Menu

تحولات الموقف الإقليمي من القضية الفلسطينية في الذكرى 73 للنكبة

د. محمد السعيد إدريس

نُشر هذا المقال في العدد 26 من مجلة الهدف الإلكترونية

عندما قرر العدو الصهيوني أن يحتفل هذا العام بما يسميه "يوم القدس " الذى يصادف يوم العاشر من هذا الشهر كل عام، كان يعتقد أن الدنيا قد دانت له وأن مشروع "الدولة اليهودية" كما يكرسه "قانون القومية" الذى أصدره الكنيست "الإسرائيلى"، والذى هو، بالمناسبة، الأساس في مشروع "إسرائيل الكبرى"، قد أصبح في متناول اليد، وأن الاحتفالات بالعيد الثالث والسبعين لتأسيس كيان الاحتلال ستأتي بمذاق مختلف تماماً؛ فالعام الذى انقضى جاء حافلاً بتحولات دولية وإقليمية وعربية وفلسطينية غير مسبوقة؛ تعمل كلها في صالح الدفع سريعاً بمشروع "الدولة اليهودية" من النهر إلى البحر وعاصمتها القدس الموحدة، لذلك جاء الإصرار على تفريغ حي الشيخ جراح من أصحابه الفلسطينيين وجاء الإصرار على فرض خيار تهويد المسجد الأقصى باعتباره مجرد منشأة دينية تقع في قلب "العاصمة الإسرائيلية"؛ يحق للسلطات "الإسرائيلية" هدمه بقرارات سيادية وقتما شاءت خاصة أنه يقع، وفق أكاذيبهم مكان "جبل الهيكل"، حيث يجب أن يقام الهيكل المزعوم، الذى يجب أن يكون شعاراً لتلك الدولة اليهودية التي يعملون من أجل فرضها على أنقاض كل حقوق الشعب الفلسطيني وكل مشروعات التسوية.

فما حدث بالنسبة لحى الشيخ جراح؛ كان مجرد استكمال لمخطط "التطهير العرقي" الذى بدأ بنكبة 1948، والذى لم يتوقف تنفيذه منذ ذلك الحين، وهو بهذا المعنى، لا يمثل حركة شاذة في مسار عمليات الاستيطان؛ بقدر ما يعد تجسيداً لما يحدث في القدس منذ احتلالها عام 1967، وبالذات ما تعمدوا القيام به تزامناً مع محاولات تفريغ حي الشيخ جراح من مواطنيه.

كان يوم الاثنين العاشر من مايو/ أيار الموافق الثامن والعشرين من رمضان المبارك؛ ذروة التصعيد "الإسرائيلى"، عندما اقتحمت قوات الاحتلال "الإسرائيلية" المسجد الأقصى واشتبكت مع المصلين والمعتكفين لإخراجهم من ساحات الأقصى؛ استعداداً لاستقبال ما يسمونه بـ "مسيرة الأعلام" لغلاة المتطرفين؛ احتفالاً بما يعتبرونه "يوم القدس"، أي عيد ضم القدس واستردادها عقب نكسة 1967. هكذا كانوا يستعدون للاحتفال بعيدهم الثالث والسبعين لإقامة دولتهم في فلسطين، وكانوا على ثقة بأن الإدارة الأمريكية الجديدة للرئيس جو بايدن لن تتردد في دعم خيار "صفقة القرن" إذا أظهرت "إسرائيل" صموداً في الدفاع عنها، وإذا ما استطاعت "إسرائيل" عزل البيئة العربية عن القضية الفلسطينية، وتهميش مكانة هذه القضية على المستويين الشعبي والرسمي العربيين، مع العمل على محاصرة إيران عربياً وإقليمياً، باعتبارها مصدر التهديد للجميع، وجعل كل الأولوية للملف الإيراني بكل مكوناته النووية والسياسية على حساب أولوية القضية الفلسطينية، مع المراهنة على تآكل القدرة الفلسطينية على إظهار التحدي لمخطط الضم والتهويد للقدس والأقصى ومستعمرات الضفة الغربية في ظل سيطرة أولويات الصراع السياسي بين السلطة الفلسطينية والفصائل المنافسة ومؤشرات حدوث انقسامات في صفوف "حركة فتح"، على نحو ما كشفت أزمة الانتخابات التشريعية الفلسطينية الأخيرة. هكذا كانوا يجهزون لاحتفالات العيد الثالث والسبعين لقيام كيانهم: التوسع في التهويد والضم، وفرض مشروع "صفقة القرن" للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وكانت أحداث الشيخ جراح والمسجد الأقصى عناوين كاشفة لهذا الاحتفال. فقد أقدم قادة الكيان على محاولة وضع اليد على المسجد الأقصى والسيطرة على حي الشيخ جراح لوضع خارطة القدس ضمن مخرجات "صفقة القرن" موضع التنفيذ وإعلان الانتصار النهائي. هكذا كانوا يريدون، لكن صمود أهل القدس وبسالتهم ومواجهتهم لأعتى سلطة احتلال غاشمة مدعومة بميليشيات اليمين الفاشي المتطرف؛ حرك كل المياه الراكدة في كافة الجبهات والمستويات؛ دولياً وإقليمياً وعربياً، لكن الأهم فلسطينياً في كافة أنحاء الضفة الغربية وفى فلسطين المحتلة عام 1948 وفى قطاع غزة عندما قررت فصائل المقاومة أن تخوض بقوة السلاح معركة الدفاع عن القدس والأقصى، وهكذا انقلبت كل المعادلات بعد كل ما قامت به فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة ونجاحها في تحويل المعركة إلى عمق العدو، وتحميله خسائر هائلة مادية ومعنوية.

