Menu

كتاب موجز الفلسفة والفلاسفة عبر العصور للمفكر غازي الصوراني (ح 63)

غازي الصوراني

موجز الفلاسفة.jpg

خاص بوابة الهدف

(تنفرد بوابة الهدف، بنشر كتاب المفكر غازي الصوراني، المعنون: موجز الفلسفة والفلاسفة عبر العصور، الصادر عن دار الكلمة للنشر والتوزيع، في يونيو/ حزيران 2020، على حلقات متتابعة.. قراءة مثمرة ومفيدة نتمناها لكم).

الباب الرابع

الفلسفة الأوروبية في العصور الوسطى

الفصل العاشر

أبرز فلاسفة القرن التاسع عشر

فردريك نيتشه (1844 - 1900):

حياته:

فريدريتش نيتشه، هو ابن كاهن لوثري، ترعرع في بيئة بيوريتانية تطهرية (Puritan)، وأظهر، وهو في سن مبكرة، اهتماماً بالفلسفة والموسيقى والأدب، وفي الرابعة والعشرين من عمره صار أستاذاً في جامعة بال (Basel)، وفي عام 1879، أضطر إلى الاستقالة بداعي المرض، وألف كتاباته الفلسفية في أحوال مالية وشخصية صعبة بالسرعة التي سمح بها مرضه بالسل الرئوي من عام 1878 إلى عام 1888.

يقول ول ديورانت : "كان نيتشه طفل "دارون" واخاً "لبسمارك" أو بعبارة أوضح، فقد تأثر إلى مدى واسع بنظرية دارون، وسياسة بسمارك، ولا يهمنا كثيراً سخريته من أتباع التطور في انجلترا وأنصار القومية في المانيا، فقد اعتاد ان يهاجم الذين أثرَّوا عليه أقوى الأثر، لقد كانت هذه طريقته اللاشعورية في تسديد ديونه لمن استمد منهم معظم افكاره وفلسفته"([1]).

في طفولته، "تميز نيتشه بحرصه على الاستمتاع منفرداً في عزلته عن الآخرين، وحرص مع العزلة على قراءة الانجيل لنفسه، وتأثر به لدرجة أنه كَرِهَ أبناء السوء من جيرانه حين كانوا يسرقون الطيور أو يمارسون الكذب، لدرجة أن زملائه في المدرسة أطلقوا عليه اسم القسيس الصغير، لكنه على العكس من ذلك امتلك نفساً غامرة بالكبرياء والفخر، إلى جانب قدرته الفائقة على كبح عواطفه، وعندما بلغ الثامنة عشرة –كما يقول ديورانت- فَقَدَ نيتشه ايمانه في إله آبائه وأمضى بقية حياته في البحث عن إله جديد، واعتقد انه وجده في السوبرمان (الانسان الاعلى)، كما عافت نفسه النساء والخمر والتدخين، واعتقد بعجز المدخنين أو المقبلين على شرب الجعة، عن صفاء الإدراك ووضوح الفكر"([2]).

وفي عام 1865 وقع في يده كتاب شوبنهور "العالم كإرادة وفكرة" ووجد فيه على حد قوله –كما يضيف ديورانت- "مرآة رأيتُ فيها العالم والحياة وطبيعة نفسي مُصَوَّرة في عَظَمة مخيفة، وذهب بهذا الكتاب إلى منزله، وراح يقرأ كل كلمة فيه في جوع ونهم، ويقول "لقد بدا لي ان شوبنهور كان يخاطبني شخصياً ويوجه كلامه لي، فقد شعرت بحماسته وخُيِّلَ لي أنه ماثلاً امامي، وعلى هذا الأساس امضى نيتشه حياته كلها في البحث عن الوسائل الجسدية والعقلية التي تُقَوِّي من نفسه، وتعزز إرادته ومثاليته، فقد أثَّر لون فلسفة شوبنهور الأسود القاتم على افكاره تأثيراً دائماً، ولم يقتصر تأثير هذه الفلسفة على نفسه ايام تحمسه لشوبنهور واعتباره مربياً ومثقفاً، بل لازمه حتى في الايام التي رفض فيها التشاؤم كعامل من عوامل الانحطاط والانحلال، فقد بقي تعيساً في قرارة نفسه، ويبدو ان جهازه العصبي كان مرهفاً إلى درجة كبيرة جعلته قابلاً للتأثر والالم، ولم يكن لينقذه من شوبنهور سوى مطالعته لسبينوزا وجوته، فقد كان ينقصه صفاء ذهن الحكيم وهدوء التوازن العقلي"([3]).

