تنطوى محاولات اقتحام الحدود الأردنية-الفلسطينية واللبنانية -الفلسطينية التي جرت الجمعة 2021-5-14 على تداعيات ثقيلة على الوعي الصهيوني، فهم يرتعبون من مجرد فكرة مثل هذا الزحف الملاييني، فربما لم تقلق الدولة والمؤسسة الصهيونية في تاريخها على وجودها ومستقبلها، بقدر ما قلقت وما تزال من مسيرات العودة الفلسطينية والعربية الملايينية عبر الحدود العربية مع فلسطين، فهي نقطة تحول استراتيجي مرعب في تاريخ الصراع من وجهة نظر صهيونية، بل إنها من شأنها أن تشكل تهديدًا وجوديًا حقيقيًا للدولة الصهيونية، إذا ما تواصلت وتكرست في الفكر والنهج والعمل، ومن شأنها أيضًا من وجهة نظر فلسطينية عربية استراتيجية أن تقود إلى تحرير فلسطين من بحرها إلى نهرها إذا ما اجتمعت الأمة والقوى المجاهدة المناضلة وراءها.
ففي المشهد المتبلور في ظل الانتفاضة الفلسطينية الراهنة، تجمع المؤسسة الصهيونية الاستخبارية الأمنية السياسية الإعلامية في إطار تقديراتها الاستراتيجية، على أن ما كان سائدًا قبل هذه الانتفاضة في خريطة الصراع لن يكون ما بعدها، وفي المشهد الفلسطيني تحديدًا، كانت مسيرات العودة التي انطلقت من الجبهات العربية باتجاه حدود فلسطين المحتلة عام 2015، هي الأبرز والأخطر في حساباتهم، وتتوقع التقديرات الصهيونية أن تتواصل هذه المسيرات ومحاولات اقتحام الحدود في المناسبات والسنوات الفلسطينية القادمة - من النكبة الى النكسة الى يوم التضامن مع الشعب الفلسطيني وغيرها والمناسبات الوطنية الفلسطيني كثيرة وآتية...!
زحف الملايين باتجاه فلسطين...؟
هم-في الكيان الصهيوني- لم يتوقعوا كل هذه التطورات والتداعيات الاستراتيجية المترتبة على هبة القدس والشيخ جراح وانتفاضة أهلنا في المناطق المحتلة عام 1948، وفتح جبهة غزة صاروخيا، لذلك نجدهم في حالة متفاقمة من إعادة الحسابات والتقديرات والاستراتيجيات، ونجدهم على نحو خاص، يتحدثون عن أبحاث ودراسات استراتيجية عاجلة تبحث في قضية واحدة: كيف ستواجه إسرائيل مستقبلًا زحفًا شعبيًا عربيًا ملايينيًا...؟
والمسألة هنا ليست إعلامية استهلاكية عابرة، وإنما هي بمنتهى الجدية والأهمية، وإن كانت مسيرات العودة التي انطلقت في الثلاثين من آذار الماضي/2012 بمناسبة يوم الأرض لم ترتقَ إلى المستوى المخطط والمنشود، بل إنها كانت تحت خط التوقعات الصهيونية، وكذلك محاولات الاقتحام الحدودية التي وقعت عام/2015 او التي وقعت الجمعة 2021-5-14 على الحدود الأردنية واللبنانية، فإن ذلك لا يعني شطبها عن جدول الأعمال الصهيوني، فالمؤسسة الصهيونية تتعامل مع هذه الظاهرة بقلق متفاقم، فعلى قدر تصاعدها مع الأيام والسنوات القادمة، على قدر ما يتزايد القلق الصهيوني منها ومن تداعياتها؛ الأمر الذي حذر منه حاخام يهودي قائلًا: "أيها اليهود.. أنتم تعلمون أن المنطقة حولنا تهتز بقوة، وإذا كان بفكركم أن الثورات بعيدة