كأن ما يجري في الدول العربية منذ بدايات "الربيع العربي" وصولا الى المشهد الراهن من حروب داخلية طائفية وغزوات خارجية، ومن فوضى وتخريب، وتفكيك وانهيار للأمن ال قطر ي والقومي العربي على حد سواء، انما يلبي مخططات ورغبات صهيونية قديمة كامنة، وكأن ما يجري للأمة العربية في هذا الزمن، وبعد ثلاثة وسبعين عاما من النكبة المفتوحة واغتصاب فلسطين، واربعة وخمسين عاما على هزيمة حزيران، من غياب وتغييب وفقدان للبوصلة والدور والوزن على المستوى الإقليمي والدولي، انما يخدم تلك الاجندة الصهيونية، فما الذي بحثت عنه وأرادته الصهيونية منذ نشأتها، سوى هذا المشهد العربي المتفكك والضعيف والمجرد من عناصر القوة الاستراتيجية، لصالح الامن القومي الاسرائيلي...؟!
فمنذ أن كان مشروع "الوطن القومي لليهود في فلسطين" فكرة في رؤوس أقطاب الحركة الصهيونية والغرب الاستعماري، خططوا وأعدوا العدة لتهيئة المناخات المحلية والإقليمية والدولية لولادة غير طبيعية لذلك المولود الصهيوني، وكان ذلك يستلزم منهم في مقدمة ما يستلزم، العمل من اجل حياة وبقاء ذلك المولود، وذلك ما كان عبر عنه جنرالهم الأسبق موشيه ديان، في لقاء مع مجلة بمحنيه الناطقة بلسان الجيش الإسرائيلي قائلا: "اننا/اي إسرائيل/ قلب مزروع في هذه المنطقة، غير أن الأعضاء الأخرى /العرب/ هناك ترفض قبول هذا القلب المزروع، ولذلك لا خيار أمامنا سوى حقن هذا القلب بالمزيد والمزيد من الحقن المنشطة، من اجل التغلب على هذا الرفض"، مؤكدا: "الأمر بالنسبة لنا حتمية حياتية-انتهى الاقتباس-"، وكي يعيش هذا القلب المزروع لأطول فترة من الزمن في هذا المحيط الرافض، طور قادتهم ومنظروهم ما يمكن أن نطلق عليه نظريات ومرتكزات الأمن القومي الاسرائيلي، التي تقوم بالأساس ليس فقط على تطوير القدرات العسكرية الاسرائيلية، وإنما ايضا على تنظيف المنطقة من عناصر القوة العربية المهددة للوجود الصهيوني، ومن ضمن اهم واخطر الآليات المعتمدة وبتدخل وابتزاز امريكي لتحقيق ذلك هو التحول الجذري في مواقف وسياسات الانظمة العربية من مواقف وسياسات رافضة لوجود "اسرائيل" الى مواقف وسياسات تقبل بها وتطبع معها، وهناك في الكيان يطلقون على هذا التحول: تحول في البيئة الاستراتيجية العربية من بيئة معادية الى بيئة صديقة...!
وفي هذا السياق يتحدثون هناك في جيش الاحتلال عن "تعاظُم العمليات الإدراكية كمكمّلٍ للعمليات القتالية"، وفي المؤسسات السياسية والثقافية والاعلامية يعتبرون ان جبهة التطبيع مع العرب هي الجدار الاخير امامهم، ولذلك تخوض "اسرائيل" حربا اعلامية وثقافية شرسة متواصلة ضد الوعي الفلسطيني والعربي، وتوظف كل لوبياتها وعلاقاتها من اجل التأثير على الانظمة والمؤسسات العربية المختلفة لاجبارهم أو جرهم الى التطبيع الشامل مع "اسرائيل"، وقد حققت اختراقات كبيرة على هذا الصعيد، ولذلك ايضا واصلت وتواصل لعبتها في المماطلة والتأجيل والتجزيء والتهميش لكافة عناوين الصراع واصرت وتصر على نحو حصري على ربط قصة المفاوضات والتسوية والدولة الفلسطينية بعملية التطبيع الشامل ما بينها وبين العالم العربي، اي ان تكون التسوية اقليمية أولا بأن يطبع العالم العربي كله معها، وبعد ذلك يجري تسوية القضية الفلسطينية، والاقليمية هنا تعني ان يفتح العرب ابواب التطبيع الشامل على مصاريعها قبل تسوية القضية الفلسطينية، فها هم اقطاب "اسرائيل" من بيريز الى باراك وشارون واولمرت وليفني ثم الى نتنياهو، واصلوا لاءاتهم واشتراطاتهم المتعلقة بالتطبيع، بحيث تستكمل "اسرائيل" على ما يبدو تطبيع العرب وتدجينهم على نحو يسبق التسوية (التي لن تحدث ابدا برأيي) مع الفلسطينيين، التي بات واضحا انها لن تتمخض عن شيء حقيقي للفلسطينيين والعرب، فالاحتلال مستمر والاستيطان يتغول ويتوسع كالسرطان، والاجتياحات والاغتيالات والحملات الحربية لا تتوقف ابدا، ناهيكم عن الحصارات والاطواق والحواجز والجدران.