وفي عام 1870، وصلته أخبار اشتعال الحرب بين المانيا وفرنسا، وأثارت فيه كل نوازع الاعجاب بالعسكرية الألمانية، وهنا قفزت إلى رأسه فكرة كانت أساساً فيما بعد لفلسفته كلها، يقول نيتشه: "لقد شعرت للمرة الأولى أن اقوى وأسمى إرادة للحياة لا تجد تعبيراً لها في الصراع البائس من أجل البقاء، ولكن في إرادة الحرب، إرادة القوة، إرادة السيادة"([4]).

عاش نيتشه ثلاثة مراحل متميزة في حياته الفكرية يوردها د. فؤاد زكريا كما يلي([5]):

  1. مرحلة فنية رومانتيكية، تمتد من 1869 إلى 1876، وهي المرحلة التي كان نيتشه فيها واقعاً تحت تأثير شوبنهور وفاجنر، وتنتهي بتخلصه منهما.
  2. مرحلة وضعية نقدية، وتمتد من 1876 إلى 1882، وفيها تميز تفكير نيتشه بالتأثر بالمنهج العلمي، بعد أن تَخَلَّصَ من المؤثرات الرومانتيكية السابقة، وتلك هي المرحلة التي حرص فيها نيتشه على أن يوجه أعنف نقد إلى مقومات الحياة الإنسانية في العصر الحديث.
  3. مرحلة صوفية خالصة، تبدأ من كتاب زرادشت في 1883، وتستمر حتى 1888، وفيها يتميز تفكير نيتشه بالاستقلال التام، ويسير في طريقه الخاص، ويتخذ أسلوبه شكل التدفق الصوفي، لا التحليل النقدي.

لم يكن نيتشه يهدف من فكرة "موت الإله" إلا إلى إفساح الطريق امام الإنسان، حتى يمكنه –كما يقول د.فؤاد زكريا- "أن يحقق كل ما تتسع له جهوده، أما إلتجاء كيركجورد إلى الدين، فهو أمر يستطيع نيتشه تفسيره: فمن الناس من يلجأ إلى الدين لأنه سئم غيره من الناس، ورأى حياته عاجزة فسعى إلى ما هو أعلى منها، وهو في هذا يقول: "إن العنصر الديني من أخطاء الطبائع العليا التي تعذبها صورة الإنسان المُنَفِّرةَ". ونيتشه، وإن كان يَنْفُر بدوره من الصورة الحالية للإنسان، فإنه لا يريد أن يكون ذلك النفور من أجل أية حقيقة عليا، بل يريد أن يتجاوز الإنسان ذاته بذاته فحسب، فهو ينظر إلى فكرة الله على أنها تمثل الحد النهائي الذي لا تستطيع قدرة الإنسان الخالقة أن تتعداه، فهي إذن عقبة ينبغي إزالتها، وذلك هو معنى كلمته المشهورة "لو كان هناك إله، فكيف كنت أطيق ألا أكون إلهاً". ففي رأيه أن بين الله والإنسان في الخلق تعارضاً، ولابد لكي يتسع الطريق أمام قوة الإنسان الخالقة من أن تزاح كل العقبات من طريقه.

في كل هذا رأينا تفكير نيتشه يقترب – إذا فُهِمَ على نحو معين – من بعض المبادئ العامة للفلسفة الوجودية، على أن هذا التقارب إذا كان يرتبط بتفسير خاص لتفكير نيتشه الذي يَقْبَل عديداً من التفسيرات، فليس من شك في انه لن يكون حاسماً"([6]).

في حديثه عن نفسه –كما كتب هاشم صالح-  يقول نيتشه: "من يعرف كيف يتنفس هواء كتاباتي يعرف أنه هواء الأعالي، هواء لاذع يُعُضّ.. وينبغي على المرء أن يكون مهيئاً له، وإلا فإن الخطر عظيم في أن يصاب بالبرد… الصقيع اقترب، والوحدة مرعبة: ولكن كم تبدو الأشياء فيهما رائعة، وهي تسبح في بحر من الأنوار!… وكم يستطيع المرء أن يتنفس فيهما بحرية! وكم من الأشياء تَشْعُر وكأنها تحتك"([7]).

