نواف الزرو
مرة أخرى وثالثة ورابعة نعود لفتح ملف الاستعمار الاستيطاني الصهيوني المرعب الذي يجتاح الضفة الغربية وينهب الأرض فيها مترًا مترًا، بل وشبرًا شبرًا، ونعتقد أن هذا الملف اليوم هو الأهم والأخطر في المشهد الفلسطيني ويجب أن يبقى مفتوحًا وأن لا يغفل عنه أبدًا، لأن الاستيطان يعني النهب والسلب والتهويد وإقامة حقائق الأمر الواقع، بهدف تخليد الاحتلال والاستيطان حسب مخططهم، وهو التحدي الاستراتيجي الأكبر أمام الفلسطينيين، لذلك قد يتساءل البعض باستغراب: العالم كله منشغل بجائحة الكورونا وتداعياتها الكارثية على كل الأمم والشعوب، وأنت منشغل بالمستعمرة الصهيونية (إسرائيل) وسياساتها وإرهابها وجرائمها ضد الشعب الفلسطيني الذي هو أيضًا تحت حصار ومداهمة الكورونا...؟! بينما يقول لي البعض الآخر: ألم تتعب...؟ ألم تمل من الكتابة عنها حتى في ظل هذا القلق والهلع العالمي...؟!
في الرد على هذه التساؤلات وغيرها الكثير أقول: لا لن نكل ولن نمل أبدًا، فهذه بلادنا وأرضنا وقضيتنا وحقوقنا التاريخية، وهذا الصراع معهم صراع وجود وبقاء يحتاج إلى كل الجهود والإمكانيات، وفي مقدمتها الكتابة والفكر والثقافة والإعلام.
وفي هذا السياق الاستعماري الاستيطاني الصهيوني حدث ولا حرج؛ فنحن في المشهد الفلسطيني الراهن أمام ما يمكن أن نطلق عليه "الحرب الاستيطانية الثالثة- الأولى بدأت عام 1948، والثانية بعد العدوان عام 1967- كما وثقها الكاتب توفيق أبو شومر" التي بدأت طلائعها منذ منتصف شهر ديسمبر 2018، ولكنها في سياق سلسلة متصلة من المعارك الطاحنة الوجودية على أهم موقعين في الضفة الغربية وهما: القدس والخليل، ولكن، وفي الوقت الذي يتسابق فيه بعض الزعماء والوزراء والمدراء وبعض المثقفين والإعلاميين والتجار العرب على التطبيع المجاني مع الاحتلال الصهيوني؛ سارع عدد كبير من أعضاء "الكنيست" والوزراء من حزب "الليكود" وأحزاب يمينية أخرى إلى التوقيع على وثيقة تعهدوا فيها بدعم الاستيطان والعمل على بناء مستوطنات جديدة في الضفة الغربية، ووفقًا لصحيفة "إسرائيل اليوم"، فإن الحديث يدور عن وثيقة بادرت بطرحها حركة "نحلا" الاستيطانية، حيث تهدف إلى جمع تعهدات من وزراء وأعضاء كنيست بالعمل على توطين أكثر من مليونَيْ مستوطن في الضفة الغربية، ومن بين الوزراء والمسؤولين الذين وقعوا على الوثيقة: رئيس الكنيست -المستقيل-"يولي أدلشتاين"، والوزير "يسرائيل كاتس"، والوزير "يريف لفين"، والوزير "زئيف ألكين"، والوزير "جلعاد أردان"، والوزير "أيالت شاكيد"، والوزير "نفتالي بنيت"، والوزيرة "ميري ريغف"، والوزير "أيوب قرا"، والوزير "يوآف غالنت".
