"إن ما في السجن جسمك.. ليس ما في السجن روحك..
فاحفظ القلب سليمًا.. تنجز الأمر العظيما"
(هوشي منة)
العزل؛ تلك السياسة الممنهجة التي تلجأ إليها إدارة مصلحة السجون ومخابرات العدو، لتضع الأسير/المعتقل الفلسطيني، في ظروف خاصة واستثنائية، بهدف خنقه/إعدامه اجتماعيًا وهزمه وإذلاله نفسيًا وانهاكه والتهامه جسديًا، فهي سياسة انتقامية/ثأرية، رغم أنهم شرعوها في قوانينهم باعتبارها "وقائية"، وليس هناك أصدق ممن عاش تجربة سنوات طويلة متواصلة في العزل الانفرادي -هناك من أمضى ثلاثة عشر سنة- أن يكتبها ويوثقها ويخرجها ليضع أمامنا كم المأساة التي يتعرضون لها في العزل.. لنسأل: أين الوقاية إذن؟!
في كتابه "صدى القيد" الصدار عن دار الفارابي في عام 2017، بفصوله المترابطة والمتكاملة فيما بينها؛ يستعرض الأسير القائد أحمد سعدات الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين؛ سياسة العزل الانفرادي، باعتبارها أحد أشد أساليب التعذيب قسوة التي مورست بحق الأسرى، والتي من خلالها تجاوزت "إسرائيل" كل الأعراف والقوانين والاتفاقيات الدولية التي تحرم التعذيب وانتهاك حقوق الإنسان، وتعتبر ممارستها جريمة حرب يعاقب عليها القانون الدولي، وإذ حاول "الكتاب" بمجمل التفاصيل التي حملها عن هذه السياسة/العقاب؛ الكشف عن أوجهها وأبعادها، حيث يقول "سعدات" في مقدمته: "مع أن سياسة العزل الانفرادي استهدفت المئات من بين مئات الآلاف من الأسرى الذين دخلوا السجون والمعتقلات الإسرائيلية؛ غير أن هذه الدراسة لا تستطيع أن تغطي كل حقائقها ووضع أمورها في نصابها الدقيق، وقد تتاح هذه الفرصة حين تجتمع روايات كل من خضعوا لهذه السياسة، من خلال سرد تفاصيل يومياتهم لتغطية أشمل وأكمل لهذه المعاناة".
وفي عرضه للإطار التاريخي العام لسياسة العزل، يظهر أن التأريخ كما المعلومات المتوفر/ة بين أيدي "سعدات" واستطاع أن يدرجه/ها بعضها في كتابه، هو/ي بعد عام 1967، أي بعد أن استكملت "إسرائيل" احتلالها لكل فلسطين، حيث بدأت الحركة الوطنية الأسيرة بالتشكل وأصبحت امتدادًا لوجود الأسرى الذين سبقوا هذا التاريخ، وكانت السجون التي خلفتها السلطات الأردنية والمصرية في الضفة والقطاع ممتلئة؛ فضلًا عن مراكز الاعتقال التي خلفها الانتداب البريطاني في الجزء المحتل من فلسطين عام 1948.
لقد امتلأت السجون بعد أشهر قليلة من الاحتلال الجديد، وفي سياق سياستها استندت إلى قوانين الطوارئ البريطانية التي تجيز لها اعتقال كل من تشتم رائحة انتمائه إلى المقاومة أو له علاقة بالأحزاب السياسية مهما كان شكل ومقدار هذه المقاومة، سواء توافرت ضده بيانات تمكّنها من تقديمه للمحاكمة أو لا، فإن لم تتوفر ضده الأدلة؛ فسياسة الاعتقال الإداري التي تستند إلى نظام الطوارئ البريطاني تنتظره بدون أدنى تأخير.
ولم يكن هناك أي معايير قانونية؛ فقد يمكث المشتبه فيه أشهرًا طويلة في زنازين التحقيق دون تمتعه بحق زيارة ذويه أو محاميه أو حتى الصليب الأحمر، وغالبًا ما كان يمثل المعتقلون أمام المحاكم دون تمثيل قانوني، ولا تتوفر فيها أدنى الشروط القانونية التي تضمن حق المعتقل، ومع اتساع نطاق المقاومة وتبلورها ازداد بشكل تصاعدي عدد المعتقلين الفلسطينيين والعرب في سجون الاحتلال. وفي سياق تعذيبهم وقهرهم وإذلالهم وانتزاع الاعترافات بالقوة منهم؛ لجأت "إسرائيل" إلى سياسة العزل الانفرادي، على مدى أشهر طويلة بغية استمرار التحقيق مع المعتقلين؛ فاستخدمت مراكز متعددة منها أقسام الشرطة داخل "الخط الأخضر"، أو أقسام المخابرات فيما تسمى بالمقاطعات والمراكز العسكرية الأردنية أو المصرية التي تم احتلالها، إضافة إلى استخدام بعض السجون العسكرية للتحقيق مع من اعتبرتهم حالات خطرة بين أفراد المقاومة وخصوصًا أسرى الدوريات، وهم الذين اجتازوا الحدود الأردنية أو المصرية أو اللبنانية أو السورية.