ثم "يصل نيتشه إلى الفلسفة وكيف يفهمها ويمارسها فيقول: "الفلسفة كما كنت قد فهمتها دائماً وعشتها تعني أن تعيش في الصقيع فوق القمم… إنها تعني أن تبحث في الوجود عن كل ما يجعلك تغترب عن نفسك، وتطرح أسئلة على ذاتك ويقينياتك الحميمة، إنها تعني البحث عن كل ما حُذِف من قِبَلْ الأخلاق التقليدية، لقد اكْتَسَبْتُ تجربةً طويلة من خلال اقتحامي للمناطق الممنوعة المحرَّمة، من خلال توغُّلي في الأعماق والأقاصي، هناك حيث لا يذهب أحد ولا يغامر مخلوق قط.. وعندئذ اكتشفت الأسباب التي دفعت بالناس، وعلى مدار العصور، إلى تقديس هذا أو ذاك، وإلى رفعه إلى مرتبة المثال الأخلاقي الأعلى، وعندئذ أيضاً تبدت لي الحياة المخبوءة للفلاسفة على حقيقتها، وفهمت نفسياتهم وشخصياتهم، واكتشفت فيما بعد أن المعيار الحقيقي للقيم هو التالي: كم هو مقدار جرعة الحقيقة التي يستطيع فيلسوفٌ ما أن يتحملها، أن يخاطر بها أو من أجلها؟ هذا هو السؤال الأساسي، وكل ما عدا ذلك تفاصيل ثانوية"([8]).

ما الذي يقصده نيتشه بهذا الكلام؟ وكيف يمكن أن نفهم هذا التعريف الغريب والمفاجئ للفلسفة؟

يجيب هاشم صالح على هذا السؤال بقوله: "في الواقع إن نيتشه سمح لنفسه بأن يَشُكْ في كل شيء، وأن يدفع ثمن هذه الشكوك حتى انهار عقله أخيراً وجنّ، فقد شَكَّ في جميع العقائد التي توالت على البشرية منذ أقدم العصور وحتى وقته. وكشف عن طابعها النسبي أو التاريخي في حين أنها كانت تُقَدِّم نفسها كحقائق مطلقة، مقدسة، متعالية. هذا ما فعله مع الافلاطونية أولاً ثم مع المسيحية ثانياً، هذه المسيحية التي تربّى عليها منذ نعومة أظفاره لأن أباه كان كاهناً بروتستانتياً وكذلك جده وربما جد جده، ومعلوم أنه كان يدعوها بأفلاطونية الشعب، أي أفلاطونية سطحية مبتذلة! ومعلوم أيضا أنه أعلن عن موت الإله المسيحي القديم في نص مشهور "موت الإله"، والمقصود بذلك أن التدين المسيحي التقليدي قد انتهى في أوروبا بعد انتصار العلم والصناعة والفلسفة الوضعية في القرن التاسع عشر: أي في عصر نيتشه بالذات"([9]).

بالإضافة إلى تلك السمات، فقد كان نيتشه رافضاً للمسيحية، بل انه دعا إلى اجتثاث كل المعتقدات القديمة والاوهام المقدسة التي اعتبرها –كما يقول يوسف حسين- مصدراً لمكامن الضعف الانساني والخسة والدونيه التي حَوَّلَتْ الانسان إلى مجرد قطيع، فأطلق نيتشه صرخته لإيقاظ البشرية للخلاص من تلك الأوهام، وصولاً إلى الانسان القوي المتصالح مع ذاته ليكون نقيضاً للانسان الضعيف.

إن دعوة نيتشه إلى إجتثاث كل المعتقدات والأوهام، كان لها ما يبررها بالنسبة له، حيث أنه لم يعد قادراً على التواجد في محيط يجد نفسه فيه "محاصراً بسيل من الآراء المتفقة على مدح فكر قديم متخلف أو عقيدة قديمة تفوح منها رائحة عَفَن السنين، مما يجعله أمام خيارين أو موقفين أحلاهما مر، إما أن يتكلم، وسيجرفه بالتالي لا محالة تيار هيجان القطيع الثائر، وإما ان يلوذ بالصمت الممتلئ حسرة على ما يواجهه من قمع الجموع الغفيرة المغيبة العقل والارادة"([10]).