وفي ذات السياق، ففي فلسطين الحالة مختلفة عن باقي دول وشعوب العالم، ففي فلسطين يعاني أهلنا بالأساس من "كورونات-جرائم الاحتلال"، والعالم عمليا يقف متفرجًا على هذه "الكورونات" المتفشية على نحو كارثي مزمن، وما سياسات التمييز العنصري الصهيونية الشاملة سوى إحدى تجلياتها، والاحتلال الإسرائيلي في زمن «الكورونا» يضاعف الأعباء والأثقال والتداعيات على الشعب الفلسطيني؛ فالحكاية هناك أصبحت "كورونات" تحتاج إلى جهود وامكانات وطاقات هائلة لتزيلها عن كاهل أهل البلاد، والاحتلال بطبيعة الحال لا يكترث أبدًا بهؤلاء البشر حتى لو تعرضوا إلى جائحات متلاحقة من الكورونات الفتاكة، وحتى لو تعرضوا إلى هجوم كاروني واسع النطاق ومرعب ويهدد بالإبادة الجماعية، بل يمكن القول أن الاحتلال قد يعزز ذلك ويوفر المناخات لذلك؛ فالهدف الكبير الأساسي على أجندته هو "الاقتلاع الشامل لأهل البلاد من جذورهم... وإنهاء حضورهم العربي في فلسطين...!
في أحدث معطيات وتطورات الاستعمار الاستيطاني، قال مسؤول ملف الاستيطان في شمال الضفة غسان دغلس-- السبت 27 فبراير 2021- إنّ كل قرارات المحاكم الدولية صورية حتى اللحظة ولا تطبق على الأرض لذلك تتواصل جرائم المستوطنين. وأضاف، في تصريحات إذاعية لصوت فلسطين إلى "أنّ نحو 730 ألف مستوطن إرهابي يعيشون في المستوطنات يتنافسون في الاعتداء على أبناء شعبنا الفلسطيني". لافتًا إلى أنّ "التحريض على أبناء شعبنا الفلسطيني يزداد يومًا بعد يوم، وكل يوم هناك اعتداءات وجرائم كبيرة"، بينما قال مركز "بتسيلم" الإسرائيلي لحقوق الإنسان: إن عدد المستوطنين بالمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية "وصل إلى 441,619 نسمة-بدون المستعمرين في منطقة القدس المحتلة- وهي زيادة بنسبة 42% مقارنة مع بداية العقد ونسبة 222% مقارنة مع العام 2000-"الأيام 2021-3-10 ". كما جاء في أحدث تقرير فلسطيني عن الاستيطان أعده المكتب الوطني للدفاع عن الأرض ومقاومة الاستيطان التابع لمنظمة التحرير، عن حصيلة ما جرى في الأرض الفلسطينية في العام 2020، بأنه كان الأصعب على الفلسطينيين في ظل تصاعد النشاط الاستيطاني وإرهاب المستوطنين- السبت 02 يناير 2021.
وأشار التقرير إلى أن سلطات الاحتلال صعدت نشاطاتها الاستيطانية في الضفة الغربية المحتلة، بما فيها القدس، في عهد الرئيس الأميركي المنتهية ولايته دونالد ترامب، حيث صادقت في السنوات الثلاث الأولى من فترة رئاسته على بناء ما معدله سبعة آلاف وحدة سكنية سنويًا، أي ما يقرب من ضعف متوسط الوحدات الاستيطانية في السنوات الثلاث التي سبقتها في عهد إدارة الرئيس باراك أوباما، والتي فاقت 3600 وحدة سكنية، بهدف ضم وتهويد أوسع مساحات من الارض الفلسطينية. ولم يكن العام 2020 هو الأسوأ على الفلسطينيين من الناحية السياسية فقط بعد هرولة عدد من الدول العربية نحو التطبيع المجاني مع دولة الاحتلال، وإنما من الناحية الديمغرافية كذلك، فسلطات الاحتلال تخطط لرفع عدد المستوطنين في الضفة الغربية ليصل إلى نحو مليون مستوطن، ورفعت من وتيرة الاستيطان في الضفة الغربية خلال العام الماضي، لتصل إلى أعلى المستويات منذ عشرين عامًا.