والواضح اليوم وبعد نحو عشر سنوات على "الربيع العربي" النكبوي نتابع التحول الاستراتيجي في البيئة العربية من زاوية وجبهة التطبيع، وفي هذا السياق ايضا، وفي ضوء انضمام المغرب الرسمي لقافلة التطبيع مع الكيان الصهيوني، وتوقعات انضمام المزيد من المتهافتين العرب على التطبيع، نعود لدراما التهافت التطبيعي العربي مرة ثانية وثالثة ورابعة، لاننا امام انهيار للجدران العربية الرسمية لصالح أمن وبقاء وسياسات "اسرائيل"..! وامام تهافت تطبيعي عربي رسمي لم يخطر ببال آبائنا وأجدادنا ابدا... ولعلنا نطرح تساؤلنا الكبير هنا: هل نجحت الصهيونية ومن ورائها الادارة الامريكية بزرع فيروساتها التطبيعية في الجسم الرسمي العربي؟! ام ان هذه الفيروسات مزروعة منذ زمن طويل وحان وقت إعلانها -قطافها-؟!
وقبل الدخول في جدلية التطبيع العربي، دعونا نسجل اولا ان الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة على مدى العقود الماضية كانت تطالب وتصر على التطبيع العربي الكامل قبل ان تقدم شيئا للفلسطينيين، وقبل اي تسوية سياسية، كما ان الادارات الامريكية طالبت العرب على مدى السنوات الماضية ب”التطبيع اولا مع إسرائيل-وفقا للشروط الاسرائيلية”، فمن الرئيس كارتر الى كلينتون الى جورج بوش الاب الى بوش الابن، فالرئيس الأمريكي أوباما الذي تعهد لنتنياهو بالدفع بـ”مبادرة سلام” جديدة تتضمن دفع دول عربية للبدء بالتطبيع مع إسرائيل فورا، وتطبيق المرحلة الأولى من خارطة الطريق، علاوة على تعهده بعدم السماح ل إيران بحيازة أسلحة نووية"، واخيرا وليس آخرا جاءنا الرئيس ترامب بصفقته القرنية التصفوية ليطالب العرب بالتطبيع الشامل أولا مع "اسرائيل"، وقد حقق نجاحات كبيرة لم تخطر في بال أحد من "الفئران في جحورهم" في يوم من الايام، حيث خرج هؤلاء الفئران من جحورهم الى العلن بمنتهى الوقاحة الخيانية؟!
واسرائيليا- وكما نتابع ونعرف، فان هناك اجماعا حزبيا سياسيا امنيا اسرائيليا على ان يقوم العرب بالتطبيع مع “اسرائيل” قبل اي خطوة اسرائيلية... وها ان العرب يلبون الشروط الاسرائيلية منبطحين على نحو مخجل جد...! ونقول لوكان هذا التهافت التطبيعي العربي مع الكيان جاء وفقا –مثلا- للمبادرة العربية (وانا شخصيا اسجل بانني ضد المبادرة واي مبادرة تصفوية طرحت او ستطرح)، اي بعد ان تلتزم "اسرائيل" ب"إقامة الدولة الفلسطينية " و"الانسحاب من الاراضي المحتلة"، وحل "قضية اللاجئين وحق العودة"، واعتبار " القدس عاصمة للدولة الفلسطينية العتيدة"، لقلنا هي المبادرة هكذا "تطبيع مقابل دولة عاصمتها القدس"، ولكن هذا الذي يجري في هذه الايام انما هو تطبيع عربي انهزامي مرعب امام الكيان. وجاء الرئيس ترامب ليتجاوز كافة الخطوط الحمراء المتعلقة بالقضية الفلسطينية التي التزم بها رؤساء الولايات المتحدة في المراحل السابقة، ليحطم كل الأواني-عبر الوكلاء العرب الاعراب- وليعترف بالقدس الموحدة عاصمة ل"اسرائيل"، وبالجولان تحت السيادة الاسرائيلية، وليأتي لنا بصفقة القرن التي تلغي تماما كافة المطالب والحقوق الوطنية الفلسطينية، وتمنح الكيان حرية اتخاذ القرارات السيادية على كامل الضفة الغربية، وهكذا...!