وليس أبلغ من نيتشه كي يصف لنا حالة هذا المفكر أو المثقف وغربته، كما كتب في رسالته لأخته اليزابيث ، فيقول: "يبدو لي أنني كنت أنتمي إلى عالم مختلف عما هو الآن، أشعر انني أصبحت غريباً عن اصدقائي القدامى، وأصبحت صامتاً، لأن لا أحد منهم يستطيع فهم ما أقول أو أكتب، انه لأمر رهيب ان ألتزم الصمت بينما لَدَيَّ الكثير لأقوله، هل خُلْقتُ لحياة العزله؟ إن عدم القدرة على تبادل أفكاري مع الآخرين هو أفظع وأسوأ أنواع العزلة على الإطلاق، وإن الاختلاف عن الآخرين هو أقسى وأفظع من أي قناع حديدي يمكن للفرد ان يُعْزَلْ بداخله"، هذا هو نيتشه –يضيف يوسف حسين- "إنسان جَنَىْ على عقله حينما دفعه بلا هوادة نحو اختراق معرفي واسع، بما لا يتفق أبداً وخصوصية انتماء مجتمعي أضيق من أن يستوعب عبقرية بحجمه أو بحجم موقفه وآراءه".

يقول في كتابه "هذا تكلم زرادشت" مخاطباً الانسان عموماً: "لقد سلكتم الطريق الطويلة من الدوده إلى الإنسان، لكنكم مازلتم تحملون الكثير من الدودة في داخلكم، كنتم قِرَدَة ذات يوم، وإلى الآن ما يزال الانسان أكثر قِرَدِية من أي قرد"، نلاحظ هنا تأثر نيتشه بنظرية داروين.

لذلك حمل نيتشه مطرقته الفكرية –كما يستطرد يوسف حسين- "لتقويض معتقدات الناس القديمه، خاصة حينما أعلن ان "الله قد مات" وقَصَدَ بذلك أن العقائد والاخلاق الدينية التي تستمد وجودها من هذا الإله، هي أصل العلة التي جعلت هذا الانسان ضعيفاً وبائساً ومستسلماً، وتصبح حياته كلها بلا معنى أو هدف، بسبب تلك الاخلاق الدينية التي أطلق عليها نيتشه "اخلاق العبيد"، وداعياً إلى اعتناق اخلاق وقيم جديدة لخلق انسان قوي أو إنسان أعلى يحتقر كل صفات الشفقة والضعف والنفاق.. انها اخلاق السادة – كما يسميها نيتشه- التي تجعل الانسان قوياً ومتمرداً وقادراً على الثورة من خلال "ارادة القوة" التي تجعل منه بديلاً للآلهة التي كان يعتقدها أو يؤمن بها"([11]).

لكن نيتشه –كما يرى يوسف حسين- لم يقدم رؤية واضحة أو بديل حقيقي يوفر أسس بناء أو ولادة الانسان الأعلى، سوى عبارة "ارادة القوة"، الأمر الذي جعل افكار نيتشه قابلة للتفسير وللتأويل وسوء الاستخدام بحيث يمكن استخدامها في إطار التعصب، كما جرى مع استخدام النازيين لأفكاره.

بالنسبة للانسان الأعلى، يقول نيتشه في كتابه "هكذا تكلم زرادشت" مخاطباً البشر: "انظروا، إنني أُعلِّمَكُم الانسان الأعلى الذي هو كنه الأرض، فلتعلن إرادتكم: ليكن الانسان الأعلى هو معنى الأرض.. أُناشدكم ان تظلوا أوفياء للأرض يا أخوتي، وألا تصدقوا أولئك الذين يحدثونكم عن آمال في السماء أو فوق أرضيه.. مُعِدُّوا سموم أولئك ، سواء اكانوا يعلمون أو لا يعلمون"، ويستطرد نيتشه قائلاً: لقد مضى الزمن الذي كان فيه الإثم تجاه الله أكبر الآثام، لكن الله مات ، وبهذا مات أيضاً كل اولئك الآثمين. نيتشه هنا يبشر بالانسان الأعلى، ويجسد أفكاره ضد الانسان الضعيف الذي يجب تجاوزه وانهائه لتكريس ولادة ونمو الانسان الاعلى، القوي، من خلال ارادة القوة.