ومع اتساع نطاق الحركة الأسيرة اتخذت إدارة مصلحة السجون أشكالًا عدة للعزل الجماعي؛ حسب ملف القضية والحكم الصادر بحق الأسير/المعتقل، وأحيانًا كانت تلجأ إلى عزل بعض قيادات الحركة الأسيرة، بعد كل إضراب مطلبي يخوضه المعتقلون، في زنازين سجن الرملة المجهزة لهذا الغرض أو في أحد السجون التي يحتجز فيها الأسرى الجنائيين، حيث تم تطبيق سياسة إجراءات العزل الانفرادي تدريجيًا، وُربط بتشريع قانوني يحدد مدة العزل بثلاثة شهور تُجدد تلقائيًا، ومعروف أن العزل لا يتيح للأسرى الخاضعين له التواصل مع بقية مكونات الحركة الأسيرة؛ سواء داخل ذات السجن المعزول فيه أو السجون الأخرى.
ماذا تعني حالة العزل؟
قد يتساءل البعض: ماذا تعني حالة العزل؟ والتي يعرفها "سعدات": بأنها وضع الأسير في حيز مكاني يتميز بالضيق الفيزيائي، خالٍ من أي مظهر من مظاهر الحياة المختلفة وجعلها في حدودها الدنيا أو دون ذلك، وعلى الأخص منها مظاهر الحياة الاجتماعية والإنسانية، لإبقاء الأسير في حالة حصار وانحباس دائمين بتضييق المساحات الفيزيائية والإنسانية إلى أدنى درجاتها؛ من خلال احتجاز الأسير منفردًا أو بصحبة أسير آخر في زنزانة معتمة وضيقة لا تزيد مساحتها على 2.5×1.5 مترًا، وهي على أية حال زنازين قذرة ومتسخة؛ تنبعث من جدرانها الرطوبة والعفونة على الدوام وفيها حمام أرضي قديم تخرج من فتحته الجرذان والقوارض ولا تفصله عن بقية الزنزانة أية فواصل تذكر، ويوجد فيها نافذة واحدة، هي أقرب ما تكون إلى خرم في جدار منها إلى شباك مخصص للتهوية، وهي مغطاة بلوح من الصاج السميك لمنع التسلل والهرب والهواء أيضًا، ومضاءة بمصباح كهربائي من الفلورسنت.
ومن المقرر أن يمضي الأسير المعزول شهرًا أو عامًا أو اثنين أو أحد عشر عامًا أو أكثر من عمره في هذا المكان، وتضاف إلى هذه العقوبة الفظة عقوبات أخرى، كحرمان الأسير المعزول من مقابلة بقية الأسرى، وقطع مياه الشرب والاستحمام عنه، وأحيانًا يمنع من زيارة ذويه ومحاميه، أو إرسال واستقبال رسائل من ذويه وإليهم، والحرمان من الكانتينا، وأحيانًا مصادرة مقتنياته وحاجاته من الكتب والأوراق والأجهزة الكهربائية، وحرمانه من الفورة، وفرض عقوبات وغرامات مالية عليه، وضربه بالغاز المسيل للدموع والعصي، واقتحام معزله وتقييد يديه في السرير بواسطة القيود الحديدية.
الغلاف القانوني لتشريع سياسة العزل
يؤكد "سعدات" أن حكومة الاحتلال تجاهلت منذ نشأتها اللجوء إلى القانون في تعاملها بشكل عام مع الأسرى الفلسطينيين، لهذا لا تلتزم بتطبيق اتفاقية مناهضة التعذيب الدولية على الرغم من انضمامها إلى هذه الاتفاقية، ولا بغيرها من الاتفاقات والقوانين الدولية.
