامي، ولكل واحدة منهما تحالفاتها السياسية والأمنية الإقليمية، في وقت يشهد فيه هذا العالم غياب الدور القومي العربي أو أي دور للبلدان الإسلامية الآسيوية الكبرى كباكستان الدولة النووية القوية أو إندونيسيا أكبر الدور الإسلامية تعدادًا في السكان.
كانت تلك الاحتجاجات التي سميت بالثورات التي انطلقت من تونس؛ بيئة خصبة للتدخل الإقليمي الإيراني والتركي، وهو الذي ما زال نشطًا حتى الآن في كل من الأزمات الثلاث: السورية واليمنية والليبية.. وكذلك في العقد الزمني الحالي من القرن تراجع الدور الأمريكي كقطب أوحد في السياسة الدولية، وعادت القطبية الثنائية مرة أخرى، وذلك بخلافة جمهورية روسيا الاتحادية لقدرات الاتحاد السوفييتي السابق النووية، وقد ظهر هذا الدور واضحًا في الأزمتين الأوكرانية والسورية؛ ففي الأولي وقفت روسيا ضد سعي أوكرانيا للتضييق على الوجود الروسي البشري في شرق أوكرانيا، بهدف تهجيرهم من البلاد، وكذلك قامت باحتلال جزيرة القرم. وفي الأزمة السورية تقف روسيا الاتحادية بجانب النظام السوري في مواجهة قوى المعارضة المسلحة الظلامية والرجعية والكردية التي تهدف إلى إضعاف الدولة الوطنية على طريق تفتيت الوحدة الوطنية، وعلى إخراج سوريا من موقعها الوطني والقومي المعادي للكيان الصهيوني والغرب الرأسمالي وللأنظمة الرجعية العربية.
أما بخصوص القضية الفلسطينية فقد لحق بها خلال العقد الزمني الحالي حالة من التراجع والتهميش، ويحدث ذلك في وقت لم ينتهِ الصراع بين المشروع الوطني الفلسطيني والمشروع الصهيوني، فلم تعد ينظر إليها القضية الرئيسية الأولى في اهتمام الدول العربية التي تعاني شعوبها من أزمات اقتصادية واجتماعية، وكان ترجمة هذا التهميش هو ما يجري من قيام دول عربية آخرها كان السودان كما أعلن في واشنطن بالأمس، بإجراءات التطبيع المختلفة مع العدو الصهيوني، في وقت ينزع العدو الصهيوني فيه إلى مزيد من التطرف، والتي جاءت صفقة القرن الأمريكية التصفوية لتلبي كل مطالبه الدينية التهويدية؛ من الاعتراف ب القدس كلها عاصمة له ونقل السفارة الأمريكية إليها، إلى مخطط ضم ثلث الضفة الغربية المحتلة الذي ما زال على أجندة نتنياهو، وذلك رغم ما صدر من دولة الإمارات بوقف تنفيذه مقابل اتفاق التطبيع الذي تم، وهو الزعم الذي نفاه نتنياهو نفسه.
في غضون ذلك كله، بقي الوضع الداخلي الفلسطيني يئن تحت طائلة الانقسام السياسي البغيض الذي طال أمده ولم تفلح الاتفاقيات والمباحثات والحوارات التي تمت بوضع نهاية له، فبقى يشكل الخطر الأكبر على وحدة الشعب الفلسطيني الكيانية، وقد يكون ما يحدث من مباحثات حالية بين حركتي فتح وحماس؛ يحمل بارقة أمل في تجسيد وحدة الموقف السياسي الفلسطيني المعارض لتيار التطبيع الذي أصبح نشطًا ولصفقة القرن الأمريكية التصفوية التي تنشط الدبلوماسية الأمريكية في هذه الأيام التي تسبق الانتخابات الأمريكية لنزع الاعتراف العربي بها كبديل عما تسمى بالمبادرة العربية للسلام، ليكون هذا الاعتراف إنجازًا سياسيًا هامًا، يسجل لصالح ترامب في مواجهة المرشح الآخر بايدن عن الحزب الديمقراطي.
إن تجسيد وحدة الموقف السياسي الوطني الفلسطيني التحرري أصبح ضرورة سياسية وطنية قصوى في مواجهة الأخطار التي تهدد مستقبل القضية الفلسطينية كقضية تحرر وطني سياسية، وليست قضية تلبية خدمات إنسانية، واأن ذلك لن يتحقق إلا في غلبة روح التمسك بالمبادئ الوطنية والمصلحة الوطنية العليا على ما عداها من مصالح سياسية وتنظيمية، وذلك هو السبيل الوحيد لتحقيق المطالب الوطنية في إنهاء الانقسام السياسي وإعادة الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية ومشروعها التحرري، وفي العمل السياسي على جعلها إطارًا للكل الفلسطيني على أساس الشراكة الوطنية.
هكذا كان العقد الزمني الحالي من التاريخ الميلادي 2020 مليء بالأحداث السياسية الهامة، وقد أُضيف إليها مؤخرًا الأزمة الصحية العالمية التي سببها تفشي فايروس كورونا الذي سجلت إصابات منه بشكل غير مسبوق في قطاع غزة المحاصر، وظل لفترة أشهر خاليًا منه، ليضع هذا الوباء الفيروسي الخطير سريع الانتشار العالم كله أمام تداعيات بروز العامل البيولوجي في الصراع الدولي، إضافة إلى العوامل الأخرى القومية والدينية والسياسية والاقتصادية المحركة للتاريخ، وهو ما سيفضى إلى ظهور متغيرات في موازين القوى العالمية، حيث الحديث الآن في أوساط الكتاب والمحللين السياسيين، وكذلك في الجبهة الثقافية عن انتقال قيادة العالم من الغرب الرأسمالي البرجوازي الذي كشف تفشي الوباء عجزه في السيطرة عليه، مما سبب وقوع أكثر الاصابات والوفيات في دوله.. إلى الشرق، خاصة إلى الصين الدولة النووية والأكثر دول العالم تعدادًا في السكان ونموًا اقتصادياً سنويًا.