نيتشه .. وموت الإله:

كان العقد الثامن من القرن التاسع عشر (1880) العقد الزمني للتفاؤل والتقدم والتطور، وضد تلك الخلفية ذاتها –كما يقول ديورانت- "أعلن نيتشه عن اكتشافه المروع، وهو: اعظم حدث في الأزمنة الحديثة، هو أن الله "مات"، وأن ذلك الإيمان بالإله المسيحي صار لا قيمة له – بدأ يلقي بظلاله على أوروبا.

واعتقد نيتشه أن تلك الرسالة المقلقة تحتاج إلى قرون عديدة حتى تصير جزءاً من التجربة الأوروبية، ولكن قبل ذلك ستفقد القيم التقليدية قوتها الملزمة، وستصير العدمية([12]) الأوروبية واقعاً.

رأى نيتشه أن العدمية نتيجة محتومة لإفلاس القيم والمثل العليا. فسقوط القيم، والكشف عن طبيعتها الخرافية دفعانا إلى الدخول في فراغ لم نختبره من قبل.

ورأى نيتشه أن نقطة التحول التاريخية حانت: إما أن يغرق الإنسان في بربرية حيوانية أو يتغلب على العدمية. غير أن العدمية لا يُقْضى عليها إلا إذا عِيْشَتْ حتى رمقها الأخير وتحولت من ثم إلى ضدها، كان المقصود من تفكير نيتشه أن يفتح الطريق أمام شيء مجهول سوف يأتي. لذا، يصعب تصنيف فكره. فهو في مرتبة مفكرين مثل باسكال وكيركيغارد وماركس ودوستويفسكي"([13]).

الجانب المعرفي لدى نيتشه:

يقول "سكيربك ونلز" في كتابهما "تاريخ الفكر الغربي": "رأى نيتشه أن جميع الأنظمة الميتافيزيقية تعابير عن إرادة القوة. والشيء ذاته ينطبق على العلوم. وهي، في الوقت ذاته، عبارة عن "خرافات"، نعني إنشاءات فكرية نفرضها على الواقع، وسريراً بروكروستيياً([14]) (Procrustean) بقياسه نحرف الواقع لخدمة حاجاتنا.

وتلك الأنظمة هي "مساعد فيزيولوجي لحفظ نوع معين من الحياة"، فكل شيء إن هو إلا وجهة نظر وخرافة، فقد اعتقد نيتشه بوجود رابطة بين المعرفة والمصلحة وفي الوقت ذاته اختزلت المسائل بمعنى طبيعي – بيولوجي، وثمة مسألة أخرى تنشأ أيضاً: ماذا عن نظريات نيتشه الخاصة ذاتها؟ هل هي الأخرى خرافات؟ وهل يمكن لنظريات نيتشه أن تتجنب الاتهام بأنها وجهات نظر نسبية، وتقدم لنا الحقيقة عن العالم بمعنى مطلق؟

نيتشه ينفي بقوة، الاحتمال الأخير، وقد ذهب بعيداً إلى حد الشك بالحقيقة. أليس الاعتقاد بوجود الحقيقة اعتقاداً ميتافيزيقياً؟ قال([15]):

"ثقتنا بالعلم تقوم دائماً على إيمان ميتافيزيقي. ونحن الذين نملك المعرفة، والذين لا يقولون بوجود آلهة، والمعادون للميتافيزيقا، نحن أيضاً أخذنا نارنا من المشعل ذاته الذي أشعل الإيمان القديم لألف سنة، الإيمان المسيحي الذي ينتمي أيضاً لأفلاطون، والذي قال بأن الله هو الحقيقة، وإن الحقيقة مقدسة. ولكن ماذا لو لم يعد أحد يؤمن بهذا المعتقد بشكل متزايد؟ .. ولو أن الله تبين أنه كذبتنا الأقدم؟".

وقال نيتشه أيضاً: "إننا في اللحظة التي ننكر فيها الإيمان بالمقدس فإن مسألة جديدة تنشأ: مسألة قيمة الحقيقة، "إذ ستوضع قيمة الحقيقة بشكل مؤقت موضع الشك". عندها ما يكون معيارنا إذا لم يكن الحقيقة ذاتها؟".

وهكذا يبدو أن لنيتشه تصورين للحقيقة، فمن الوجهة التقليدية، نحن نفهم الحقيقة بأنها مطابقة بين قول وواقع (وما تفيده هذه المطابقة كان مثار جدل منذ زمن أفلاطون).