وبدأت بسن القوانين بالقراءات التمهيدية في الكنيست لشرعنة عشرات البؤر الاستيطانية وصادقت على بناء نحو 6500 وحدة استيطانية، هذا في الوقت الذي قدمت فيه بلدية الاحتلال في القدس مخططًا شاملًا يقضي ببناء 8600 وحدة سكنية وتحديث المنطقة الصناعية "تلبيوت" وبناء مجموعة من الأبراج متعددة الاستعمالات بارتفاع 30 طابقًا، الى جانب فلتان المستوطنين على مفارق الطرق واعتداءاتهم على المواطنين ومركباتهم، ومحاولة إقامة العديد من البؤر الاستيطانية التي تم إحباطها، وهدم أكثر من 1700 بيت ومنشأة فلسطينية في الوقت ذاته. ولعل من أخطر تطورات المشهد الاستيطاني أيضًا في العام 2020، أن مجموعات من شبيبة التلال في الضفة الغربية المحتلة تضم أعدادًا كبيرة من المستوطنين الأشد تطرفًا وإرهابًا، بالإضافة إلى طلاب "اليشيفوت" (المعاهد الدينية اليهودية)، أقاموا غرفة عمليات للتحضير لتنفيذ مخطط الضم، قاموا من خلالها بتجنيد الناشطين وعقدوا مؤتمرا حول خطواتهم المرتقبة كما أنهم أجروا جولات ميدانية.
كما يواجه الشعب الفلسطيني منذ سنوات تهديدًا حقيقيًا يطلقون عليه هناك في "إسرائيل" "دويلة المستوطنين اليهود في يهودا والسامرة- أي الضفة الغربية-"، إذ بدأ هؤلاء يهددون بالانفصال عن دولة "إسرائيل" وإقامة دولتهم الخاصة المستقلة، وذلك حسب زعمهم ردًّا على أي محاولة من الحكومة الإسرائيلية للانسحاب من الضفة في إطار التسوية الدائمة للصراع الإسرائيلي الفلسطيني. فقد كان المستعمرون المستوطنون أعلنوا في منشور حمل عنوان "إسرائيل أرضنا" عن "مسابقة لوضع نشيد قومي واختيار علم آخر لدولتهم، وسيمنح الفائز بأحسن تصميم للعلم والنشيد بجائزة نقدية"، وجاء الإعلان عن هذا المخطط في مقال في صحيفة يديعوت أحرنوت/كتبه الراباي شالوم دوف وولفا رئيس "الطاقم العالمي لإنقاذ الشعب اليهودي" وهي المنظمة التي شكلت خصيصًا لذلك، تحت عنوان "الزلزال المقبل"، وقال الحاخام شالوم دوف في بيان له "بعد موافقة إسرائيل على إقامة دولة فلسطينية واقتراح قانون لتعويض المستوطنين تمهيدًا لإخلائهم: ف"إن الحل هو إعلان دولة- أو مستعمرة يهودية أخرى- ذات حكم ذاتي في إطار المستعمرة الكبرى-اسرائيل-".
وعن هذه الدولة كتب يهودا باور- في هآرتس "إن إسرائيل لا تسيطر على بضع مئات الآلاف من المستوطنين اليهود هناك، فهم يقبلون الحكم الإسرائيلي فقط إذا كان يصب في مصلحتهم، أما عندما لا يحدث ذلك وفقًا لتصورهم، فهم يتجاهلونه في أحسن الأحوال وينجحون في مقاومتهم له في اسوأ الاحوال"، ويضيف: "الشرطة والسلطات الأمنية والجيش يخضعون لتهديد المقاومة النشطة المتواصل من قبل المستوطنين، ويخضعون لهذه التهديدات، وأصبح هناك دولتان، الأولى ملتزمة بالقانون الديمقراطي الغربي، والثانية بالحكم الديني المتطرف والخلاصي".