فعلى الرغم من التعتيم الإعلامي على الخسائر البشرية والمادية التي تعرض لها الكيان على مدار أيام المواجهة إلا أن بعض النتائج باتت معلومة ومؤكدة بعد تلك الحرب الدامية، وهو التعتيم الذى دفع رون بن يشاى إلى التشاؤم وقوله: "يبدو أننا سنعرف النتائج الحقيقية إن طالت صواريخ المقاومة أهم المرافق "الإسرائيلية" من مطارات وموانئ، خاصة مطار بن جوريون  بالقرب من تل أبيب وميناء أسدود الذى يدخل عبره 60 بالمائة من الواردات "الإسرائيلية" من الخارج، وتعرض المدينة لقصف صاروخي مركز باعتبارها من أهم المراكز الصناعية، ووصول القصف إلى منطقة "غوش دان" ضاحية تل أبيب وذات الكثافة السكانية العالية، والتي تعتبر أهم المراكز المالية والتجارية، وكانت محصلة المواجهة توقف محطة الغاز في البحر المتوسط بعد أن تعرضت للقصف، وهذا معناه خسائر يومية تقدر بـ 10 ملايين دولار، وتوقف أكثر من 50 شركة طيران، ووقوع خسائر كبيرة لمصنع الكيماويات، ووصول القصف إلى كافة المناطق "الإسرائيلية" شمالاً وجنوباً. هذه الخسائر المادية لا تقارن بالخسائر المعنوية التي ستعجل بيوم الحساب بين "الإسرائيليين" والطبقة السياسية الحاكمة، وخاصة تيار اليمين المتشدد والفاشي وعلى رأسه تكتل الليكود وحلفائه الذين دفعوا بالدولة "الإسرائيلية" نحو "خيارات انتحارية"، بإصرارهم على التمادي في مخطط الضم والتهويد للقدس والأقصى والضفة الغربية، فهذه الحرب الدائرة مع المقاومة في قطاع غزة كانت مفعمة بالمفاجآت ليس فقط في الأسلحة، بل وأيضاً بالمعاني؛ فإذا كان "الإسرائيليون" قد فوجئوا ببنك الأهداف الفلسطيني ونوعيته وأنواع الصواريخ وأحجامها ومداياتها، فإنهم صدموا بأنهم اضطروا لخوض الحرب على أرضهم، وتعريض الجبهة الداخلية لمخاطر غير مسبوقة. فكل حروب "إسرائيل" السابقة كانت خارج الأراضي "الإسرائيلية"، هذه هي المرة الأولى التي تحدث فيها الحرب على الأرض "الإسرائيلية". إذا أضفنا إلى ذلك ما أدت إليه هذه الحرب؛ من تحريك الفلسطينيين المقيمين داخل فلسطين المحتلة عام 1948 للانخراط في حراك شعبي واسع دفاعاً عن القدس، ودفع الفلسطينيون في الضفة الغربية لتجاوز كل قيود أوسلو بما فيه التنسيق الأمني، والاندفاع في هبات قد تؤول إلى تفجير انتفاضة شعبية جديدة؛ تعم كل فلسطين من الضفة والقدس إلى الداخل الإسرائيلي إلى قطاع غزة، فإن الثمن الذى ستجد "إسرائيل" نفسها مضطرة لدفعه سيكون هائلاً، وأن هذه الأثمان سوف تتجاوز حتماً تلك المفاهيم المغلوطة والكاذبة التي حاول بنيامين نتنياهو وتيار اليمين الحاكم تكريسها كمعالم لمعالم "معادلة أمنية آمنة"؛ تقوم على قاعدة "الأمن دون حاجة إلى تقديم تنازلات للفلسطينيين"، وسوف تمتد إلى كل من البيئة الدولية، وكذلك البيئة الإقليمية ومن ضمنها البيئة العربية. فقد أظهرت الأيام المحدودة التي لم تتجاوز الأسبوعين للمواجهة بين المقاومة وكيان الاحتلال مؤشرات لتحولات مهمة في الموقف الدولي، وفى الموقف الإقليمي والموقف العربي مغاير كثيراً لما كان عليه قبل تفجر هذه المواجهة التي يمكن أن تؤسس كما أشرنا إلى انتفاضة فلسطينية ثالثة؛ قادرة على إسقاط أوسلو ومسار التسوية الزائف واستعادة خيار "الوطن الفلسطيني" كهدف لا تراجع عنه.