وكل ما يدعى وقائع صافية أو "أوصاف حيادية" إن هو إلا تأويل خفي، ووجهة نظر إلى جانب سلسلة من التأويلات الأخرى، وبهذا المعنى لابد من أن تكون نظريات إرادة القوة والعود الأبدي خرافات، هي الأخرى، إذ ما الذي يميزها عن الخرافات الأخرى؟ وبأي معنى يعتقد نيتشه أن تلك النظريات حقيقية (إذا لم تكن هنا إمكانية للتطابق)؟ وكان الجواب هو أن بعض التأويلات "تخدم الحياة"، فهي نافعة للحياة ولتأكيد الحياة"([16]).

لقد وَجَدَ نيتشه نظرياته حقيقية بذلك المعنى، فهي ليست حقيقية بمعنى أنها تعبر عن حقيقة العالم (لأن نيتشه لا يعتقد بمثل تلك الحقيقة)، لكنها حقيقية بمعنى نفعها للحياة، وهذا ما يمكن أن نسميه التصور البراغماتي للحقيقة، وتلك هي الكيفية التي علينا أن نفهم بها تعريف نيتشه المشهور للحقيقة بوصفها "نوعاً من الخطأ لا يمكن لنوع معين من أنواع الحياة أن يعيش من دونه. فقيمة الحياة هي القول الفصل في نهاية المطاف"([17]).

إن فكرة الانسان الأعلى هنا –كما يقول يوسف حسين- "هي البديل الوحيد الذي يقدمه نيتشه كتجسيد أرضي لمفهوم الإله أو الميتافيزيقا، ومن ثم، تم تفسير هذه الفكرة من النازيين الذين وجدوا فيها ضالتهم وحديثهم عن التعصب العرقي، رغم ان نيتشه لم يقصد تحديداً الجنس الآري أو الألماني، بل خاطب الانسان البشري بالمعنى العام، أي انه خاطب البشر جميعاً ليجعل من الانسان صانعاً لواقعه عبر ارادته القوية التي تمجد حب الانتصار والتغلب على كل قيم الضعف والاستسلام، وفي هذا الجانب –كما يؤكد يوسف حسين- بقوله: "إن نيتشه لم يحترم ابداً المجرمين أو المتسلطين المستبدين، بل دعا إلى الانسان الاعلى الذي يتجاوز القيم القديمة صوب التطور المادي والاخلاقي المتوازن إدراكاً منه بحريته، وتوازنه النفسي، ككائن متكامل متصالح مع ذاته، ممجداً للقوة، ويسعى نحو الإنسانية بالمعنى الأخلاقي وليس بالمعنى العِرْقي الذي استخدمته الفاشيه والنازية وكافة المستبدين والطغاه"([18]).

في كتابه "هكذا تكلم زرادشت" يقول نيتشه على لسان زرادشت مخاطباً الشعب: "جئت مبشراً لأُعَلِّمكم الانسان الأعلى، شرط امتلاككم لإرادة القوة، وأُناشدكم أن تَظَلّوا مخلصين للأرض بعيداً عن أوهام السماء وكل أحاديث رجال اللاهوت".

فكرة موت الإله هي الفكرة المركزية التي يستند اليها فكر نيتشه، والبديل الذي يقدمه نيتشه بعد موت الإله، هو الإنسان الأعلى كتجسيد أرضي للإله.. وهو –كما يقول نيتشه- "إنسان يعتمد على نفسه، سيد نفسه، وسيد مصيره، انسان نبيل صاحب فكر حر لا يأبه المخاطر، يبتكر من واقع إرادة القوة والاخلاق كل امكانات التغيير على الأرض".

إن إلهام نيتشه، وإبداعه، هبط عليه –كما يقول ديورانت- وهو على قمم جبال الألب وأوحى له باعظم كتاب: "هكذا تكلم زرادشت".

يقول نيتشه في كتابه هذا:

جلست هناك انتظر – ولا انتظر شيئاَ

وأنعم بما هو فوق الخير والشر

فأنعم بالضوء تارةً وبالظل طوراً

ولم أجد الا نهاراً وبحيرةً وظهيرةً وزماناً ابدياً

وفجأة يا صديقي أصبح الواحد اثنين .

ومر بي زرادشت.