أما الخبير بالشؤون العربية داني روبنشتاين، فقد كتب بدوره في هآرتس-عن دولة المستوطنين يقول: "على خلفية اتفاق السلام مع مصر والانسحاب الإسرائيلي من سيناء أقام نشيط حركة "كاخ"، ميخائيل بن حورين، في الثمانينيات ما سماه هو ورفاقه "دولة يهودا"، وكان قصدهم رمزيًا وهو الإشارة إلى بديل ممكن عن السلطة الإسرائيلية في الضفة الغربية إذا ما انسحبت إسرائيل من المناطق وعندما تفعل ذلك، ولقّب بن حورين نفسه بلقب "رئيس دولة يهودا"، بعد ذلك كان من محرري كتاب "باروخ الرجل"، الذي امتدح القاتل في الحرم الإبراهيمي باروخ غولدشتاين، وكان من أبطال البولسا دينورا ضد اسحق رابين" و "لكن-يضيف روبنشتاين- في العديد من الجوانب أُقيم في الضفة، برعاية حكومات اسرائيل وتشجيعها، كيان سياسي ذو طابع يخصه، أي أنه نشأ فصل حيث توجد دولة إسرائيل على حدة، والضفة أو دولة يهودا على حدة".
ونحن هنا إذ نتحدث عن دولة أو جمهورية المستوطنين اليهود الإرهابية القائمة في أنحاء الأراضي الفلسطينية المحتلة بشكل عام، فإننا لا نبالغ في ذلك أبداً، ذلك أن المستعمرات اليهودية المنتشرة في أنحاء الضفة عبارة عن ترسانات مسلحة أولًا، وعبارة عن مستنبتات أو دفيئات لتفريخ الفكر السياسي والأيديولوجي الإرهابي اليهودي ثانيًا، ودفيئات أيضاً لتشكيل وانطلاق التنظيمات والحركات الإرهابية السرية في نشاطاتها وممارساتها الإرهابية ثالثًا، فضلًا عن كونها قوة ضغط هائلة على قرارات الحكومة الإسرائيلية ونهجها الاستيطاني والتنكيلي ضد الفلسطينيين رابعًا، وذلك رغم الحقيقة الساطعة المتمثلة بالتعاون والتكامل القائم بين الجانبين، فلا تعارض ولا تناقض قطعًا ما بين الدولة الإسرائيلية الرسمية بمؤسساتها وأجهزتها السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية والإدارية والمالية، وسياساتها الاستيطانية، وما بين دولة المستوطنين اليهود المنفلتة في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وعندما نتحدث عن دويلة أو جمهورية- والأصح مستعمرة- المستوطنين اليهود، فإننا نتوقف عند حقيقة الصفات والخصائص الأساسية ومنها العنصرية الفوقية والإرهابية التي ميزت ودمغت الحركة الصهيونية والتنظيمات الصهيونية التاريخية؛ فمشروع الاستعمار الاستيطاني اليهودي ترجمة صارخة للاستراتيجية الصهيونية على الأرض الفلسطينية، ودولة المستعمرين المستوطنين هي نتاج عملي لتلك الترجمة.
وعندما نتحدث عن دولة المستوطنين اليهود، فإننا نتحدث عن...، ونتوقف أمام، مسلسل لا حصر له، من الانتهاكات والممارسات الإرهابية الدموية التنكيلية والتدميرية الجامحة المنطلقة من صميم المستوطنات اليهودية… وكلها تجري بصورة سافرة تحت سمع وبصر وحماية الحكومة والجيش وأجهزة الأمن الإسرائيلية .هكذا هي حقائق المشهد الاستعماري الاستيطاني الصهيوني في الأراضي المحتلة حتى في ظل هذه الجائحة الكورونية العالمية.
والمؤسف هنا: أنهم يعملون هناك في المستعمرة الصهيونية حتى في ظل هذا الوباء العالمي وعلى مدار الساعة من أجل تحقيق حلمهم باختطاف الأرض والوطن والتاريخ والحقوق وتهويدها؛ هكذا بفعل القوة والارهاب، بينما يهرول بعض العرب لمنحهم الاعتراف والغطاء والشرعية بالتطبيع معهم...!