Menu

المشروع الوطني بين واقع فلسطيني متغير وإقليم مضطرب!

محمد صوان

نُشر هذا المقال في العدد 19 من مجلة الهدف الرقمية

مرت التجربة الفلسطينية بمراحل تجدد وضمور؛ تقدم وتراجع، ثم تأمل.. تمر الآن بواحدة من المنعطفات الصعبة، وذلك بسبب كثافة الصراع على الأرض، وبسبب تكاثر الأسئلة الوجودية والخوف من المستقبل.. وآفاق النهوض النضالي الجديد!

في المرحلة الراهنة هناك فراغ في الوضع على أرض فلسطين، ففي الجوهر لا تستطيع فصائل العمل الوطني والسلطة؛ التحرك إلا ضمن دائرة ضيقة، وذلك بحكم انقسامها السياسي والجغرافي، وهذا واضح في وضع السلطة المكبلة بالتنسيق الأمني وبروتوكول باريس الاقتصادي والحصار - كما يتجلى في غزة - ناهيك عن التهميش الصارخ لمخيمات اللجوء والشتات في دول الطوق، إضافة للقيود المفروضة على حركتهم وحرياتهم على يد المنظومة الرسمية العربية.

من يملأ الفراغ؟!

إن استمرار الاحتقان والغليان الفلسطيني سيؤدي مع الوقت إلى ظهور قوىً وطنية جديدة تحمل بعداً سياسياً وكفاحياً وثقافياً مختلفاً، وستقع على هذه القوى مسؤولية ملء الفراغ تماماً، كما حدث مع الحركة الوطنية الفلسطينية في ستينيات وثمانينيات القرن الماضي، بل قبلهما مع الشيخ عزالدين القسام في ثلاثينيات القرن العشرين.

في سياق آلية تهميش القضية الفلسطينية، هناك روافع وأعمدة من القوة والقدرة، وعناصر ضعف وتفتيت.. لنأخذ على سبيل المثال مكانة النضال الفلسطيني وعمقه الوطني والقومي الحاضنتين عند انطلاقة عموم الثورة الفلسطينية عام 1965، وعندما جرى التركيز على تحرير كامل التراب الوطني وعودة اللاجئين إلى ديارهم وممتلكاتهم التي اقتلعوا منها عام 1948، في ظل تصوّر يدعو إلى "إقامة الدولة الديمقراطية الواحدة على كامل فلسطين التاريخية" والتي يتعايش فيها الجميع دون تمييز عرقي أو طبقي أو ديني أو إثني، ذلك التصور المجسد لمرحلة نهوض تمت بلورته – في حينه – على يد حركات وطنية سياسية ناهضة، في محاولة للإجابة على تساؤلات قوى السلام والديمقراطية المناهضة للصهيونية والعنصرية، حول مصير "اليهود" بعد تحقيق مطالب وأهداف المشروع الوطني الفلسطيني، لكن ذلك الطرح بالتحديد تحول اعتباراً من عام 1973 إلى "برنامج مرحلي"، يهدف إلى إقامة دولة فلسطينية على أي جزء يمكن استرداده من الأراضي المحتلة، وهو برنامج يتعارض مع الحل الجذري للخلاص الوطني والديمقراطي الناجز.

التاريخ المتوقد لا يمكن إحياء تفصيلاته، فالتاريخ لا يكرر ذاته، لكنه يعلمنا كثيراً، ويساعدنا على استعادة ملامح النجاح والإخفاق من خلال انعطافاته.. الأمر الذي يفرض علينا العودة إلى تلك القدرة على "الوحدة مع الاختلاف" التي ميّزت الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية في سبعينيات القرن الماضي، ففي كل مرحلة من تاريخ الشعب، تمكنت القيادة الناضجة من صياغة نموذج وحدة الاتفاق والاختلاف ضمن برنامج تعمل على هديه المؤسسة التنفيذية والتشريعية لـ "م .ت . ف" إضافة للمنظمات المدنية والشعبية والاتحادات النقابية على مختلف قطاعاتها.

