حسم المشروعُ الديني القومي الصهيوني وأنصاره ومريدوه في أحزاب اليمين الإسرائيلي الخيار، وجعلوا من مشروعِ "الدولة القومية اليهودية" في كل فلسطين، مشروعَهم الحيوي سياسياً وأيديولوجياً، والذي لا يجد له منافساً جدياً ضمن الفكر الصهيوني الاستيطاني، كما يحتل مؤيدوه أمكنةً متقدمةً ليس في الكنيست والحكومة فحسب، بل في المؤسسات الإسرائيلية المهمة الأخرى مثل "العسكر، القضاء، الإعلام، الثقافة، التربية والتعليم"، ولأن استمرارَ الاستيطان وتكثيفَه في فلسطين كلها، وخصوصاً في الضفة و القدس ، يتطلبان القوة الخشنة والمكشوفة، فإن الوجهَ الآخر للمشروع الصهيوني – السقوط الأخلاقي – بدأ بالانكشاف.
المستغرب هنا أن النقاش الساخن بشأن مستقبل فلسطين وشعبها يجري داخل المجتمع الإسرائيلي، دون الأخذ بالحسبان بوجهة النظر الفلسطينية، والمثير أيضاً أن إسقاطات هذه التحولات ومدلولاتها على المستقبل الفلسطيني، تغيب في الغالب عن جوهر النقاش الذي يركز على ماذا سيحدث "للديمقراطية والمجتمع الإسرائيليين"؟، فمثلاً تعالت مؤخراً أصواتٌ كثيرةٌ من "اليسار والوسط الصهيوني"، تعبّر عن يأس بعض الإسرائيليين وتشكيكهم بمستقبل "إسرائيل والصهيونية"، وتم تأطيرُ هذا التشكيك بمستقبل المشروع الصهيوني عبر طرح التخوف من واقعٍ ثنائيِ القومية، ومن واقع الاحتلال والاستيطان الذي يبدو لهؤلاء المشككين أنه لا عودة عنه، ومن خلال استعمال مصطلحاتٍ مثل "الدمار الداخلي للدولة اليهودية" باستحضار مجازاتٍ دينيةٍ مثل "تدمير الهيكل الثالث".. ومما يعمق هذا اليأسَ، أنه لا يوجد أيُ حجةٍ مقنعة يقدمها أصحابُ المشروع القومي الديني في مواجهة الواقع ثنائي القومية، الناتج عن الاحتلال الناتج عن سياسة التمييز العنصري.
يعتقد كثيرون ممن اقتنعوا بأن مشروع التقسيم إلى "دولتين" قد وصل إلى نهايته، وبالتالي يصبح البديل عن "حل الدولتين" هو حل الدولة الديمقراطية العلمانية الواحدة، وأن هذا الحل سيمر بدايةً بـ "دولة أبارتهايد انتقالية" لمدةٍ زمنيةٍ تحث الفلسطينيين واليهود المناهضين للصهيونية على مقاومتها وتحويلها إلى دولة ديمقراطية علمانية واحدة.
مصير فلسطين في المشروع الصهيوني
كان النقاش دائماً بشأن مستقبل فلسطين والفلسطينيين ولا يزال في "إسرائيل" نقاشاً داخلياً لا مكان فيه لوجهة نظر الفلسطيني، وقد وسم هذا التوجهُ المشروعَ الصهيونيَ منذ بداياته الأولى، ولم يتغير جوهرياً إلى الآن، واتخذ النقاش الإسرائيلي الداخلي منحىً مهماً، فمستقبل الفلسطينيين في المشروع القومي الديني اليميني، يتراوح بين ثلاثة احتمالات تظهر جميعها التزاماً إسرائيلياً داخلياً بضرورة فرض السيطرة والهيمنة على كامل الأراضي الفلسطينية الواقعة بين النهر والبحر، في الوقت الذي يجري التخلصُ من أصحاب الوطن الأصليين للاستيلاء عليه كاملاً، وهذه الاحتمالات هي:
- الأول: اختلاق ظروف حربٍ متلازمةٍ مع الظروف الدولية والإقليمية الحالية، وتقود إلى طردٍ سكانيٍ وتطهيرٍ عرقي - ولو جزئي - يسهل عملية استيعاب الضفة الغربية في الدولة الصهيونية.