عنا، وسنبقى نتفرج من بعيد، فأنتم مخطئون، وليكن لكم فى العلم أنه إذا تغير الحكم وكان معاديًا فى العديد من الدول العربية فستكون مشكلة كبيرة للغاية"، مضيفًا خلال لقاء مع عدد من طلاب المدارس الدينية في تل أبيب والقدس: "من منكم يذكر عندما قلت لكم ماذا سنفعل إذا قررت الملايين أن تزحف إلى إسرائيل.. طبعًا من المعروف أن حوالي نصف مليار مسلم يعيشون حولنا فى المنطقة العربية، ورأيتم أن الجيش الإسرائيلى يعجز عن كبح أقل من نصف مليون.. فماذا سنفعل إذا؟!!"، محذرًا: "إن مظاهرة مليونية واحدة فى مصر بلغ عددها بالملايين، وقالوا خلالها إنهم يريدون الزحف إلى القدس مشيًا على الأقدام حتى يحرروها"، مختتمًا بقلق واضح: "ماذا إذا زحفت الملايين من الضفة الغربية وباقى الحدود وهم يرددون "الموت لإسرائيل.. الموت لليهود" و"للقدس رايحين شهداء بالملايين"؟
وهذا الرعب الصهيوني من الزحف الملاييني الفلسطيني العربي، الذي أطلقه هذا الحاخام اليهودي، يمتد إلى كل المؤسسات الصهيونية، التي تبث قلقًا حقيقيًا من احتمالية تطور وتواصل مسيرات العودة المليونية عبر الحدود المتاخمة لفلسطين المحتلة.
ويعود هذا القلق والرعب الصهيوني من مسيرات العودة، حسب وثيقة صهيونية هامة جدًا كشف المؤرخ الاسرائيلي توم سيغف النقاب عنها في –هآرتس- إلى عام/1965، فكتب تحت عنوان: "ماذا لو تحرك مئات آلاف اللاجئين بدون سلاح باتجاه الحدود؟"، مضيفًا: "في أعقاب إطلاق الصواريخ من قطاع غزة إلى سديروت، ترتفع الأصوات التي تطالب بمعاقبة سكان القطاع، وحتى إبعاد عدة آلاف منهم من المناطق الحدودية، إلا أن هناك بالطبع إمكانية مقلوبة، لم يقم أحد بفحصها، وتتمثل في تحرك مئات آلاف الفلسطينيين سيرًا على الأقدام باتجاه الحدود، ويقومون بـ"تحطيم السياج والمعابر والأسوار ويدخلون إلى إسرائيل في مظاهرة ضخمة لمواطنين غير مسلحين"، ويبدو أن هذا الاحتمال لم يأتِ من فراغ، فقد سبق وأن ناقش احتمالًا مماثلًا رئيس الحكومة الإسرائيلية في حينه، ليفي أشكول، قبل حرب 1967"، ويوضح سيغيف: "إنه قبل حرب 1967، بسنتين بالضبط، أبدى رئيس الحكومة ووزير الأمن في حينه، ليفي أشكول، تخوفًا من إمكانية حصول أمر كهذا، وقد جرى النقاش في جلسة الحكومة الأسبوعية مع قادة الأجهزة الأمنية، في الرابع من حزيران/ يونيو 1965"، ويردف: "افتتح أشكول الجلسة في حينه بالسؤال: "كم هو عدد اللاجئين؟ ماذا يأكلون؟ وما هو وضع الهجرة؟". وقال أشكول: "إنه يعتقد طوال الوقت بأن قضية اللاجئين هي"عقب أخيل" بالنسبة لإسرائيل"، وتساءل: "ماذا نفعل لو قاموا ذات يوم بدفع النساء والأطفال إلى الأمام؟"، وعندها رد عليه رئيس هيئة أركان الجيش في حينه، يتسحاك رابين: "إذا لم يقوموا بذلك حتى الآن، فهم لن يفعلوا ذلك.. وبعد قتل 100 منهم، فإنهم سيتراجعون"، ويبين سيغف: "أن أشكول لم يقتنع، وقال: "إنهم يتكاثرون بسرعة".