لقد امتلكت الحركة الوطنية الفلسطينية في ستينيات وثمانينيات القرن الماضي القدرة على تذليل التباينات، وفي الوقت نفسه حشد الأصدقاء وعزل الأعداء.. وفي حالات كثيرة كسب تأييد وتضامن "يساريين يهود" يناهضون الحركة الصهيونية العنصرية والاستيطان الكولونيالي التوسعي، فإذا كان النموذج الذي أشرنا إليه شكّل قوة للمشروع الوطني الفلسطيني؛ إلا أن حالة التراجع والانقسام المدمر تسبب في تشظي الحركة الوطنية وتبديد المشروع الوطني.. بين  "حل الدولتين" من جهة، وممارسة حق تقرير المصير على كامل التراب الوطني من جهة أخرى، وسط حالة تيه في الرؤية والأهداف في ظل سلطتين واحدة في رام الله والثانية في غزة.

تجديد البنية والقيادة:

في الحالة الفلسطينية الراهنة تجد الأجيال الجديدة صعوبة في أن تحجز لنفسها مكاناً للانخراط في قيادة العمل الوطني، بينما في سبعينيات القرن الماضي كان كل من تبوأ قيادة العمل الوطني من جيل الشباب، لقد شاخت وترهلت الحالة الفلسطينية عندما لم تجد آلية طبيعية يتقدم عبرها الشباب إلى مواقع القيادة بصورة فاعلة، وباتت "م .ت . ف" تشبه المنظومة العربية المستبدة والفاسدة أكثر مما تشبه نفسها في سبعينيات القرن الماضي.

في الزمن الجميل السابق، لم يكن ظهور "كاريزما" شابة في بداية صعودها كياسر عرفات، جورج حبش ، خليل الوزير.. وغيرهم، أمراً عارضاً ولم يكن ظهور قامات ثقافية كمحمود درويش،إدوارد سعيد، غسان كنفاني، ناجي العلي وآخرين.. في المناخ الفلسطيني والعربي خارج السياق، بل لم يكن صدفة ظهور قادة ميدانيين شبان في مخيمات اللجوء والشتات خاضوا النضال بحزم، واستشهدوا في غور الأردن وجنوب لبنان، وفي بحر الحروب الأهلية الطائفية التي حاصرت المخيمات ودمرتها وهجّرت أهلها!

أما الآن، فإن نظرة المحيط العربي إلى القضية الفلسطينية تبدلت، وغاب الإجماع بشأنها، وباتت تتجاذب المنطقة مدرستان إحداهما مرتبطة بـ "الإسلام السياسي" والأخرى بـ "النظام الرسمي الإقليمي" وبينهما "التيار الديمقراطي" بكل ما يعتريه من ضعف؛ بفعل سياسة التضييق المتلاحقة من قبل الأجهزة القمعية..لم تعد الحالة الفلسطينية الراهنة عاملاً محرضاً ومحركاً للجماهير، بل أضحت تمتثل للنماذج التي يفرزها هذا المحيط، كما أن القيادة المتنفذة لم تعد قادرة على احتواء الاستقطاب الأيديولوجي، على قاعدة الوحدة مع الاختلاف، وانغمست في صراع أيديولوجي مع النصف الآخر في غزة الذي بات منفراً للأصدقاء والمناصرين!

مع ذلك لا تزال القضية الفلسطينية في عمق الوجدان الوطني والقومي، ففي مجرى الموجة الثانية للانتفاضات العربية عام 2017-2020، كان للقضية الفلسطينية مكانة خاصة؛ إذ لا يمكن أن تكون عربياً ديمقراطياً أو مسلماً في المكوّنين "السني والشيعي" وساعياً للحرية والعدالة، من دون أن يكون لك موقفاً من الصهيونية بوصفها تعبيراً عن العنصرية والفاشية، وانتهاك حقوق الشعوب والإنسان.. لذلك رفعت في الميادين والساحات شعارات وصور أكدت مدى تأثر المنتفضين على اختلاف تياراتهم بمكانة القضية الفلسطينية، ورفضهم لكل أشكال التطبيع مع العدو الصهيوني.