وعلى نحو ما أدت أو ساهمت كل من البيئة الدولية والإقليمية والعربية إلى إغراء كيان الاحتلال على التمادي في عدوانيته والاندفاع نحو فرض خيار "الدولة اليهودية" على كل أرض فلسطين التاريخية كوطن لليهود دون غيرهم، فإن التحولات الجديدة ستكون حتماً في صالح إسقاط كل معادلات التسوية الزائفة والعودة مجدداً إلى فرض مقررات الشرعية الدولية وإقامة ليس فقط الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، بل وفرض حلول تحقق وحدة الشعب الفلسطيني في مناطقه الأربعة: داخل الأراضي المحتلة عام 1948 مع الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة والشعب الفلسطيني اللاجئ في كافة أنحاء المعمورة، وتمكين هؤلاء من العودة إلى وطنهم كمواطنين كاملي السيادة.

لم تكن البيئة الإقليمية- العربية بالذات؛ مواتية لمثل هذا النوع من المطالب والأهداف قبل تفجر الحرب من أجل القدس والأقصى الأخيرة؛ فعلى المستوى الإقليمي كانت القوتين الإقليميتين المتنافستين للكيان الصهيوني: إيران وتركيا في صراع على النفوذ في كل من العراق وسوريا، وأيضاً في لبنان؛ ناهيك عن مناطق أخرى مثل شرق أفريقيا. كما كانت هاتان القوتان في مواجهة مع معظم الدول العربية؛ دخلت تركيا في خلاف شديد مع مصر والسعودية والإمارات، باحتضانها مع قطر لجماعة الإخوان المسلمين؛ الأمر الذى فاقم من التباعد بين إيران وعدد غير قليل من الدول العربية، خاصة في الخليج عندما انحازت تركيا إلى قطر في خلافها مع الدول العربية: السعودية والإمارات والبحرين ومصر، وعندما أقامت لنفسها قاعدة عسكرية كبيرة في قطر في مواجهة دول الخليج وإيران.

أما إيران؛ فكانت قد تحولت إلى "عدو" وإلى "مصدر أعلى للتهديد"؛ من منظور بعض الدول الخليجية التي اختارت أن تتحالف مع الكيان الصهيوني وتسعى للتأسيس إلى "حلف أمني" في مواجهة الخطر الإيراني ودفعت ثمناً لذلك موجة غير مسبوقة من التطبيع مع الكيان الصهيوني. وهكذا حلّ الخطر الإيراني محل الخطر "الإسرائيلي"؛ الأمر الذى فاقم من عدوانية كيان الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني.

أما على المستوى العربي، فقد انشغل جزءاً كبيراً من الدول العربية في أزماته الداخلية الساخنة بعد انتكاسة الربيع العربي، وابتعدت هذه الدول عن هموم القضية الفلسطينية ومتطلباتها، في حين اختارت دولاً عربية، كما أشرنا، التحالف مع الكيان الصهيوني؛ تحت مزاعم مواجهة الخطر الإيراني، وهكذا كانت البيئة الإقليمية والعربية محفزة لكيان الاحتلال كي يتمادى في عدوانيته.

الآن، وفى ظل كل ما تشهده "عموم أرض فلسطين" من تحولات شديدة الأهمية؛ يمكننا أن نتوقع تحولات عربية وإقليمية داعمة للنهوض الفلسطيني الجديد؛ تركيا التي كانت قد أخذت تقترب مؤخراً من كيان الاحتلال؛ أخذت تراجع نفسها، أما إيران فهي سعيدة بجدية خياراتها في دعم صمود الشعب الفلسطيني ودعم "خيار المقاومة"، والدول العربية المترددة في إعلان انحيازها لمطالب الشعب الفلسطيني وحقوقه؛ ستجد نفسها عاجزة أمام شعوبها عن مواجهة خيارات التحول. فالحركة الشعبية العربية آخذة في الدخول إلى "مرحلة صحوة" جديدة واستعادة البوصلة التائهة والعودة إلى خيار "فلسطين أولاً" في حين أن مسار التطبيع الخليجي مع كيان الاحتلال سيواجه حتماً انتكاسات حقيقية، وسلام ما اعتبروه؛ "سلاماً إبراهيمياً" معرض للتداعي أمام هذا النهوض الفلسطيني الذى تحول إلى محرك قوي لحركة التفاعلات الجديدة؛ إقليمياً وعربياً.