- الثاني: ويحظى بتأييد قوى اليمين المتشدد مثل "نتنياهو وليبرمان وبينت"، ويدعم ضماً كاملاً للضفة الغربية مع إعطاء الفلسطينيين حقوقاً مدنيةً فردية – مثل فلسطينيي الداخل – لكن ليس حقوقاً قومية أو حقوقاً سياسية في دولةٍ لكل مواطنيها.
- الثالث: الذي نسير نحوه هو تقسيمٌ جديدٌ لفلسطين بين دولةٍ يهوديةٍ و "كيانٍ" فلسطينيٍ مشوّه، يمثّل صيغة القرن الواحد والعشرين للبانتوستان الأسود في جنوب إفريقيا سابقاً، أو محمية أصحاب الأرض الأصليين في شمال أمريكا، وهذه الصيغة قد تكون على شكل "أقل من دولة" كما سماها نتنياهو عند تراجعه عن "حل الدولتين".
المأزق الإسرائيلي الاستراتيجي
يبدو أن التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي دخلت على المجتمع الإسرائيلي في العقدين الأخيرين بما فيه نمو طبقة وسطى وازنة، وترافقها مع تحولاتٍ في المجتمع نحو التدين الأصولي والتعصب القومي، ساهمت بتبلور تيارين:
- الأول: يتبنى الانتماء الديني الأصولي، وهو اتجاه يسعى إلى تحويل "إسرائيل" إلى دولةٍ يهوديةٍ أصوليةٍ تسيرها الشريعةُ التوراتية، وتستثني حقوقَ المواطنة مَن هو غير يهودي.
- الثاني: يتمسك بالعلمانية الشكلانية كسمةٍ محددةٍ لهوية الدولة، دون المساس بالبنى المؤسسة لعدم المساواة البنيوي – الطبقية والإثنية والقومية -.
ولا يجد الاتجاهان والتكتلان الأكبر "غضاضة" في التعامل مع الشعب الفلسطيني بمنطق استعلائي كولونيالي عنصري، فكلا التكتلين يحرص على تهميش الحقوق الوطنية الفلسطينية المشروعة، وتحييد تأثيراتها على المجتمع الإسرائيلي، وهو ما هدف لتكريسه "قانون القومية اليهودي"، كما يجد كلا التيارين ما يسنده راهناً، في التحولات الجارية على الصعيدين، بداية الدولي - تزايد الاتجاهات الشعبوية والقومية اليمينية - وتالياً العربي - هرولة عددٍ من الدول العربية نحو التطبيع مع العدو الإسرائيلي - طلباً لرضى داعمها الأمريكي.
إن التعبيراتِ التنظيمية للتكوينات السياسية الهوياتية الأفقية في "إسرائيل" المترافقة مع ازدياد الفجوة بين الاتجاه المتدين الأصولي، والعلماني المحافظ، واتساع حدة التناقضات الطبقية في المجتمع تشكّل أحد مكونات المأزق الإسرائيلي، صحيح أنه ينبغي عدم المبالغة في تأثير هذا الواقع على رسم توجهات النخبة الإسرائيلية، لكن من غير الحكمة تجاهله برسم الاستراتيجية السياسية الفلسطينية تجاه المجتمع الإسرائيلي، الذي تهيمن عليه أيديولجيا شمولية استثنائية، ينبغي تحديدُ اتجاه الفعل الوطني الفلسطيني السياسي والثقافي، وهو فهم ينطلق من إدراك أن السياسة الكولونيالية الاستيطانية، التي اعتمدتها الحركةُ الصهيونية منذ أكثر من قرن، وواصلتها بعد نكبة عام 1948، واستمرت في تبنيها منذ هزيمة حزيران ،1967 وتمسكت بها بعد اتفاق أوسلو عام 1993، غير أنها فشلت بتحقيق هدفها المتمثل بتطهير أرض فلسطين من أصحابها الأصليين، واليوم، وبعد انقضاء أكثر من عشرة عقود على هذا المشروع الكولونيالي الاستيطاني، لا يزال ما لا يقل عن نصف الشعب الفلسطيني يقيم على أرض وطنه التاريخية، كما أن عددَ الفلسطينيين لا يقل عن عددِ اليهود فوق هذه الأرض.