في الإطار الزمني الراهن، تضعف القضية الفلسطينية برمتها عندما تبتعد عن جذورها التي كونتها، وعن مخيمات اللجوء والشتات الشاهد الحي على النكبة والاقتلاع والتشريد، وعن ذكرى المدن والقرى المدمرة عام 1948 التي حددت شكل وجودها وأساس انبعاثها، فقوة القضية واندفاعها في تمثيل الشعب كما الأمة الأوسع، مرتبطة دائماً بمدى قدرتها على حماية حصنها الأخلاقي وسرديتها التاريخية الأولى وعمقها الوطني والقومي والإنساني، وذلك بهدف إعادة اكتشاف منابع قوتها على الأرض التي كونت بداياتها.

أين يقف الكفاح الوطني؟!

من الطبيعي عندما نفكر في المستقبل أن نتساءل: أين يقف الكفاح الفلسطيني من تحديات التحرير والعودة وتقرير المصير ومجتمع نامٍ وعادل، وبنيان معاصر؟! فجزء من تعبيرات القضية قائم عبر  "علم، نشيد، مقرات، سيارات فارهة، سجادة حمراء"، لكن كل هذا بهرجة زائفة، تحولت إلى كابوس مقلق؛ فالسلطة من دون مقومات ومؤسسات فاعلة نامية، تتحول إلى عبء مضاعف على القضية والشعب الحاضن لها.

فلسطين قضية كفاحية عابرة للدول والأماكن فهي في كل مكان من العالم وعلى أرضها التاريخية، إنها في مخيمات سورية ولبنان والأردن والضفة وغزة.. إنها في كل المدن والقرى الفلسطينية من رأس الناقورة شمالاً حتى أم الرشراش جنوباً، وهو ما يمثل أساس قوتها في ظل مصادرة حقوقها؛ يستدعي هذا من الحركة الوطنية التمسك بالسردية الفلسطينية بجميع أبعادها الأخلاقية، كما لابد من بلورة مشروع كفاحي سياسي وإنساني يتفوق على المشروع الصهيوني فيما يتعلق بمصير الوجود "اليهودي" في فلسطين؛ إذ يفترض طرح تصور للتعامل مع "المسألة اليهودية" واليهود الذين جندتهم الصهيونية لمصلحة مشروعها الاستيطاني العنصري.. لا بد لهكذا مشروع، من أن يتضمن بعداً يتفوق في قيمته السياسية والأخلاقية على الصهيونية لجهة تعامله مع الديموغرافيا "اليهودية".

في هذا الزمن الذي يشهد عبره الإقليم والعالم تحولات كبرى، ينبغي استلهام التجربة الجنوب إفريقية، والحقوق المدنية في مجتمعات أخرى، فهذا كله له أثره على تطور الاستراتيجية الفلسطينية وفاعليتها، كما أن أنماطاً جديدة للمقاومة ستؤدي إلى مرحلة جديدة من الكفاح؛ فالمقاطعة وفرض العقوبات وسحب الاستثمارات عبر دعم حركة "B D S" وإحياء الذاكرة، وصيانة حق العودة، والمقاومة بكل أشكالها بما فيها:  الفن، الإعلام، الكتابة، الثقافة، التعليم،  المظاهرات الحاشدة، رشق الحجارة، إعادة بناء المؤسسات الوطنية، تحدي الموانع والحواجز، حماية الحريات، والسعي لكسب المتضامنين الأمميين، ربما هي الأشكال الأجدى للمقاومة في المراحل المقبلة.. وسيكون الالتصاق بالبعد الوطني والقومي والإنساني فرزاً للإيجابي في واقع سلبي.

لقد شهد العقد الأخير، انعقاد عشرات المجالس والندوات الحوارية، وإصدار العديد من الأوراق والمقالات التي تزكي أفكاراً جديدة بديلة عن "حل الدولتين"، ويعتقد الكثير من هذه الأصوات والأقلام أن "الدولة الديمقراطية الواحدة" على كامل فلسطين التاريخية يمكن أن ينهي الصراع.. بالرغم من أن هذه الآراء تشمل أطيافاً من خلفيات أيديولوجية وقومية ودينية متباينة، إلا أنها تُجمع على أن "حل الدولتين" لم يعد قائماً بأي شكل من الأشكال!