وهنا ارتفعت روحه –يضيف ديورانت- "فقد وَجَدَ في زرادشت مُعَلِّماً جديداً وإلهاً جديداً، وهو السوبرمان والانسان الأعلى، كما وجد دينا جديداً وهو التكرار الابدي، لقد كان هذا الكتاب (هكذا تكلم زرادشت) آية في الابداع، وقد عرف نيتشه ذلك فقال، ان هذا الكتاب دُرَّةً وحيدة يعجز عن الاتيان بمثله الشعراء، ولا شيء يساويه في سحر الفاظه وعمق أفكاره، ولو جمعنا كل ما شاهده العالم من خير وروح في اعاظم الرجال، لما استطاعوا جميعهم ان يأتوا بحديث واحد من أحاديث زرادشت"([19]).

فيما يلي نقدم عرضاً مختصراً لموجز هذا الكتاب كما قدمه ول ديورانت:

ينزل زرادشت وهو في الثلاثين من عمره من جبله الذي آوي اليه واعتكف فيه، سابحاً في تأملاته وفكره، ليَعِظْ الجماهير، ويرشدها سواء السبيل، ولكن الجماهير تحولت عنه لانشغالها بمشاهدة رجل يرقص على الحبل، ولا يلبث هذا الراقص على الحبل أن يسقط من على الحبل ويموت، فيحمله زرادشت على كتفيه ويذهب به بعيداً، ويناجيه بقوله، ايها الراقص على الحبل، سأدفنك بيدي، لان حياتك كانت حافلة بالأخطار، وانا ادعو إلى حياة المخاطرة وأُقَدِّر البطولة، وأقول "عش في خطر، وَشِّيدْ مُدُنُكَ قرب بركان فيزوف، وأرسل سفنك لاكتشاف البحار المجهولة وعِشْ في حرب دائمة"، ولكن تذكر ان تكفر بالديانات جميعها.

ويقابل زرادشت وهو هابط من الجبل، ناسكاً هَرِماً، أخذ يحدثه عن الله، وانزوى زرادشت، وراح يخاطب نفسه بقول: "هل يمكن ان يكون ما قاله الناسك حقاً؟ يبدو أن هذا الناسك المُسِنْ لم يسمع بعد وهو في غابته ان الله قد مات!" ولكن الله قد مات حتماً، وماتت جميع الآلهة، فقد انتهت حياة الالهة منذ عهد بعيد، لم يتريثوا في موتهم في السحر، كما تخبرنا تلك الاكذوبة، وعلى النقيض، فقد اضحكوا انفسهم حتى الموت!، وقام اله فالقى كلمة أبعد ما تكون عن صفات الألوهية، اذ قال: "لا اله إلا الله ولا الهة من قبلي"، وضحك الالهة جميعاً حتى اهتزوا على عروشهم وصاحوا "اليس من الدين ان يكون هنالك آلهة عدة؟ "فليسمع كل من له آذان، هكذا يتحدث نيتشه بلسان زرادشت فيقول:

أي إلحاد طافح بالبشر والفرح هذا؟ اليس من التقوى ان لا يكون هنالك آلهة؟ اذ لو كان هنالك آلهة كيف أُطيق ألا أكون الها؟ لذلك لا وجود للآلهة. أي انسان أشد كفراً والحاداً مني لكي أُمَتِّع النفس بتعاليمه؟

"اناشدكم يا اخواني واستحلفكم ان تبقوا على اخلاصكم وولائكم لهذه الأرض، والا تصدقوا اولئك الذين يحدثونكم عن الآمال السماوية، انهم ينفثون فيكم السموم، سواء عَلِموا بذلك ام لم يعلموا"([20]).

ولكن زرادشت –كما يقول ديورانت- "يشكو من انه لم يعد بين الناس، من يعرف التوقير والتبجيل، ويَعتَبِر نفسه أتقى ممن لا يعتقدون في الله، وبعدئذ يعلن عن اسم الاله الجديد، فيقول:

"لقد ماتت جميع الالهة، ونريد الآن أن يعيش السوبرمان "الانسان الاعلى"، إنني اعلِمَكُم عن الإنسان الاعلى، سينحدر من الإنسان من يفوقه ويسمو عليه"، وإن أعظم ما في الإنسان أنه جسر لا هدف، وما يحب في الإنسان انه انتقال وتدمير. انني أُحِبُّ أولئك الذين لا يعرفون الحياة إلا بالموت، فهؤلاء هم الذين يتسامون، أُحب المستهينين بالحياة، والمستخفين بالموت، لأنهم أعظم المتدينين والصالحين، فهم سهام تتوق إلى بلوغ حياة افضل، أُحب الذين يُضَحُّون بحياتهم من أجل هذه الأرض التي نعيش عليها، لا من أجل ما وراء النجوم، لكي تصبح الأرض يوماً مسكن الإنسان الأعلى، لقد حان للإنسان ان يعرف هدفه، لقد آن للإنسان ان يَبْذُر بذور أسمى آماله وغايته، أخبروني أليَست الانسانية ناقصة اذا كان ينقصها الهدف؟.."([21]).