لقد فشلت الحركةُ الصهيونيةُ في المهمة التي أنجزها الاستيطانُ في "أمريكا وكندا وأستراليا"، ونحن في هذا السياق، بحاجةٍ إلى التمعن في دلالات إخفاق المشروع الصهيوني بتصفية وجود الشعب الفلسطيني فوق أرض وطنه، وفشله بإخماد حيوية الوطنية الفلسطينية لدى جميع مكونات الشعب داخل فلسطين التاريخية وخارجها، وينبغي التمعنُ أيضاً في حقيقة أن مأزق الحركة السياسية الفلسطينية المركّب، وتفكك نظامها السياسي الوطني إلى مكوناتٍ محليةٍوجهويةٍ بعد تهميش واختفاء مؤسساتها الوطنية الجامعة، لم يفقد الوطنية الفلسطينية حيويتها، ولم يضعف تمسك الشعب الفلسطيني بروايته التاريخية المتجددة الفصول، وبجغرافيا الشعب وديمغرافيته ونضاله، على الرغم مما دخل على النظام الرسمي العربي - ضمنه الفلسطيني - من تراجعٍ، وملامحَتطبيعيةٍ مع العدو الإسرائيلي، وتبهيتٍ لحقوق شعب فلسطين وتزييفٍ لروايته، غير أن الشعوبَ العربية لم تشارك أنظمةُ حكمها المستبدة والفاسدة هذا التحول، وإنما حافظت على انحيازها إلى قضية الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة، ومناهضتها للصهيونية ولإسرائيل الاستعمارية، وهناك ما يدعم الاعتقاد بأن ثمةَ تحولاتٍ مهمةٍ في الرأي العام العالمي – بما في ذلك الولايات المتحدة وأوربا – لجهة إدراك ما تمثله "إسرائيل" من ممارساتٍ وسياساتٍ عنصريةٍ وفاشية لكل ما هو تحرري وديمقراطي، فضلاً عن دعمها لكل ما هو رجعي ويميني متخلف في العالم.
توجهات الفعل الوطني الفلسطيني
إن إدراكنا لكل تلك التحولات أمرٌ ضروريٌ لمنع تحويل القضية الوطنية والحقوق السياسية المشروعة إلى تفاصيل جزئية، فهو ضروري كي لا نقع في شباكِ الرأسمالية المتوحشة، التي تختزل المجتمعات البشرية إلى مجرد أفرادٍ وسوق – سلع وتجارة – يحركها دافعُ الربح الخاص أولاً وآخراً، الأمر الذي ينبغي أن يوجهَ الفعلَ الفلسطيني إزاء النظام السياسي الإسرائيلي الداخلي ومؤسساته، والسعي لإرهاقه بالتدريج على المدى المتوسط والطويل، وتقويض الهيمنة الصهيونية عليه، إضافةً لتنمية التناقضات داخله، وتوسيع دائرة التأييد للحقوق الفلسطينية وفي المقدمة " حق تقرير المصير وحق العودة والاستقلال الناجز".