وبناء على ذلك، يمكن اعتبار ممارسة سياسة العزل في سجونها انتهاكًا للمادة الخامسة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمادة السابعة من العهد الخاص بالحقوق المدنية والسياسية اللتين حرّمتا ممارسة التعذيب والمعاملة القاسية واللاإنسانية والحاطّة بالكرامة بشكل قطعي، حيث يعتبر انقطاع السجين عن الاتصال بالعالم الخارجي؛ مخالفة للشروط الإنسانية التي تنادي بحق السجين الاتصال بالعالم الخارجي ولا سيما في الاتصال بأسرته.
كما تشكل عقوبة العزل انتهاكًا للقانون الدولي الإنساني، خصوصًا إذا ما نظرنا إلى الظروف التي يتم عزل الأسرى الفلسطينيين بها، وهذا ما نصت عليه المادتان 91 و92 من اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بمعاملة المدنيين في النزاعات المسلحة وحالات الاحتلال، أما المادة رقم 76 من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، فقد منعت بشكل واضح «النقل الفردي أو الجماعي بالإضافة إلى ترحيل الأفراد من الأراضي المحتلة إلى أراضي القوة المحتلة».
ومع اتساع دائرة النقد لسياستها من قبل مؤسسات القانون الدولي، وتلك التي تعنى بحقوق الإنسان محليًا ودوليًا، بما في ذلك مؤسسات حقوقية (إسرائيلية) مثل «بيتسيلم» أو «لجنة مناهضة التعذيب» وغيرها، وما رافق ذلك من فضح لسياسات التعذيب والانتهاكات الخطيرة الأخرى بحق الأسرى؛ أُجبرت حكومات الاحتلال المتعاقبة على سن تشريعات تضبط وتغطي في آن واحد سياساتها القمعية وتجاوزاتها، حيث شرّعت فيها ما سُميَّ «بالضغط النفسي والجسدي المعتدل»، وخص بندًا بصدد التعامل مع الأسرى في لائحة التعامل معهم التي سميت اللائحة القانونية لمصلحة السجون؛ يجيز عزل السجين انفراديًا مدة تحددها الضرورات، لمن ترى أن وجودهم وفق الشروط العادية للاعتقال يشكل خطرًا على أمن «الجمهور والدولة».
وكذلك شرعت "إسرائيل" من خلال سن قانون مصلحة السجون عام 1971 الذي ينص على السماح بعزل الأسير بحجج أمنية، إلى أن أصبح العزل سياسة متبعة في كل السجون الإسرائيلية، وبات بإمكان مدير كل سجن أن يعزل أي أسير لمدد محددة -تطول وتقصر - بدون الرجوع إلى القضاء الذي هو أساسًا قضاءً شكليًا.
وفي عام 2006 جرى تعديل هذا القانون لتتوسع معايير احتجاز المعتقل في العزل، وصلاحيات المخولين؛ فرض عقوبة العزل على الأسرى، بعد ابتداع كلمة السر لذلك (الملف السري) وهو الملف الذي يخطه جهاز المخابرات بما يتوافق مع مآربه، وباتت هذه الكلمة تغطي كل تجاوزات القانون الشكلي ومنها الاعتقال الإداري، والعزل، والإبعاد، ولتصل إلى حد الاغتيال، ووصلت المسألة إلى أن تستخدم كل أقطاب محاكم الاحتلال هذه الكلمة (الملف السري)، بما في ذلك ما يسمى بمحكمة العدل العليا. فبالإضافة إلى عدم قانونية إجراء العزل وتجاوزه بدرجات قصوى لجميع الاتفاقيات التي حرّمت التعذيب، فإنه يعتبر حالة مميتة من التعذيب، وفي حقيقته يتجاوز كل أشكال التعذيب التي تمارس ضد الإنسان من خلال محاولة تنفيذ قرار إعـدامه اجتماعيًا من خلال تقطيع كل الروابط بين الأسير المعزول ومحيطه الاجتماعي الاعتقالي والخارجي، وفي أقلها قهره وإذلاله وتدمير نفسيته ومعنوياته، وصولًا إلى إغراقه في تفاصيل حياته الشخصية وهمومه اليومية؛ المملة والقاتلة، وبالتالي حجب اهتمامه بالأمور العامة والجوهرية المرتبطة بالهم العام الاعتقالي والقضية الوطنية.