ولم يكذب الزمن تنبؤات أشكول، فالفلسطينيون يتكاثرون بسرعة، فقد أصبح عددهم اليوم نحو ثلاثة عشر مليونًا، بعد أن كانوا آنذاك عشية النكبة الفلسطينية نحو مليون منصف المليون، وأصبح عدد اللاجئين اليوم نحو ستة ملايين لاجىء، بعد أن كانوا غداة النكبة نحو ثمانمائة ألف لاجئ.
إحياء الذاكرة والعودة إلى البدايات
وما بين عهد أشكول في ذلك العام قبل ستة وخمسين عامًا، وعهد نتنياهو اليوم/2021، نتابع كيف يتحول هذا الكابوس –الزحف الملاييني- في ظل الثورات والانتفاضات الشعبية الفلسطينية والعربية إلى حقيقة على الأرض، والذي كان تخوف أشكول منه آنذاك يعود ليحتل المشهد السياسي الاستراتيجي الاسرائيلي اليوم، والذي حذر منه أشكول آنذاك، أخذوا يحذرون منه اليوم صراحة أمام وسائل الإعلام، وأخذ الاحتلال الصهيوني يخشى أن تتحول مسيرات العودة واجتياز الحدود إلى عمل مبرمج ومنهجي ومستمر... والذي راهنوا عليه آنذاك - يموت الكبار وينسى الصغار -.. لم يتحقق لهم، فأخذ عشرات الآلاف –وربما مئات الآلاف والملايين مستقبلًا- من الشباب يزحفون... وقرروا أن يواصلوا الزحف مستقبلًا، ليفتحوا بذلك ملفات الصراع كلها على مصراعيها وليعيدوا القضية الى بداياتها. فقد فتحت مسيرات العودة الفلسطينية التي انطلقت عبر الحدود عدة مرات، ملفات النكبة والصراع لتعيدنا إلى الوراء.. إلى ما قبل ثلاثة وسبعين عامًا... وإلى ما قبل أربعة وخمسين عامًا...! فًخذوا هم يتحدثون عن العودة إلى بدايات الصراع، وعن أن القضية المتفجرة دائمًا هي قضية اللاجئين، وأن لا حل سياسيًا أبدًا طالما لم يتنازل الفلسطينيون عن: حق العودة..! بل إن الجنرال في الاحتياط، شلومو غازيت، رئيس سابق للاستخبارات العسكرية وللوكالة اليهودية قال: "لقد بدأت حرب التحرير الفلسطينية، وتشكل المسيرات من أجل تحقيق حق العودة مرحلة جديدة في الصراع الفلسطيني ضد إسرائيل"، بينما رأى المحلل البارز ايتان هابر، في 'يديعوت احرونوت': "أنّ يوم الأحد، الخامس عشر من أيار دخل إلى التاريخ"، وعبّر هابر عن قلقه البالغ من "قيام الفلسطينيين والدول العربيّة باللجوء لأوّل مرّة في تاريخ الصراع بين الصهيونيّة والحركة الوطنيّة الفلسطينيّة لسلاح الكم، الذي سيتحول عاجلًا أم آجلًا إلى سلاح نوعيّ، ستستصعب الدولة العبريّة مجابهته"، مؤكدًا :"إنّ مسيرات العودة تعتبر وبحق بداية عهد جديد في الصراع بين اسرائيل والعرب".