تنبأ نيتشه –كما يرى ديورانت- "بأن كل قارئ سيظن نفسه بأنه الإنسان الأعلى، فأعلن بأن الإنسان الأعلى لم يولد بعد، ولم يَقْنَع نيتشه في خلق إله في صورة نفسه، بل أراد ان يكتب الخلود لنفسه، فقال: سيعود كل شيء في هذه الحياة بالتفصيل الدقيق مرة بعد مرة، ومرات لا نهاية لها، حتى نيتشه سيعود وستعود المانيا ذات الدم والحديد والحرب، والنار والرماد، كما ستعود كل جهود العقل البشري منذ بدأ في أزمنة الجهل إلى "زرادشت"، إنه لمبدأ مخيف ولكن كيف يمكن ألا يكون كذلك؟ إن أشكال الحقيقة محدودة، ولكن الزمان لا نهائي غير محدود، ولا بد أن تجتمع الحياة والمادة يوماً على صورة سَبَق لهما أن اجتمعاً بها، وهكذا سيعيد التاريخ نفسه مرة ثانية، وسيبدأ كما بدأ، وينتهي كما انتهى"([22]).

ويعلق ديورانت قائلاً: "لقد اتخذ نيتشه من كتابه زرادشت انجيلا له في حياته، ولم تكن كتبه التالية الا تعليقاً عليه، انه الان وحيد أكثر من أي وقت مضى، فقد بدا كتابه هذا شاذاً ومريبا في نظر اصدقائه، وناح عليه زملاؤه العلماء في جامعة بال الذين اظهروا تقديرهم واعجابهم بكتابه السابق، "مولد المأساة" وبكوا فيه عالما لغويا لا معاً، وشاعراً فاشلاً"([23]).

 


([1]) ول ديورانت– قصة الفلسفة – ترجمة: د.فتح الله محمد المشعشع - مكتبة المعارف – بيروت – الطبعة الخامسة 1985م - ص504

([2]) المرجع نفسه  –ص 508

([3]) المرجع نفسه - ص509

([4]) المرجع نفسه - ص511

([5]) د. فؤاد زكريا - نوابغ الفكر الغربي "نيتشه" – الطبعة الثانية – دار المعارف -  1966 – ص47

([6]) المرجع نفسه - ص 44

([7]) هاشم صالح – عندما يرثي نيتشه نفسه – موقع: الأوان – 8 ديسمبر 2013.

([8]) المرجع نفسه

([9]) المرجع نفسه

([10]) يوسف حسين – محاضرة في اليوتيوب – الانترنت.

([11]) المرجع نفسه.

([12]) نيتشه هو الذي عرف العدمية على أنها "الحال التي يغدو فيها كل شيء مباحاً.

([13]) غنارسكيربك و نلز غيلجي- مرجع سبق ذكره – تاريخ الفكر الغربي  - ص  733

([14])Procrustes  : كان لصاً يونانياً يمط أرجل ضحاياه أو يقطعها ليجعل طولهم منسجماً مع سريره. ومغزى التشبيه هو إحداث التناسب أو التجانس بوسائل عنفية أو اعتباطية من دون أي اعتبار للفروق الفردية والظروف الخاصة.

([15]) غنارسكيربك و نلز غيلجي–  مرجع سبق ذكره - تاريخ الفكر الغربي - ص  746

([16]) المرجع نفسه - ص  747

([17]) المرجع نفسه -  748-749

([18]) يوسف حسين – مرجع سبق ذكره .

([19]) ول ديورانت – مرجع سبق ذكره – قصة الفلسفة - ص519

([20]) المرجع نفسه - ص520

([21])المرجع نفسه - ص522

([22])المرجع نفسه - ص523

([23])المرجع نفسه - ص524