أقسام العزل ونماذجها
وعن أقسام العزل ونماذجها التي يتناولها "الكتاب"، فهي تتشابه في سياستها العامة وظروفها الحياتية بعضها مع بعض، وتتفاوت نسبيًا من قسم إلى آخر بظروفها المكانية والزمانية، ويمكن حصر أنواع العزل في ثلاثة أشكال أولها: عزل انفرادي قصير المدى يصل إلى عدة أسابيع؛ ضمن إجراء عقابي يخضع له الأسير نتيجة خطأ ما ارتكبه، من وجهة نظرهم، ويحكم على الأسير بالعزل فترة زمنية محددة، وتكون المحكمة التي اتخذت العقوبة قد تشكلت من إدارة السجن نفسه بدون العودة إلى أي إجراء أو لوائح قانونية. وعزل جماعي يتكون من قسم كامل؛ هدفه الأساسي هو إبعاد قيادات السجون عن بقية الأسرى كما هو في سجن هداريم، وأخيرًا العزل الانفرادي المفتوح، وهو الأقسى والأصعب، حيث يعزل الأسير في زنزانته منفردًا، أو مع أسير آخر في أحسن الظروف، ويمنع من التواصل مع بقية الأسرى مدة غير محدودة قد تصل إلى 13 سنة أو التواصل مع الأهل، حيث يمكن أن تترافق عقوبة العزل بمنع الزيارة عدة سنوات، ويعتبر قسم العزل في أي سجن من السجون من الأسرار الهامة بالنسبة إلى إدارة السجن التي تكون مسؤولة عنه كما هي مسؤولة عن بقية السجن، ولكن قسم العزل يتميز بظروف مستقلة؛ من حيث الطبيعة الهيكلية والمعمارية، وقد يكون مستقلًا في بنائه، وبالتالي يكون معزولًا عن بقية أقسام السجن، ولكن ضمن حدود صلاحيات الإدارة نفسها كعزل سجن أيلون – الرملة، وقد يكون جزءًا من البناء العام للسجن كعزل سجن الشارون.
يتكون كل قسم من أقسام العزل من مجموعة من الحجرات قد تصل إلى 18 حجرة، ورغم الاختلاف الشكلي بينها من حيث المساحة والتهوية، وشبكة الصرف الصحي، إلا أنها متشابهة في المضمون بشكل كلي، حيث أن جميعها بنيت وصممت كي تكون مكانًا لتنفيذ عقوبة العزل وهي متعددة الأسماء والوجود الجغرافي، ومن أقسام العزل هذه: (عسقلان؛ اوهلي كدار؛ إيشل؛ ريمون؛ النقب ونفحة؛ جلبوع؛ الرملة؛ الشارون..). ويعتقد "سعدات" أن يكون قد تشارك في تصميمها مجموعة من المهندسين المعماريين وخبراء الأمن والشرطة وكذلك علماء نفسيون، وأكثر ما ينطبق اعتقاده ذلك، على عزل أيلون – الرملة الذي افتتح في العام 2007.
مقومات صمود الأسرى المعزولين
يذكر "سعدات" في كتابة "صدى القيد" أن هنالك العديد من العوامل المهمة في صمود أسرى العزل؛ أولها: صلابة انتمائهم العقائدي - الأيديولوجي والوطني، وهذا ما كسر أهم أهداف العزل؛ بقطع الارتباط بين المناضل والجماعة؛ فالانتماء إلى القضية الوطنية يجعل الجماعة العضوية بما تمثله من قيم وأهداف حاضرة مع الأسير على الدوام، كما كتب القائد الشيوعي "يوليوس فوتشيك"؛ الانتماء إلى الجماعة كرابطة عضوية ومعنوية، والقناعة بعدالة النضال ورسالة الشعب الإنسانية؛ تشكل حجر الزاوية في تصليب الإرادات والعزائم وتعزيز مقومات قهر أدوات القمع الصهيونية بأساليبها وبرامجها المتنوعة. وثانيها: الاستناد إلى مجتمع اعتقالي تسوده قيم التضامن والألفة والمحبة، وقد تشكل هذا المجتمع من شروط حياته الصعبة وعلاقاته الخاصة التي ساهمت في مواجهة إفرازات ونتائج العزل وعوامل القهر الاجتماعي والنفسي. وثالثها: أن الأسرى تعلموا كيف يطوعون واقع السجن وتحدياته؛ فعاشوا في السجن دون أن يعيش السجن فيهم، وأسسوا للانفتاح على مشكلات بعضهم بعضًا وانتصروا على قيم الانغلاق على الذات؛ خلافًا لما استهدفه السجان، وتعلموا كيف يقطعون الوقت دون أن يقطعهم ولجأوا إلى برمجة حياتهم داخل عزلهم واستثمار الوقت، في ممارسة الرياضة وأعمال التنظيف والطهي وإعداد الطعام وإدارة الحوارات الاجتماعية مهما كانت قصيرة، أو كان عنوانها سياسيًا أو فكريًا؛ رياضيًا أو ترفيهيًا، وأخيرًا بالقراءة والكتابة -بما منها تيسير لديهم- مجددين أفكارهم وقراءاتهم وإعداد الرسائل للأهل والأقارب.. وغير ذلك من النشاطات -على بساطتها وأهميتها- التي يمارسها الأسرى داخل السجن.