ولعل المهمةَ المفصليةَ الأولى هي توحيد الحركة الوطنية الفلسطينية عبر بناء مؤسساتٍ وطنيةٍ جامعةٍ على أسسٍ ديمقراطية، تنسحب على المستويات السياسية والتشريعية والثقافية والمهنية والقطاعية من أجل تمثيل مصالح وحقوق الكل الفلسطيني.
إن تفككَ الحركةِ الوطنية إلى حركاتٍ محليةٍ وجهويةٍ وفئوية، كان ومازال محركُ الدعوة إلى صياغة مشروعٍ وطنيٍ جامعٍ للكل الفلسطيني، مشروعٍ لا يستثني خططاً تصون حقوقَ ومصالح كلِ مكونٍ وتجمعٍ في سياقٍ منسجم مع حقوق ومصالح الكل الفلسطيني، ومن واجب المشروع السياسي الوطني الجامع – بغض النظر عما يستشري من ممارساتٍ صهيونيةٍ فاشيةٍ وعنصرية تجاه شعبنا – أن يناقشَ رؤيتَه إلى مستقبل اليهود المتحررين من الصهيونية، وأن يطرحَ حلاً يناقضُ ما يطرحه المشروعُ الصهيونيُ الاستيطاني من مبادئَ ورؤيةٍ للمستقبل، وهنا ينبغي مناقشةُ مستقبل العلاقة بين الفلسطينيين واليهود المناهضين للصهيونية، بما في ذلك الرؤية إلى دولةٍ ديمقراطيةٍ علمانيةٍ واحدة، تعيد توحيدَ أرضِ فلسطين التاريخية، وتتصدى للظلم التاريخي الذي ألحقته الحركةُ الصهيونية والقوى الداعمة لها بالشعب الفلسطيني، والأذى الذي سببته للأمة العربية وشعوبها.
لا يمكن للمشروع الوطني الفلسطيني أن يتجاهلَ الواقعَ الذي تشكّلَ على أرض فلسطين التاريخية جراء المواجهة الضاربة مع جيش الاحتلال وقطعان مستوطنيه، ومع سياسات التطهير العرقي، وهو واقع يشتمل على سمتين بارزتين يصعب تجاهلهما:
- الأولى: ليس هناك للأغلبية من اليهود – مثلما كان للفرنسيين في الجزائر – بلد أم يعودون إليها، إذ أن معظم هؤلاء باتوا يحملون هويةً إسرائيلية.
- الثانية: إخفاق المشروع الصهيوني بإفراغ فلسطين من شعبها الأصلي، بالرغم من العقود المديدة واستخدام المشروع الصهيوني أشكال متعددة من العنف والإرهاب والتهويد والأسرلة وقضم الأراضي، لدفع الشعب الفلسطيني للاستسلام والتخلي عن حقوقه الوطنية القومية المشروعة.
من المفيد التشديد على أن طرحَ مشروعٍ وطنيٍ جديدٍ طويل الأمد – الدولة الديمقراطية الواحدة – لا يعني التوقف عن مواصلةِ المقاومة والكفاح والنضال بأشكاله المتعددة الملائمة، التي تخدم الهدف وطنياً وإقليمياً ودولياً، بل ينبغي التشديدُ على ضرورة هذا النضال ووضوح هدفه، مع العمل الحثيث على كشف جميع أشكال التزوير والتزييف والطمس للرواية الفلسطينية الحقيقية.
إنها مرحلةٌ ستندثر على أرضِ التاريخ الفلسطيني المعاصر، ولن يسمحَ شعبُ فلسطين بأن يتحولَ إلى "هنود حمر"، أو مجموعاتٍمتشظيةٍ افتراضيةٍ لا وجود لها، فلسطين لن تتفكك حروفُ اسمِها المجبولِ بالتضحيات، فهناك دائماً من سيأتي ليقرعَ "جدران الخزان" ويلتقط الاسمَ من ركامِ الهزيمةِ، معلناً أن "سيدةَ الأرضِ" لا تغادرُ جذورَها..!