أما المحلل جدعون ليفي فكان الأعمق في التعبير عن التداعيات الاستراتيجية لمسيرات العودة فكتب في هآرتس، تحت عنوان: "عودة إلى 1948" يقول: "لقد أُثيرت سنة 1948 في برنامج العمل اليومي، كان اختراق السور في الجولان كافيًا لاختراق سور معقد أقدم كثيرًا، فأعاد اختراقه عام 1948 إلى مركز النقاش السياسي، كنا ما نزال نثرثر ونتكلم حول 1967، لكن من لم يُرد 1967 يتلقى الآن 1947، ومن لم يُرد إخلاء أريئيل، سيضطر إلى الحديث الآن عن كرمئيل، ومن لم يُرد مصالحة تاريخية يتلقى الآن ملف 1948 على بابه"، بينما اعتبر الباحث الصهيوني روبين باركو: "أن الفلسطينيين بدأوا باعتماد استراتيجية جديدة أثبتت نجاحها في الدول العربية، تكمن في تحويل إسرائيل كلها إلى ميدان تحرير من خلال فكرة السلسلة البشرية"، في حين كتب أهارون برنيع في"يديعوت أحرونوت": "أن اللاجئين الفلسطينيين تحركوا باتجاه الحدود وهم يحملون أعلام فلسطين، ويطالبون بالعودة إلى بلداتهم التي هجر منها آباؤهم عام 1948، لقد خرجوا واثقين من أن المشروع الصهيوني سوف ينهار، وأن دفعة صغيرة سوف ستجعل من إسرائيل كلها فلسطين".
ثقافة العودة والتحرير
الواضح إذن في ضوء هذا الكم من التحليلات والتقديرات الاستراتيجية الصهيونية، أن الدولة والمؤسسات الصهيونية المختلفة تبث قلقًا حقيقيًا من مسيرات العودة إذا ما تصاعدت وتعززت وانتشرت عبر كافة الجبهات العربية، فهذا الذي حصل على الجبهات الحدودية لم يرد في تقديرات استخباراتهم، كما لم يرد في حسابات محلليهم وساستهم، فهم فوجئوا من هذا الزحف الشبابي الفلسطيني العربي من كافة الجبهات باتجاه الوطن المحتل، كما كانوا فوجئوا قبل ذلك من الثورات العربية التي زلزلت الاستراتيجيات الصهيونية وموازين الشرق الأوسط على نحو اعتبروه نقطة تحول في الشرق الأوسط.
وهم –أي في الكيان الصهيوني- إن كانوا أخذوا يعيدون حساباتهم للتعامل مع شرق أوسط جديد معزز بمحور المقاومة، فالمسيرات الجماهيرية باتجاه حدود فلسطين المحتلة قلبت حساباتهم التي بنوها على امتداد عقود كاملة من عمر النكبة والدولة الصهيونية، إذ بنوا سياساتهم دائمًا على مقولتهم المشهورة: "الكبار يموتون والصغار ينسون"، ليفاجئوا بأن هؤلاء الصغار ليس فقط لم ينسوا، وإنما هم الذين يقودون مسيرات العودة، ليعيدوا القضية والنكبة إلى بداياتها، وإلى بدايات الصراع، ففلسطين تعود إلى الذاكرة وإلى الوعي الجمعي العربي، وفلسطين تعود إلى مركزيتها التي كانت عليها إبان المد القومي العروبي، وفلسطين تعود اليوم وغدًا وبعده لتغدوا قضية العرب الأولى والمركزية، وفلسطين تعود قريبًا جدًا في ظل الثورات العربية الشعبية لتحتل مجددًا قمة الاستراتيجيات والاجندات السياسية العربية.
لقد غذت مسيرات العودة بزخمها وثقلها ثقافة العودة والتحرير، فبعد أن كنا على مدى العقود الماضية من الصراع، في ظل معادلة: "تشاوم العقل وتفاؤل الإرادة"، فقد بتنا في أعقاب المسيرات في ثنائية متماسكة من الآن فصاعدًا: "تفاؤل العقل والإرادة معًا".
فعمليات الترحيل الجماعي العربي القسري عبر سياسات التطهير العرقي من فلسطين إلى المحيط العربي، تتحول بعد ثلاثة وسبعين عامًا إلى مسيرات عودة تبشر بالتحرير والعودة الجماعية، لتعود البلاد التي قيل: "أنها أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" إلى أصحابها وأهلها وشعبها، ولتستقيم المعادلة مرة أخرى، بأن فلسطين أرض عامرة لشعب عريق في التاريخ والحضارة والتراث.