ومن الجدير ذكره، بأنه وبعكس ما تعمل إليه إدارة مصلحة السجون ومخابرات العدو؛ فإن مجموعة ممن عاشوا تجربة العزل كونت عضوية اجتماعية مفتوحة بعيدة عن الانغلاق، إما بفعل الوعي وإما الحاجة إلى إشباع الجوع الحسي الناتج من ظروف العزل؛ فالجميع يعرف الجميع، وأفراد أسرهم وقضاياهم الاجتماعية، على الرغم من أن العدو تعمد في حالة العزل الثنائي أن يضع يساريًا ومتدينًا أو عضوًا من حماس مع آخر من فتح في محاولة أو تقدير أن تؤدي خلافاتهم الفكرية والسياسية إلى تنغيص حياتهم الاجتماعية، لكن الانتماء إلى القضية والخندق الواحد لقهر السجان طوّع عناصر الخلاف وجعلها مادة لتعميق التفاعل الاجتماعي، وأصبحت المناكفات في كثير من الأحيان؛ مداعبات تساعد على كسر الوقت وقهره وتعزيز الترابط الاجتماعي، وقد وحدت تجربة العزل؛ الأسرى من المشارب الفكرية والسياسية والاجتماعية كافة، وصهرتهم في بوتقة أسرة واحدة على صعيد القسم الواحد وعلى امتداد أقسام العزل؛ فالعوامل الناشئة عن الوحدة ومعاناة القيد دخلت كعوامل مساندة في توحيد مشاعر الأسرى، ووسعت محيطهم الاجتماعي، وتوسعت شبكة التعارف لتشمل أُسر المعزولين خصوصًا عندما خصصت بعض المحطات الإذاعية؛ برنامجًا للتواصل الاجتماعي بين الأسير وأسرته.
والعامل الرابع الذي ساهم في صمود الأسرى المعزولين، هو الدور الذي لعبه المحامون أو كما يمكن أن يطلق عليهم بجدارة لقب (ملائكة الرحمة) الذين أو اللواتي كانوا أو كن من أهم أسباب انتصار إرادة المعزول على إرهاب السجان وجزءًا من أسرة المعزولين وعالمهم، فقد كانوا متطوعين لتقديم خدماتهم للوصل بين الأسير وذويه، بعيدًا عن أية حسابات شخصية أو فئوية، أو خشية البعض من التعرض لإجراءات عقابية من قبل جهاز الشاباك.
ومن العوامل المهمة أيضًا؛ كان تحرك الحركة الأسيرة الدائم لفتح ملف العزل الانفرادي في أي حوار مع ضباط مديرية مصلحة السجون، مرورًا بالوقفات التضامنية والإضرابات الجزئية وصولًا إلى الإضراب العام، وقد أكدت هذه المعارك الجزئية داخل جدران العزل أو السجون بشكل عام أن إرادة المظلوم؛ ستظل على الدوام أقوى من آلات القمع والبطش والقهر التي تتغذى من طبيعة وجوهر الاحتلال وأهدافه في القضاء على الإنسان الفلسطيني أو تحويله إلى فلسطيني جديد يقبل بوجود المُستعمِر ونهب أرضه، كما تحركها نفسية المُستعمِر المريضة والمشبعة بالحقد والعنصرية والإرهاب، لكن نستطيع القول، وبثقة وإيمان بعدالة قضيتنا وحق شعبنا في أرض وطنه، وكفاحه الوطني المستمر، بأن هذا الاحتلال وأدواته؛ باتت تعيش في عزلة تتسع يومًا بعد آخر؛ تحاصرها قوى السلم والتقدم والحرية على امتداد الكون، بما يؤشر بأن حلم المُستعبدِين بالتحرر الذي تشكل مع فجر ولادة مجتمع العبودية لم يكن طوباويًا أو تناقضًا مع سنّة الكون والطبيعة الإنسانية، بل إمكانية تاريخية آخذة بالتحول تدريجيًا إلى إمكانية واقعية.