والواضح تماما ان الإدارتين الأمريكية والاسرائيلية لا تعملان في هذه المرحلة من اجل تفكيك المقاطعة الاقتصادية العربية فقط، وإنما من اجل تحقيق التطبيع العربي بكافة أشكاله الثقافية والإعلامية والاجتماعية والتعليمية والسياسية.. الخ؛ فبالنسبة لهما فإن التطبيع يعني إقامة وإحلال علاقات طبيعية بين الأمة العربية واسرائيل كبديل للصراع الاستراتيجي، ومن هنا فإن الاصرار على التطبيع يحمل معنى القسر والإكراه والابتزاز لفرض نمط علاقة غير طبيعية، وبالتالي فإذا كان التطبيع يعني انتقالاً نوعياً لنمط العلاقة بين الطرفين المتصارعين، فإن النمط الجديد للعلاقة المطلوبة مع اسرائيل بالضرورة يخضع لموازين القوى القائمة، أما أشكال ومضامين التطبيع المطلوبة فهي -كما كنا كتبنا واشرنا في مقالات سابقة:
1- التطبيع السياسي والاعتراف الدبلوماسي والقانوني من قبل جميع الدول العربية.
2-التطبيع الاقتصادي – أي إنهاء المقاطعة الاقتصادية تماماً وبناء علاقات اقتصادية في مختلف المجالات: زراعة - صناعة - خبرات - أيدي عاملة – استثمارات..
3-التطبيع السيكولوجي- النفسي، أي تطبيع وجود "إسرائيل" والقبول بها عربياً رسمياً وشعبياً والتعايش معها بوصفها دولة طبيعية مشروعة في المنطقة.
4-التطبيع الثقافي والفني، وهذا يعني إلغاء منظومة كاملة من المعتقدات والأفكار والمفاهيم التي نشأت عليها أجيال وأجيال فلسطينية وعربية، مع كل ما يتطلبه ذلك من تغيير في المناهج التعليمية والمطبوعات الفكرية والسياسية والثقافية والتاريخية والوسائل والخطابات الإعلامية والأنشطة الفنية.. الخ، وهذا النوع من التطبيع هو الاخطر في الجوهر، وما مسلسلي "ام هارون" و"مخرج-7" الا مثالين في هذا السياق، وربما يكون القادم اعظم واخطر.. ولذلك يمكن القول أن "التطبيع" في المفهوم الأمريكي-الاسرائيلي ليس له علاقة بالتطبيع الإنساني الذي يقوم بين شعب وآخر متحاربين، أو ما بين شعوب متنادة تحتاج إلى مثل هذا التطبيع، وإنما هو تطبيع ابتزازي يستند بوضوح إلى هذا الخلل المفجع في موازين القوى، والى هذه الانهزامية الاستسلامية من قبل بعض العرب، وهو تطبيع ابتزازي يهدف إلى تشريع وجود دولة قامت بصورة غير مشروعة وعبر السطو المسلح على انقاض شعب كان قائماً على امتداد مساحة وطن مشروع له عبر التاريخ، وهو تطبيع ابتزازي يهدف إلى تحقيق جملة من الأهداف الاستراتيجية، مما يؤدي في المحصلة إلى تحقيق وتكريس "أطلس الأحلام والأهداف الاستراتيجية الصهيونية".
مؤسف ان نعترف ان السياسات الامريكية – الاسرائيلية الهجومية في جبهة التطبيع نجحت الى حد مقلق في اختراق هذه الجبهة الاهم والاخطر في المواجهة العربية مع المشروع الصهيوني، كما نجحت على نحو اخطر في بث الفتن والجدالات الداخلية في الاوساط السياسية والاكاديمية والثقافية وغيرها في الدول والمجتمعات العربية، الامر الذي ترك ويترك وراءه حالات من الصراعات والانشغالات الداخلية العربية في الوقت الذي كان يجب ان ينشغل العرب اكثر بالمضامين الحقيقية للصراع وبكيفية التصدي لهذا الهجوم الامريكي – الاسرائيلي الذي يستهدف تفكيك اهم واخطر جبهة مناهضة وممانعة عربية في وجه تطبيع"اسرائيل" في المنطقة...!
وخلاصة القول في المشهد: في ضوء هذا التهافت التطبيعي العربي مع العدو، يمكننا القول بمنتهى الوضوح، ان فيروسات التطبيع العربي كأنها فيروسات صهيونية زرعت في صلب هؤلاء الاعراب، انه تطبيع عربي انهزامي غير طبيعي مع "اسرائيل" في زمن الحروب الاستعمارية الصهيونية - الامريكية المفتوحة على فلسطين والامة بكاملها...!
ونعتقد ان على كل القوى الحية القومية العروبية ان تستيقظ وتستنفر وتوحد جهودها في معركة واحدة رئيسية وهي التصدي لهذا الانفلات التطبيعي العربي الخطير جد، والذي لا يخدم استراتيجيا سوى أمن وبقاء وسياسات الاحتلال الكولونيالية الابتهايدية العنصرية.